البحث

عبارات مقترحة:

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

العليم

كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

الحي

كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

العربية

المؤلف عبدالله محمد الطوالة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. ما يستوجب معية الله للعبد .
  2. غياب المعنى الصَّحيح للوسطيَّة وآثاره .
  3. معنى الوسطية وأدلتها من القرآن والسنة .
  4. معالم الوسطية عند أهل السنة .
  5. موقف الناس من كورونا بين الإفراط والتفريط .
  6. بمَ تثبت الوسطية؟. .

اقتباس

الوسطية في الإسلام لا تثبتُ بالرأْيِ ولا بالهوى، وإنَّما تثبت بالدليل من كتابِ اللهِ -تعالى-, أو ما صحَ من سنَّةِ النبي الكريمِ -صلى الله عليه وسلم-, أو ما أجْمعَ عليهِ علماءُ هذه الأمةِ المعصومة، فمتى وجدَ الدليلُ الشرعي الصحيحُ فهو الحقُّ وهو الوسطيَّة، ظهَرَتْ حكمةُ ذلك أم لم تظْهَر...

الْخُطبَةُ الْأُولَى:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[سبأ: 1], سبحانه وبحمده: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[غافر: 20], وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، تنزَّه وتقدَّس عن الشبيه والنظيرِ؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11], وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، وصفيُّهُ وخليلهُ, البشيرُ النذيرُ، والسراجُ المُنيرُ، اللهم صــلَّ وسلَّم وبارَك وأنعِم عليهِ، وعلى آله وصحبهِ ذويِ القدرِ العليِّ والفضلِ الكبيرِ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ، إلى يوم المصيرِ.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-, ومن أراد أن يكون الله معه؛ فعليه بأربعة أمور:

عليه بالإيمان؛ فالله -تعالى- يقول: (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)[الأنفال: 19]، وعليه بالصبر؛ فالله -تعالى- يقول: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46], وعليه بالإحسان؛ فالله -تعالى- يقول: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69]، وعليه بالتقوى؛ فالله -تعالى- يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 194], وتأملوا أواخر سورة النحل حيث يقول -سبحانه-: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل: 127، 128].

معاشر المؤمنين الكرام: لغياب المعنى الصَّحيح للوسطيَّة؛ فقد تاه كثيرٌ من الناس بين الإفراطٍ والتفريط، وبين التهويل والتهوين، وبين الغلو والجفاء، بين التشدد والتسيب، وضاع بسبب ذلك الكثيرُ من معالم الدِّين الحقَّ، وفُقِدَ التطبيقُ الأمثلُ لبعض النصوصِ الشرعية, وظهرت مذاهبُ ومشاربُ مُتضاربة، كُلُّ يدَّعِى أنهُ على الصراط المستقيم، والمنهجِ القويم، وأنَّ غيرهُ ضالٌ ومنحرفٌ؛ إمَّا إلى ذات اليمين، وإما إلى ذات الشمال.

والمنهج الحقُّ والسبيلُ الأقوم, هو ما كان عليه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، القائل في الحديث الصحيح: "عليكم بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجذِ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ"، والوسطية حسنةٌ بين سيئتين، ونورٌ بين ظلمتين, وهي تعني فعلُ المطلوبِ من غير زيادةٍ ولا نُقصان؛ فالزيادة غلوّ وإفراط، والنّقصُ تقصيرٌ وتفريط؛ كما قال الشاعر:

وَلاَ تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ

 كِلاَ طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمورِ ذَمِيمُ

والوسطيةُ منهجٌ يشملُ كافةَ مناحي الحياة؛ الدينيةِ منها, والاجتماعيةِ, والاقتصاديةِ, وغيرها من المناحي؛ حسِّيةً كانت أو معنوية.

والوسطيةُ تعني الاعتدالَ بين الإفراطِ والتفريطِ، والتوسطَ بينَ طرفينِ كلاهما مذمومٌ, فخير الأمورِ أواسِطها؛ الشجاعةُ وسطٌ بين التهورِ والجُبن، والكرمُ وسطٌ بين الإسرافِ والبُخْل, يقول الإمام ابن القيّم -رحمه الله-: "الأفعالُ الطبيعيةُ؛ كالنوم والسهرِ والأكلِ والشربِ والجماعِ والحركةِ والرياضةِ والخلوةِ والمخالطةِ وغيرُ ذلك، إذا كانت وسطًا بين الطرفينِ المذمومينِ كانت عدلًا، وإن انحرفت إلى أحدهما؛ كانت نقصًا, وأثمرت نقصًا بقدر الميل والانحراف".

