العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
والصلاة أعظم ميدان للقنوت لله تعالى وأبينه وأوضحه؛ لأنَّ فيها من الخضوع لله تعالى في أفعالها وأقوالها ما ليس في غيرها من العبادات، وفيها إمساكٌ عن كلِّ الشهَوات، وفيها انتصاب لله تعالى، فيُمنع فيها الأكْل والشرْب، والنَّوْم والمَشْي والكلام، والالتفات والحركة، وليس في الإسلام عبادة يُمنَع فيها كل هذا إلا الصلاة؛ ما يدلُّ على حقيقة كونها قنوتًا لله تعالى...
الحمد لله الولي الحميد؛ أسبغ علينا نعمَه ظاهرة وباطنة، وهدانا لدينه، وما كنَّا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، نحمدُه على نعمِه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ لا يستحق العبادة سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كَرِه الكافرون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ بشَّرَنا وأنْذَرَنا، ورغَّبنا ورهبنا، وتَرَكَنا على بيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتْباعه إلى يوم الدِّين.
أما بعد: فاتَّقوا الله ربكم، وأسلموا له قلوبكم، وأقيموا له صلاتكم، وأخلصوا له في أعمالكم؛ فإنَّ الجزاء على دينه عظيمٌ، وإنَّ العذاب على ترْكه شديد: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [الحج:50-51].
أيها الناس: خَلَق الله تعالى الخلْق ودبرهم، وأحياهم وأماتهم، فلم يكنْ لهم اختيار في خلْقهم، ولا خيار لهم في مَوْتهم وبعثهم وحسابهم، بل كل ذلك بأمْر الله تعالى وقهْره؛ ولكنَّه سبحانه بيَّن لعبادِه دينَه، وأوضح لهم شريعته، وهداهم صراطه المستقيم، فمَن قَبِل عن الله تعالى هدايته كان منَ السُّعَداء المنعَّمين، ومَن ردَّها كان من الأشقياء المعذَّبين.
لقد خضعتْ كلُّ الموجودات لأمر الله تعالى وحكمه، ولا يستطيع أحدٌ الخروج عن ذلك كائنًا مَن كان: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [الروم: 26]، وهذا هو القُنُوت القهري للأمر القدري الربَّاني، فلا يخرج عنه مؤمن ولا كافر، بل الكلُّ لله تعالى قانتون.
ولكن أهلَ الإيمان لَمَّا عرفوا ذلك أذْعنوا لله تعالى وانْقادوا، واستَسْلَموا لأمْرِه الشرْعي، ورضوا به دينًا يدينون به، وشريعةً يعمَلون بها؛ فكانوا هم أهلَ القنوت والطاعة، فامْتَدَحَهُم الله تعالى بذلك؛ (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) [آل عمران: 17]، وفي آية الأحزاب قال سبحانه: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ) [الأحزاب: 35]، ثم ذكر جملة من صفاتهم، ثُمَّ بيَّن سبحانه: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].
والعبادات التي يقوم بها المسلم لله تعالى -سواء أكانت فعلاً لمأمور أم اجتنابًا لمحْظور- هي من دلائل قنوت العبد لربِّه سبحانه؛ لأنَّ الطاعة من معاني القنوت، وكلما كان العبدُ أكثر طاعة لله تعالى، وخضوعًا لأمره، كان أكثر قنوتًا لربه -جل وعلا-.
والصلاة أعظم ميدان للقنوت لله تعالى وأبينه وأوضحه؛ لأنَّ فيها من الخضوع لله تعالى في أفعالها وأقوالها ما ليس في غيرها من العبادات، وفيها إمساكٌ عن كلِّ الشهَوات، وفيها انتصاب لله تعالى، فيُمنع فيها الأكْل والشرْب، والنَّوْم والمَشْي والكلام، والالتفات والحركة، وليس في الإسلام عبادة يُمنَع فيها كل هذا إلا الصلاة؛ ما يدلُّ على حقيقة كونها قنوتًا لله تعالى، ويشير إلى فخامتها ومنزلتها عند الرَّبِّ -جل جلاله-.
والوقوف في الصلاة بين يدي الله تعالى يسمى قنوتًا؛ لأن هيئة المصلي -وهو واقف لا يتحرك، وثابت لا يتزحزح، ورامٍ ببصره في موضع سجوده لا يرفعه ولا يتلفَّت- هي أدلُّ هيئة على القنوت، وبهذه الهيئة العظيمة أَمر الله تعالى المصلِّين في كتابه الكريم: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ) [البقرة: 238].
قال مجاهد -رحمه الله تعالى-: "فمنَ القنوت الركودُ والخشوع، وغضُّ البصر، وخفْض الجناح من رهبة الله -عز وجل- كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدِّث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيًا، ما دام في صلاته".
