المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
إنَّ مزالق اللسان كثيرة جدًّا، ولكن نَمُر على مزلق خطر تستأنس به النفس ويجري الشيطان بالعبد في واديه، وهو لا يشعر بهدم حسناته، وتكدُّس السيئات في صحائفه، إنه مرض الغيبة الذي قلَّ من الناس مَن عافاه الله من هذا الداء العضال، فقد وقع فيه الكبير والصغير والوجيه والحقير، والعالم والجاهل، والرجل والمرأة.
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيِكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَو مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70 – 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أما بعد فيا أيها المؤمنون: لقد وهب الله الإنسان نعمًا عظيمة، لا يدان للعبد في شكرها، ومتى كفرت انقلبت على العبد نقمة، وذلك كأن يستخدمها في غير طاعة الله، ومن ذلك اللسان؛ فقد قال الله ممتنًّا على الإنسان: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)[البلد:8-9]، فهذا اللسان تكسب به جبال الحسنات إن أنت أحسنت التصرف به، وكان على ميزان الشرع يسير، بل يكون طريقًا إلى الجنة كما أخرج البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن يضمن لي ما بين لَحْيَيه وما بين رجليه أضمن له الجنة".
قال ابن حجر: "الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية.. فالمعنى: مَن أدَّى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه".
وقال الداودي: "المراد بما بين اللَّحْيَيْن: الفم، قال: فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل".
قال ابن بطال: "دَلَّ الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وُقِيَ شرهما وُقِيَ أعظم الشر".
عباد الله: إنَّ مزالق اللسان كثيرة جدًّا، ولكن نَمُر على مزلق خطر تستأنس به النفس ويجري الشيطان بالعبد في واديه، وهو لا يشعر بهدم حسناته، وتكدُّس السيئات في صحائفه، إنه مرض الغيبة الذي قلَّ من الناس مَن عافاه الله من هذا الداء العضال، فقد وقع فيه الكبير و الصغير والوجيه والحقير، والعالم والجاهل، والرجل والمرأة.
معاشر المسلمين: قد عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- الغيبة كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أتدرون ما الغيبة؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذِكْرك أخاك بما يكره".
ولم يرد في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- تقييده بغيبة المذكور، لكنه مُستفاد من المعني اللغوي للكلمة.
قال النووي: "الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره"؛ وبهذا نعلم أن الحديث في الآخرين بما يكرهون على ثلاثة أقسام؛ الغيبة ومضى تعريفها، والبهتان، والإفك. وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- الفرق بين الغيبة والبهتان، ففي صحيح مسلم: "قيل: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته؛ وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
وأخرج صاحب الحلية من حديث عبد الله بن عمرو أنهم ذكروا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم، ولا يَرحل حتى يُرحل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اغتبتموه"، فقالوا: يا رسول الله! إنما حدثنا بما فيه. قال: "حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه".
والبهتان إنما يكون في الباطل كما قال الله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[النساء:58]؛ والبهتان قد يكون في حال الغَيبة، وقد يكون حضوراً، قال النووي: "وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه".
وأما الإفك فهو نقلك للكلام الذي قيل في أخيك وأنت تعلم أنه كذب.
معاشر المسلمين: لنخصص الحديث عن الغيبة فحكمها حرام بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك النووي، وقد نقل القرطبي الاتفاق على كونها من الكبائر لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة.
ومن الأدلة في ذلك قوله -تعالى-: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات:12]؛ قال ابن عباس: "حرَّم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة".
عباد الله: من تأمل هذه الآية علم أن الغيبة من أبغض الأعمال عند الله -تعالى- فانظر كيف شبّه المغتاب بمن يأكل لحمًا، وليس أيّ لحم؛ إنه لحم إنسان، وليس أي إنسان، بل إنه مسلم، وليس أي مسلم، بل أخوك من أمك وأبيك، ومع هذا تأكله وأنت كاره لأكله، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
قال ابن المنذر: "قد حرم النبي الغيبة، في حجة الوداع، وقرن تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال ثم زاد تحريم ذلك تأكيداً بإعلامه بأن تحريم ذلك كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام".
قال النووي في شرحه على مسلم: "المراد بذلك كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض، والتحذير من ذلك".
أيها المؤمنون: إن للغيبة صورًا متنوعة قد يقع المسلم فيها وهو لا يشعر؛ فمن ذلك قول النووي في الأذكار حيث قال: "ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز".
ومن الصور التي تُعَدّ أيضاً في الغيبة قال النووي: "ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة".
ومن صور الغيبة ما قد يخرج من المرء على صورة التعجب أو الاغتمام أو إنكار المنكر قال ابن تيمية: "ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يعمل كيت وكيت.. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له وما تم له".
ومن عظائم الغيبة: غيبة التعميم، كالذي يغتاب بلدًا بأكمله أو جماعة بأكملها أو قبيلة بأسرها، وذلك بوصفهم بوصف قد يكون غلب عليهم عند الناس، بغض النظر عن صحته، فهو غيبة إن كان حقًّا أو بهتان عظيم.