والقاعدةُ الشاملةُ تنصُ على أنّ "ما تجاوز حدَّهُ انقلبَ إلى ضِدهِ", فحتى التقوى المطلوبةِ شرعاً، إن تجاوزت حدّها تصبحُ وسوسةً وتنطعاً، وهو الغلو المنهي عنه في الدين, والعاقلُ من ألزمَ نفسهُ حدَّ التوسطِ في الأمور، والاعتدال في سائرِ أحواله بين الإفراط والتفريط, قال ابن القيم ر-حمه الله-: "وما أمَرَ اللهُ بأمْرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إمَّا إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، وإمّا إلى إفراطٍ وغلو... ودينُ اللهِ وسطٌ بين الجافي عنهُ والغالي فيه؛ كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسطَ بين طرفين ذميمين؛ فكما أنَّ الجافيَ عن الأمر مُضيّعٌ له، فالغالي فيه مُضَيّعٌ له، هذا بتقصيره عن الحدّ، وهذا بتجاوزه للحدّ".

وإذا أردنا أن نضرب لذلك مثالاً: فكم من الأمم قصّروا وفرطوا في حقِّ أنبيائهم وعلمائهم حتى قتلوهم وعادوهم!، وكم تجاوز آخرون وأفرطوا حتى غلوا فيهم وعبدوهم!, وهكذا في سائر الأمور, فهو بابٌ واسعٌ يدخلُ منه الشيطانُ؛ ليمكر ببني آدم ويكيدَهم ما بين إفراطٍ وتفريط، ولا نجاة من ذلك إلا بسلوك الطريق الوسط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, القائل: "عليكم بسنتي, وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة".

والتوسط والوسَطيَّة الحق منهجٌ قرآني، وتشريعٌ رباني, قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143]؛ ومن معاني (أُمَّةً وَسَطًا) أي: وسطٌ بين الإفراط والتفريط، ومن الآيات الدالةِ على هذه المنهجية الوسط قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67], وقوله -تعالى-: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)[الإسراء: 110]، وقوله -تعالى-: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)[الإسراء: 29]، وقوله -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[القصص: 77]، وقوله -تعالى-: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)[لقمان: 19]؛ والمعني: ما بين الإسراع والبطء.

وفي الحديث الصحيح: "اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبدًا، واعمَل لآخرتك كأنك تموت غدًا", وفي الحديث الآخر: "أحبب حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بَغِيضَك يومًا ما، وأبغِضْ بَغِيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما".

والإسلام شريعةٌ وسطٌ، وأمَّةُ الإسلام أُمةٌ وسطٌ, بكلِّ معاني الوسطية؛ سواءً من الوسط بمعنى الحُسن والفضل، أو بمعنى الاعتدال والقصد، أو من التوسط بمعناه المكاني والجغرافي؛ فهي أمَّةٌ وَسَطٌ في التصوّر والاعتقاد، وسطٌ في العبادات والمعاملات، وسطٌ في التّفكير والشّعور، وسطٌ في التَّنظيم والتَّنسيق، وسطٌ في الارتباطات والعلاقات, وسطٌ في كٌلِّ الأمور والمجالات, وأهلُ السنَّة عُموماً وسطٌ بين المللِ والنِّحلِ، وسطٌ بين المعطِّلةِ والمشبِّهةِ, بين من ينفي صفات الربِّ -جلَّ وعلا- ويعطلها عن مضمونها ومرادها، وبين مَن يُشبهها بصفات المخلوقين، -تعالى- الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا!.

وسطٌ بين الجبرية والقدرية، بين من يسلب العبد اختياره ومسؤوليته عن أفعاله، وبين من يجيز أن يقع في ملك الله ما لا يريده الله -تعالى- ولا يقدره, وسطٌ بين من يكفرُ بالكبيرة ويحكم بخلود مُرتكبها في النار، وبين من يقول: لا يضرُّ مع الإيمان معصية, وسطٌ في آل النبي وصحابته الكرام بين الغلو والرفض، بين من يغلو فيهم حدّ التقديس وادعاء عصمتهم وعلمهم للغيب، وبين من يبغضهم ويناصبهم العداء.

والتوسط والاعتدال إنما يكونُ بالاستقامة على أمر اللهِ -تعالى- وطاعتهِ، بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، ولزومِ الصراطِ المستقيم؛ ففي سورةِ الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 6، 7], وهو الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف, قال -جلَّ وعلا-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا)[هود: 112]؛ أي: ولا تتجاوزوا ما حَدّده لكم بزيادة أو نقصان, وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "خطَّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً خطاً، ثم قال: "هذا سبيل الله", ثم خطَّ خطوطا عن يمينه، وعن شماله، ثم قال: "هذه سُبلُ، على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه" ثم تلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الأنعام: 153]"(صححه الألباني).