وروى زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: "كنَّا نتكلَّم في الصلاة يُكَلِّم الرجلُ صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلتْ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)، فأُمِرْنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام". متَّفق عليه.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كنا نسلِّم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصَّلاة، فيرُد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشيِّ، سلمنا عليه، فلم يَرُدَّ علينا، فقلنا: يا رسول الله: كنا نُسَلِّمُ عليك في الصَّلاة، فَتَرُد علينا، فقال: "إنَّ في الصَّلاة شُغلاً". متفق عليه. وفي رواية: أنَّ النبي قال: "إِنَّ الله يُحْدِثُ مِن أَمْرِهِ ما يَشَاء، وإنَّ ممَّا أَحْدَثَ أن لا تَكَلَّمُوا في الصَّلاة".
ولما تَكَلَّم معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- في الصلاة، وانتهره الصحابة -رضي الله عنهم- قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هذه الصَّلاة لا يَصْلُحُ فيها شَيْءٌ من كلام الناس، إنما هو التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ". رواه مسلم.
إن القنوتَ هيئةُ ذُلٍّ وخشوع، لا يستشعرها كثير من الناس، ولا يدركون معانيها العظيمة، ولم كانت هكذا؟!
إن الواقف في صلاته يقف لله تعالى، فوقوفه قنوت، ولهذا القنوت هيئةٌ، أُمِر المصلِّي بها لتعينه على قنوت قلْبه مع قنوت جسده، فيضع يده اليُمنى على يده اليسرى على صدره، وتلك الهيئة أُمِر بها النبيون -عليهم السلام- في صلاتهم؛ كما روى ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنا -معشر الأنبياء- أُمرنا أن نؤخر سحورنا، ونعجل فطرنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا". صحَّحه ابن حبان.
وأُمرنا -نحن أمةَ محمد، صلى الله عليه وسلم- بهذه الهيئة في صلاتنا، كما أُمِر بها النبيون -عليهم السلام- من قبلنا، قال سهل بن سعد -رضي الله عنه-: "كان الناس يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ اليَدَ اليُمْنَى على ذِرَاعِهِ اليُسْرَى في الصَّلاة". رواه البخاري.
ورَفْعُ البصر إلى السماء يُنافِي الذُّل والخضوع والقنوت؛ ولذلك كان أتباع الملوك والرؤساء والكبراء يخفضون أبصارهم عندهم ولا يرفعونها، فالله تعالى أَوْلَى وأحق أن يخضع العباد له ويقنتوا ويذلوا، فنُهِيَ المصلِّي عن رفْع بصره إلى السماء؛ كما في حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في صَلاتِهِمْ؟!"، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ في ذلك حتى قال: "لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك، أو لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ". رواه البخاري.
وفي حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في الصَّلاة، أو لا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ". رواه مسلم.
ونُهيَ المصلِّي عن الالتفات؛ لأنه يُنافي كمال القنوت لله تعالى؛ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ الله عن الالتفات في الصَّلاة فقال: "هو اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العَبْدِ". رواه البخاري.
وخطب يحيى بن زكريا -عليهما السلام- في بني إسرائيل فقال: "وَإِنَّ الله أَمَرَكُمْ بِالصَّلاة، فإذا صَلَّيْتُمْ فلا تَلْتَفِتُوا؛ فإن الله ينصب وَجْهَهُ لِوَجْهِ عبده في صلاته ما لم يَلْتَفِت". صححه الترمذي، وابن خُزَيْمة، والحاكم.
وقال الحسن -رحمه الله تعالى-: "إياك والالتفاتَ في الصلاة، الله ينظر إليك وتنظر إلى غيره؟!".
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "الالتِفات المنهِي عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التِفات القلب عن الله -عز وجل- إلى غير الله تعالى. الثاني: التفات البَصَر. وكلاهما منهِي عنه، ولا يزال الله مُقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفتَ بقَلْبه أو بصره، أَعْرَض الله تعالى عنه".
ورغم أنَّ الركوعَ والسجود فيهما منَ الانحناء والتعظيم لله تعالى ما لا يخفَى؛ فإن في هيئة الوقوف الواردة من الذل والتعظيم لله تعالى ما لا يقصر عن الركوع والسجود، وإلا لما كانت هيئةً مخصوصةً بالصلاة لها أحكامها ومحظوراتها، ثم إن هذا الوقوف بين يدي الله تعالى قد فُضِّل على سائر أركان الصلاة بأشرف الكلام وأفضله، فكان الوقوف محل قراءة القرآن دون غيره من الأركان؛ ولذا كان تطويله أفضل أنواع الصلاة؛ كما في حديث جابر -رضي الله عنه- قال: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الصَّلاة أفضل؟! قال: "طول القنوت". رواه مسلم.
