المحيط
كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن سعد قهبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ليس للمسلم أن يختار أسهل الأقوال؛ لأنه بهذه الطريقة يتنصَّل من التكاليف الشرعية أو جُلِّها، بل على الشخص أن يختار من أقوال العلماء أرجحها من حيث الدليل إن كان أهلاً للنظر والموازنة، وإن لم يكن فعليه أن يُقلِّد أوثق العلماء في نفسه علمًا ودينًا وورعًا؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
عباد الله: إن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله، وهذا من نوع الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هـواه؛ قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص:50]، والمرء يلام على اتباع الهوى.
أما إذا دافع الإنسان هواه فإنه يؤجر على ذلك إن شاء الله؛ قال تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26]، وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص:50]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا. وثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
فكل من خالف أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم ذلك؛ فقد اتبع هواه، وضل عن سبيل الله؛ قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص:50]، وبقدر معصية العبد وإعراضه واتباعه لهواه يناله الذل، والخزي في الدنيا، ويناله العذاب يَوْمَ القِيَامَةِ، وهذه سنة الله التي لا تتخلف ولا تتبدل؛ قال تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم:23].
وتوعد سبحانه من خالف أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالعقوبة العاجلة والآجلة، فقال تعالى: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]؛ قال ابن كثير –رحمه الله-: "أي: فليحذر وليخش من خالف الرسول باطنًا وظاهرًا (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ)، أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو حد أو حبس أو نحو ذلك".
قال شيخ الإسلام: "ومجرد الحب والبغض هو هوى، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله؛ ولهذا قال الله لنبيه داود: (وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26].
قال عمر بن عبد العزيز: "لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذًا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق، وتعاقب على ما خالفته من الحق".
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره، فأَرَتْهُ نفسُه الحسنَ في صورة القبيح، والقبيحَ في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل؛ فأنّى له الانتفاع بالتذكر أو بالتفكر أو بالعظة؟!".
ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "والإنسان خُلق ظلومًا جهولاً، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر، وقد جاء ذم اتباع الهوى في القرآن الكريم العظيم في آيات كثيرة، بل ووصف الله أهل تلك الصفة بأسوأ الأوصاف؛ فقال -عز وجل- فيمن اتبع هواه: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23]؛ لأنه في كل شيء لا يرجع إلى القرآن ولا إلى السنة ولا إلى أهل العلم ولا حتى إلى عقله، إنما يرجع إلى هواه: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:23].
وإذا كان الإنسان تنصحه بكتاب الله وبسنة رسول الله وبكلام أهل العلم فلا ينتصح فعلام يدل هذا؟! الجواب: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ) [القصص:50]، الجواب: (بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الروم:29]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى"، وكان من دعائه -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء".
ويقول الإمام علي -رضي الله عنه-: "إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل واتباع الهوى؛ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمُّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله من الأمر، ولا يطلبه أصلاً، ولا يرضى لرضا الله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه".
عباد الله: إن علاج الهوى يكون بالتجرد لله والخشية منه سبحانه؛ بانقطاع القلب عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه، وعن التفات القلب إلى ما سوى الله، رغبة فيه، وحبًّا وخوفًا ورجاءً وإنابة وتوكلاً، فالمطلوب من المؤمن أن يتجرد في أعماله لله -سبحانه وتعالى- من كل ما سواه، وأن تكون الحركة والسكون في السر والعلن لله تعالى، لا يمازجه نفس ولا هوى ولا دنيا ولا جاه ولا سلطان، حتى لا يكون صاحب الهوى ممن اتبع هواه وضل وتاه وأمسى إنسانًا سائبًا لا ينضبط بضابط، ولا ينزجر بزاجر.
قال تعالى لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: ( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28]، فلا تكن -يا عبد الله- بعد هذه الذكرى ممن قال الله فيهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمد:16]، وائتمر بما أمر الله نبيك به فقال سبحانه لنبيه: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الجاثية:18]، (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة:49].