ولو أردنا أن نأخذُ مثالاً واقعياً تتباين فيه اتجاهاتُ أكثرِ الناسِ بين الإفراطِ والتفريطِ؛ فإن وباءَ كورونا خيرُ مثال، فالناسُ فيهِ طرفي نقيض، ما بين تهويلٍ وتهوينٍ، وما بين إفراطٍ وتفريطٍ، بينما المنهجُ الحقُّ أن يأخذَ المسلمُ بالوسطيةِ والاعتدالِ, من غير تهويلٍ ولا تهوينٍ؛ فلا يُقللُ من شأنهِ، ولا يستهينُ بأمرهِ، ولا يراهُ أمرًا عاديًّا لا يستحقُ الاهتمام, وفي نفس الوقت, فهو لا يفزعُ ولا يخاف, ولا يُهوِّلُ الأمر ولا يضخِمهُ، حتى يراهُ كأنهُ نهايةُ العالم، وخرابُ الدنيا.

بل يتوسطُ في ذلك بعد التوكل على الله وحسن الاعتماد عليه، وتعليق قلبه بخالقه -جلَّ وعلا- خوفاً ورجاءً ودعاءً، ويأخذُ بالأسباب المناسبة، والاحترازات الصحية الملائمة، ويلتزمُ بإجراءات النظافة والسلامة، ويبتعدُ عن الأماكن المزدحمة، ويقللُ من المخالطة، ويرتدي الكمامة، ونحوها من الإجراءات والاحترازات.

فاتقوا الله -عباد الله- وخذوا بالطريق الوسط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف، ولا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط فيه ولا تفريط, واَحْذروا سبل الشيطانَ وخداعه، فلا هَمّ له إلا أن يَصُدّكم عن هذا الطريق المستقيم, ويجركم إمَّا إلى إفراطٍ وإمَّا إلى تفريط.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[الأعراف: 16، 17].

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فاستغفروه؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب.

معاشر المؤمنين الكرام: كُلُّ تعاليمِ الإسلام وأحكامِه وشرائعه, مبنيةٌ على التوسط والاعتدال، وعلى الرفق والتيسير؛ فالتيسير مقصِدٌ من مقاصد هذا الدين العظيم، وصفةٌ عامّةٌ للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها، قال -عزَّ وجلَّ-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185]، وقال -سبحانه-: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 28], وقال -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه كما في صحيح مسلم: "إن الله لم يَبعثني مُعَنّتا ولا مُتعَنتا، ولكن بَعثني مُعَلما مُيَسِّرا", وفي الحديث الصحيح: "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا، ولا تُنَفِّرُوا", وفي الصحيحين: "ما خُيِّرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين؛ إلا اختار أيسرَهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعدَ الناس منه".

ثم اعلموا -يا عباد الله- أن الوسطية في الإسلام لا تثبتُ بالرأْيِ ولا بالهوى، وإنَّما تثبت بالدليل من كتابِ اللهِ -تعالى-, أو ما صحَ من سنَّةِ النبي الكريمِ -صلى الله عليه وسلم-, أو ما أجْمعَ عليهِ علماءُ هذه الأمةِ المعصومة، فمتى وجدَ الدليلُ الشرعي الصحيحُ فهو الحقُّ وهو الوسطيَّة، ظهَرَتْ حكمةُ ذلك أم لم تظْهَر، ولا نقابلُ النُّصوص بالرأْي، ولا نعارضُها بالعقل، بل نعرضُ العقلَ والرأيَ على الدليل الصحيح، فما وافقَ الدليلَ أخذنا به واتبعناه، وما خالفَ الدليلَ تركناهُ ونبذناه, قال -جلَّ وعلا-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65], وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب: 36].

والوسطيةُ ليست ذريعةً للتقصير وتمييعِ الدينِ والتفلُّتِ من أحكامه، والاستهانةِ بالمحرمات، وتقحُّمِ المشتبِهات، وترْك بعض الواجبات؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدرجاته الثلاث.

والوسطيَّة ليست حتماً أن تكونَ هي الأسهلُ والأهون، أو ما تميلُ إليه النفوسُ وتهواه، بل قد تكون هي الأصعبُ والأشقُّ، قال -تعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].

فاحذروا الإفراط والتفريط؛ فإنه خسارة في الدنيا، وندامة في الآخرة, قال -تعالى- مخبرا عن تحسّر أهلِ النار وندمِهم يومَ لا ينفعُ الندم: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ)[الملك: 10، 11], وقال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون: 9 - 11].

ويا ابن آدم عش ما شئت؛ فإنك ميت، وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه، واعمل ما شئت؛ فإنك مجزي به, البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت, وكما تدين تدان.

صلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].