وهذا الوُقُوف في الصلاة بذل وقنوت لله تعالى هو المهيِّئُ لذلِّ الانْحِناء في الركوع، والهوي إلى الأرض في السجود، وتمريغ الجبين والأنف في الأرض ذُلاًّ لله تعالى، وتعظيمًا ومحبة ورجاءً وخوفًا، فهنيئًا لعبْدٍ قَنَتَ قلبُه مع قنوت جَسَده لله تعالى، فأقبل بكُلِيَّتِه على صلاته، فذاك الذي يجد لذة الصلاة، وذاك الذي تنْهاه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مبارَكًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحْده لا شريك له، وأشْهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداهم إلى يوْم الدِّين.
أما بعد:
فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة: 123].
أيها المسلمون: الوقوف تعظيمًا وذُلاًّ يجب أن لا يُصرف إلا لله تعالى؛ لأنه رُكْن من أركان الصلاة؛ ولأنَّ النَّهْي صريحٌ في تعْظيم غير الله تعالى بالوُقُوف له أو عليه؛ كما في حديث جابر -رضي الله عنه- قال: اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلينا وراءه وهو قَاعِدٌ، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفتَ إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلَّينا بصلاته قعودًا، فلمَّا سَلَّمَ، قال: "إن كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِس والرُّوم، يَقُومُونَ على مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فلا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ؛ إنْ صلى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صلى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا". رواه مسلم.
وقال أَنَس -رضي الله عنه-: "ما كان شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وَكَانُوا إذا رَأَوْهُ لم يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ من كَرَاهِيَتِه لذلك". رواه الترمذي وصححه.
وعن أبي مِجْلَز -رحمه الله تعالى- قال: "خرج معاوية، فقاموا له، فقال: سمعتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن سَرَّهُ أن يمثل له الرِّجَالُ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مقْعَدهُ مِنَ النَّارِ". رواه أحمد.
ومَن قنت في صلاته حق القنوت، وعظَّم الله تعالى كما ينبغي له أن يُعظَّم، لَم يُعظِّم أحدًا من البشر كائنًا من كان، ولا يقوم له أو عليه تعظيمًا له، أو خوفًا منه، وَلَمَّا حَجَّ المهديُّ العباسي، دخل المسجد النبوي، فلَم يبقَ أحدٌ إلا قام، إلا ابن أبي ذئب، فقال له المسَيَّبُ بن زُهَيْرٍ: "قُمْ؛ هذا أَمِيرُ المؤمنين"، فقال ابنُ أبي ذِئْبٍ -رحمه الله تعالى-: "إنما يَقُومُ الناس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"، فقال المهدي: "دَعْهُ، فَلَقَدْ قَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ في رَأْسِي".
لقد كان للسلف الصالح شأنٌ عظيم مع القنوت في الصلاة، قدوتهم في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يطيل القيام حتى تتفطر قدماه؛ قال سعد بن معاذ -رضي الله عنه-: "ما كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها".
وقال أحمد بن سنان الواسطي: "رأيت وكيعًا إذا قام في الصلاة ليس يتحرَّك منه شيء، لا يزول ولا يميل على رِجْلٍ دون الأخرى، لا يتحرَّك كأنه صخرة قائمة".
ولما توفِّي منصور بن المعتمر -رحمه الله تعالى- قالت ابنة لجاره: "يا أبت: أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟! قال: يا بنية: ذاك منصور كان يقوم الليل". قال سفيان الثوري -رحمه الله تعالى-: "لو رأيتُ منصورًا يصلِّي، لقُلت: يموت الساعة".
ولما مرض أبو إسحاق السَّبِيعي قال: "ذهبت الصلاةُ مني وضعفتُ، وإنِّي لأصلِّي فما أقرأ وأنا قائم إلا بالبقرة وآل عمران". قال العلاء العبدي: "ضَعُفَ أبو إسحاق قبل موته بسنتين، فما كان يقدر أن يقومَ حتى يقام، فكان إذا استتم قائمًا قرأ وهو قائم ألف آية".
رحمة الله تعالى على سلفنا الصالح، ما أكبر هممهم! وما أعظم فهمهم! وما أمضى عزائمهم! وما أقوى صبرهم في طاعة ربهم -جل وعلا-!
إنَّ أولئك القوم وجدوا لذَّةً في القنوت لله تعالى، فقنتت قلوبهم وأجسادهم تعظيمًا لله تعالى، ومحبة وخوفًا ورجاءً، تذكروا طول الوقوف يوم القيامة بين يدي الله تعالى، فهان عليهم طول وقوفهم في صلاتهم، ولم يجدوا مشقَّة في ذلك، جاء عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-: "أنه قرأ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) حتى بلغ: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِين)، فبكى حتى خرَّ وامتنع من قراءة ما بعدها".
ووقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: "يا ابن رسول الله: النارَ النارَ، فما رفع رأسه حتى أُطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ فقال: ألهتني عنها النار الأخرى".
اللهم ارحم ضعفنا وعجزنا، وأصلح ما فسد من قلوبنا وأعمالنا، واجْعَلْنا من القانتين.
وصلوا وسلموا على نبيكم...