فالحق واحد، وهو الوحي، وما عداه فهو الهوى المذموم؛ قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:37-39]، وقال في قسيمه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40، 41].
ومن الأدعية المأثورة ما أخرجه مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفتتح صلاته من الليل: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
فإذا كان الرسول المؤيَّد بالوحي يدعو الله تعالى بهذا الدعاء الجامع الحار، يسأله الهداية لما اختلف فيه من الحق، أي: الزيادة فيها والثبات عليها، فكل ناشد للحق أولى بهذا الدعاء، فما أحوجنا أن نتجرد في طلبنا للحق وأن ندور معه حيث دار، وأن ننصره حيث كان ومن أي جهة صدر، فإنه وربي من علامة الصدق والإخلاص.
يقول الشيخ محمد الدويش -حفظه الله-: "لابد من الاعتناء بتربية الناس على التسليم لله -تبارك وتعالى- وتعظيم نصوص الشرع، وأخذ الدين بقوة، والبعد عن تتبع الرخص وزلات العلماء؛ قال تعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63]، ويقول لنبيه يحيى: (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12].
الخطبة الثانية:
عباد الله: كثر في هذه الأيام تتبع الناس لفتاوى ورخص العلماء فيما يهوونه ويرغبونه من متاع الدنيا وزينتها، وإن خالفت هذه الفتاوى من كان أوثق وأعلم وأتقى لله ممن أفتاهم ورخص لهم، لا يبحثون عن الحق، إنما يبحثون عمن يفتي لهم بحل ذلك المال كائنًا من كان، وهذا هو الهوى بعينه، حتى إنك لتقول لأحدهم: إن هذا الأمر حرَّمه أكثر العلماء، فيجيبك بأن فلانًا أحله وأنا آخذ بفتواه.
يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "إن الإنسان إذا أصيب بمرض ذهب يبحث عن أوثق الأطباء وأعلمهم؛ ليقينه بأنه أقرب إلى الصواب من غيره، وأمور الدين أولى بالاحتياط من أمور الدنيا، والواجب على المسلم اتباع الدليل؛ لأن أقوال العلماء يستعان بها على فهم الأدلة، وإذا كان المسلم ليس عنده من العلم ما يستطيع به الترجيح بين أقوال العلماء، فعليه أن يسأل أهل العلم الذين يوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به؛ قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 43]. فإذا اختلفت أقوالهم فإنه يتبع منهم الأوثق والأعلم، ولا يجوز للمسلم أن يأخذ من أقوال العلماء ما يوافق هواه ولو خالف الدليل، ولا أن يستفتي من يرى أنهم يتساهلون في الفتوى، بل عليه أن يحتاط لدينه، فيسأل من أهل العلم من هو أكثر علمًا، وأشد خشية لله تعالى".
ثم يقول -رحمه الله-: "وهل يليق بالمسلم أن يحتاط لبدنه ويذهب إلى أمهر الأطباء مهما كان بعيدًا، وينفق على ذلك الكثير من الأموال، ثم يتهاون في أمر دينه؟! ولا يكون له هَمٌّ إلا أن يتبع هواه ويأخذ بأسهل فتوى ولو خالفت الحق؟! بل إن من الناس –والعياذ بالله– من يسأل عالمًا، فإذا لم توافق فتواه هواه سأل آخر، وهكذا حتى يصل إلى شخص يفتيه بما يهوى وما يريد!! ولهذا قال العلماء: من تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق، أو كاد". اهـ. إغاثة اللهفان (1/228). والزندقة هي النفاق.
ويقول العلامة عبد الكريم الخضير -حفظه الله-: "ليس للمسلم أن يختار أسهل الأقوال؛ لأنه بهذه الطريقة يتنصَّل من التكاليف الشرعية أو جُلِّها، بل على الشخص أن يختار من أقوال العلماء أرجحها من حيث الدليل إن كان أهلاً للنظر والموازنة، وإن لم يكن فعليه أن يُقلِّد أوثق العلماء في نفسه علمًا ودينًا وورعًا؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37]، وقال سبحانه: (فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر: 17، 18].