عباد الله: ما أحسن أن يُعوّد الإنسان نفسه ألّا يذكر إخوانه إلا بخير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين..
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله وراقبوه، واعلموا أنكم موقوفون بين يديه وسيسألكم عن كل ما عملتموه، فأعِدُّوا للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا.
معاشر المسلمين: إن للغيبة بواعث في نفس العبد متى ما تخلص منها سهل عليه ترك الغيبة ومنها:
- ضعف الورع والإيمان، فهما يجعلان المرء يستطيل في أعراض الناس من غير روية ولا تفكر في الوعيد لذلك.
ومنها موافقة الأقران والجلساء ومجاملتهم؛ قال الله على لسان أهل النار: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ)[المدثر:45].
ومنها: الحنق على المسلمين وحسدهم والغيظ منهم.
ومنها: حب الدنيا والحرص على السؤدد فيها، قال الفضيل بن عياض: "ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغي وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير".
ومنها: الهزل والمزاح؛ قال ابن عبد البر: "وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض.
أيها المسلمون: لقد حذر السلف من الغيبة وتكاثرت نصوصهم في ذلك؛ فقد كان عمرو بن العاص يسير مع أصحابه فمرَّ على بغل ميت قد انتفخ، فقال: "والله لئن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ بطنه خير من أن يأكل لحم مسلم".
وعن عدي بن حاتم: "الغيبة مرعى اللئام".
وعن كعب الأحبار: "الغيبة تحبط العمل".
ويقول الحسن البصري: "والله للغيبة أسرع في دين المسلم من الآكلة في جسد ابن آدم".
وقال سفيان بن عيينة: "الغيبة أشد من الدَّيْن، الدَّيْن يُقْضَى، والغيبة لا تُقْضَى".
وقال سفيان الثوري: "إياك والغيبة، إياك والوقوع في الناس فيهلك دينك".
وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب فقال: "إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس".
وقال أبو عاصم النبيل: "لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة، لا دين لهم".
قال الفضل بن عياض: "أشد الورع في اللسان"، وروي مثله عن ابن المبارك.
قال الفقيه السمرقندي: "الورع الخالص أن يكفّ بصره عن الحرام، ويكف لسانه عن الكذب والغيبة، ويكف جميع أعضائه وجوارحه عن الحرام".
معاشر المسلمين: من أراد أن يتخلص من الغيبة فعليه أن يسعى جادًّا في ذلك مخلصًا لله -تعالى-، وأن يعمل بهذه النصائح: تقوى الله -عز وجل- والاستحياء منه؛ ويحصل هذا بسماع وقراءة آيات الوعيد والوعد، وما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحاديث تحذر من الغيبة ومن كل معصية وشر.
ومنها: تذكّر مقدار الخسارة التي يخسرها المسلم من حسناته ويهديها لمن اغتابهم من أعدائه وسواهم. أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس؟"؛ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتهم أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
وروي أن الحسن قيل له: إن فلاناً اغتابك، فبعث إليه الحسن رُطَباً على طبق وقال: "بلغني أنك أهديت إليَّ من حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام".
ومنها: أن يتذكر عيوبه، وينشغل بها عن عيوب نفسه، وأن يحذر من أن يبتليه الله بما يعيب به إخوانه.
قال الإمام مالك بن أنس: "أدركت بهذه البلدة –المدينة- أقواماً لم يكن لهم عيوب، فعابوا الناس، فصارت لهم عيوب، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس، فنُسِيَتْ عيوبهم".
قال الحسن البصري: "كنا نتحدث أن مَن عيَّر أخاه بذنبٍ قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله -عز وجل- به".
قال أبو هريرة: "يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه".
ومنها مجالسة الصالحين ومفارقة مجالس البطالين؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك، إما أن تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة".
قال النووي في فوائد الحديث: "فيه فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس أو يكثر فجوره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة".
ومنها: قراءة سِيَر الصالحين، والنظر في سلوكهم، وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم، قال أبو عاصم النبيل: "ما اغتبتُ مسلماً منذ علمت أن الله حرم الغيبة".
قال الفضيل بن عياض: "كان بعض أصحابنا نحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة"؛ أي: لقِلّته.
وقال محمد بن المنكدر: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت".
ومنها أن يعاقب نفسه ويشارطها حتى تقلع عن الغيبة. قال حرملة: "سمعت عبد الله بن وهب يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم. فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أني أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة".
قال الذهبي: "هكذا والله كان العلماء، وهذا هو ثمرة العلم النافع".
معاشر المسلمين: قد يسأل البعض فما المخرج فيمن وقعنا فيه بغيبة ونحوها، فأقول قد قال أهل العلم: إن التوبة من ذلك التحلل منه إن أمكن ذلك أو الاستغفار له والثناء عليه في الموضع الذي اغتبته فيه.
اللهم ارزقنا العفة والعفاف، ومن علينا بحفظ فروجنا وألسنتنا، اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك.