البحث

عبارات مقترحة:

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

التضرع إلى الله: أسبابه ومواطنه (2-2)

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. الأسباب المعينة على التضرع إلى الله .
  2. مواطن التضرع إلى الله .
  3. نماذج من حياة المتضرعين. .

اقتباس

ومنها: إدراك العبد لنقصه وعجزه، وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه وضياعه من دونه، وغزارة أفضال الله عليه بلا استحقاق منه؛ فتذله نعم الله عليه، وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرًا البتة، وأن الخير الذي...

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]،   أما بعد:

عباد الله: شتان ما بين قلب وقلب؛ قلب تسكنه الذلة والمسكنة والخضوع والتضرع لله في كل شئونه، وآخر يملؤه الاستعلاء والتكبر والاعتداد بالنفس والعجب والخيلاء والغرور... إن القلب الأول؛ قلب يحبه الله وتتنزل عليه الرحمات، أما القلب الثاني؛ فقلب قد نصب الشيطان فيه عرشه، تجول فيه اللعنات وتنوشه الغواشي والكربات.

أيها المسلمون: إن من رحمة الله -تعالى- أن جعل أسبابًا تعيننا على التضرع والمسكنة له -سبحانه-؛ فمن تلك الأسباب:

معرفة الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته: فمن أدرك عظمته وجلاله وارتفاعه وكماله وجبروته وسطوته وقدرته وقوته وغناه وكرمه وجوده وسعة خزائنه... لم يجد سبيلًا إليه كالذلة بين يديه والتضرع له؛ يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها... فمعرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة".

ومنها: إدراك العبد لنقصه وعجزه، وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه وضياعه من دونه، وغزارة أفضال الله عليه بلا استحقاق منه؛ "فتذله نعم الله عليه، وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرًا البتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه، فتحدث له النعم ذلًا وانكسارًا عجيبًا لا يعبر عنه، فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلًا وانكسارًا وخشوعًا"(ابن القيم)، وهذا هو عين التضرع لله -سبحانه-.

ومنها: الزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة؛ فلن تجد من همه دنياه متضرعًا أبدًا، بل هو مشغول بها غارق في أوديتها المتشعبة... أما المقبل على الآخرة؛ فتجده إذا خاف النار تضرع إلى ربه وجلًا واجفًا، وإذا ذكر الجنة تضرع إلى ربه طامعًا راجيًا، وإذا تذكر الموت وسكرته والقبر وضمته وما بعدهما من أهوال تضرع إلى ربه مستغيثًا مستعتبًا..

ومنها: مجالسة الذاكرين المخبتين المتضرعين؛ فإن الصاحب يأخذ من صاحبه؛ فمن جالس المخبتين أخبت، ومن خالط المتضرعين تضرع... وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-: "الرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل"(رواه الترمذي).

ومنها: تطهير القلب مما يناقض الخشوع: كالكبر والتعالي والتفاخر؛ يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله-: "فإن القلب إِذا خشع فإنه تسكن خواطره وإراداته الرديئة، التي تنشأ من اتباع الهوى وينكسر ويخضع لله -عز وجل-، فيزول بذلك ما كان فيه من النأو (البُعد) والترفع والتكبر والتعاظم".

وذُكِرَ أن المهلب بن أبي صفرة كان صاحب جيش الحجاج؛ فمر على مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو يتبختر في حلة خز؛ فقال له مطرف: يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله، فقال المهلب: أما تعرفني؟ فقال: "بل أعرفك، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت تحمل فيما بين ذلك العذرة"؛ فترك المهلب مشيته تلك.

أيها المؤمنون: إن كان التضرع إلى الله -تعالى- مطلوبًا في جميع المواطن؛ فإنه أكثر طلبًا وخصوصية في مواطن ثلاث:

الأول: التضرع إلى الله عند الدعاء؛ فقد طلب الله -عز وجل- التضرع في الدعاء طلبًا مباشرًا، فقال -عز من قائل-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأعراف: 55]، وأخبر عن حال المضطرين في دعائهم، فقال -سبحانه وتعالى-: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأنعام: 63]، يعني: ادعوا ربكم تذللًا واستكانة.

وهذا سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- يتضرع إلى ربه يوم بدر متذللًا خاضعًا مستجديًا؛ فعن عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض؛ فما زال يهتف بربه، مادًا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه"(رواه مسلم).

فالتضرع من أهم آداب الدعاء، وكل دعاء اقترن بالمسكنة والتذلل والخضوع؛ فهو أقرب للقبول، وقد أدرك الشاعر هذا السر فقال لربه مناجيًا:

أدعوك رب كما أمرت؛ تضرعًا

فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

الثاني: التضرع إلى الله عند الذكر؛ فكما طلب الله -عز وجل- التضرع في الدعاء فقد طلبه في الذكر، قائلًا -عز من قائل-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً)[الأعراف: 205]، قال بعض أهل التفسير: "أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة"؛ فإذا ذكرت ربك -عز وجل- فلتذكره خائفًا وجلًا، متذللًا متملقًا، خاضعًا لجلاله وعظمته، مستحضرًا لجبروته وسطوته... فإن ذلك أدعى أو يؤتي ذكرك ثمرته.

وهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ركع قال: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي"(رواه مسلم)؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- في كل أحواله مستكينًا لله متضرعًا له، خاشعًا خاضعًا...

الثالث: التضرع إلى الله عند المصائب والكربات؛ وتلك عادة الحكيم الرحيم -سبحانه- وسنته في خلقه؛ إذا ما ابتعد عنه العباد وأعرضوا، أنزل عليهم برحمته من البلايا والمصائب ما يحملهم على التضرع له والإنابة إليه، وما يوقظهم من غفلتهم ويستنقذهم من سكرتهم، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)[الأنعام: 42-43]، أي: فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا؛ فمن تضرع فُرِّج عنه كربه، ومن تمادى في غيه حق عليه العذاب.

وقد ذكر -عز وجل- حال أمة من الأمم لما طغوا أخذهم الله بالمصائب كي يتضرعوا: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[المؤمنون: 76]، والمعنى أنهم؛ ما خضعوا وما ذلوا لربهم، بل مضوا على تمردهم.

وليست تلك السنة جارية على الظالمين فقط، بل هي جارية حتى مع الأتقياء الصالحين، فهذا نبي الله يونس -عليه السلام- يذكر ربه -سبحانه وتعالى- في حال كرب وغم وشدة، وفي حاجة وعوز وذلة، متبرأ من حوله وقوته وهو داخل بطن الحوت؛ (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 89]؛ فكانت الاستجابة الفورية: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)[الأنبياء: 90]، وتلك عاقبة التضرع لرب العالمين.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

عباد الله: لم يبلغ الأنبياء والصالحون والأولياء والعارفون ما بلغوا إلا بخشوعهم وخضوعهم وتذللهم وتضرعهم لله رب العالمين، وفيما يلي نعرض بعض النماذج لتضرعهم وخضوعهم لربهم، لعلنا نتأسى ونقتدي بهم:

فهذا ابن عباس يصف لنا حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو خارج لصلاة الاستسقاء فيقول: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متبذلًا متواضعًا متضرعًا، فجلس على المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه، لكن لم يزل في الدعاء، والتضرع، والتكبير..."(رواه النسائي وحسنه الألباني)، وبهذا الحال وحده تُستجلَب النعم، وتُدفَع النقم.

وينقل لنا شداد بن أوس -رضي الله عنه- نموذجًا من تضرع النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه يقول: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"(متفق عليه)؛ والمتأمل في تضرع النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد أنه ذكر اللهَ -تعالى- بأكمل الأوصاف، وذكر العبد بأضعف الحالات، وهذا أقصى غاية التضرع ونهاية الاستكانة والخضوع لمن لا يستحق ذلك إلا هو -سبحانه-.

وقد أثَّر تضرع النبي -صلى الله عليه وسلم- في صحابته؛ فشعروا أنه هكذا ينبغي أن يكون التضرع، فعن أنس بن مالك "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بعرفة يدعو يرفع يديه، فسقط زمام الناقة من يده فتناوله، ثم رفع يديه يدعو"، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا الابتهال، والتضرع"(رواه الطبراني).

ويسأل عبد الله بن عروة بن الزبير جدته أسماء، فيقول: كيف كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سمعوا القرآن؟ قالت: "تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، كما نعتهم الله"(البيهقي في شعب الإيمان).

وتتنزل الملائكة لتضرع أسيد بن حضير بالقرآن ليلًا؛ فها هو يقرأ سورة البقرة في الليل، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها؛ فلما أصبح حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا؛ فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: "وتدري ما ذاك؟"، قال: لا، قال: "تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم"(متفق عليه).

أيها المسلمون: تضرعوا إلى ربكم واستعينوا بالأسباب المعينة على التضرع إليه، وتزودوا في مواطن التضرع بالخشوع والخضوع والتذلل لربكم -سبحانه-، واعرفوا أحوال المتضرعين وتأسوا بهم؛ فإن ذلك سبيل إلى صلاح أحوالكم وسعادتكم بدنياكم وآخرتكم.

فاللهم اجعلنا من المتضرعين لجلالك، المتعرضين لرحماتك..

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.

وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].