القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
الناس سواسية.. لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى؛ فما أحرى حجاج بيت الله الحرام، وما أحرى المسلمين بعامة أن يأخذوا هذه العبرة من هذا المشهد العظيم؛ فإن مثل ذلكم الاستشعار يعد امن أعظم الدواعي إلى التآلف والتكاتف والرحمة والشفقة والتواضع والتعاون.. لا شعارات وطنية ولا هتافات عصبية ولا رايات حزبية.. إنما هي راية واحدة هي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ..
الحمد لله الكبير المتعال ذي العزة والجلال، خلق فسوى وقدر فهدى، أحمده -سبحانه- وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله.. وخليله وخيرته من خلقه.. أفضل من صلى وقام وحج لله وصام؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -سبحانه- وخشيته في الغيب والشهادة، والاستقامة على دينه في الغضب والرضا والمنشط والمكره: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ) [فصلت:30 ].
أيها المسلمون: حجاج بيت الله الحرام.. ها أنتم أولاء تجتمعون في هذا المكان المبارك وافدين إلى بلد الله الحرام محرمين ملبين.. قاصدين رباً واحداً ولابسين لباساً واحداً وحاملين شعاراً واحداً: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك.
إنكم -أيها الحجاج- باجتماعكم هذا تعقدون مؤتمراً فريداً.. مؤتمراً ملؤه السمع والطاعة والرهبة والاستجابة لنداء الباري -جل شأنه-: ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) [آل عمران:97] فها أنتم قد امتثلتم أمر ربكم وتركتم المال والأهل والولد، وقطعتم الفيافي والقفار والمفاوز والبحار في صورة فريدة ومشهد مدهش يستوي فيه صغيركم وكبيركم، وغنيكم وفقيركم، وذكركم وأنثاكم.
فاشكروا الله على التيسير واحمدوه على بلوغ المقصد وتهيئة هذا النسك المبارك، وأروا الله من أنفسكم توحيداً خالصًا خاليًا من الشوائب الشركية والنزعات البدعية؛ فإن البيت الحرام لم يبن إلا للتوحيد وإخلاص العبودية لله -سبحانه- ولم يبن للشرك ولا للابتداع ولا للخرافة والجدل، فإن الله -سبحانه- قد أمر خليله إبراهيم -عليه السلام– أن يؤسس البيت العتيق على التوحيد والعبودية لله وحده؛ فقال -جل شأنه-: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) [الحـج:26].
ولذا كان الفهم الصحيح للسلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم أن عرصات المناسك إنما هي مجال للتضرع إلى الله وإخلاص النسك له وفق هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يكن لديهم لوثة التعلق بالحجارة أو التبرك بها أو قصد المزارات أو المشاهد أو القبور والدعاء عندها؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أن النافع الضار هو الله -سبحانه- ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ) [ الأنعام:17] ولذا كان السلف -رحمهم الله- لا يتبركون بأحجار الكعبة ولا بغيرها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك ولم يفعله أصحابه، وإنما استلم الحجر الأسود وقبله ومسح بيده على الركن اليماني ولم يستلم بقية أركان الكعبة.. وقد أكد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذلك وهو واقف أمام الحجر الأسود قائلا: " إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع؛ فلولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك ".
حجاج بيت الله الحرام: إن هذا الاجتماع المبارك إبان هذا النسك العظيم ليعد فرصة سانحة لاستشعار هذا التوافق الفريد واستلهام الحكم العظيمة التي شرع الحج لأجلها.. ومن ذلكم الاشتراك والمساواة بين كافة الحجاج في متطلبات هذا النسك؛ فليس للغنى ولا للنسب ولا للرياسة فضل أو استغناء؛ فالوقوف بعرفة واحد والمبيت بالمزدلفة واحد والجمرة ترمى بسبع حصيات لكل واحد والطواف واحد والسعي واحد؛ فليس للغني أو الشريف أو الوزير أن ينقص جمرة أو يسقط وقوفًا أو مبيتًا..
الناس سواسية.. لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى؛ فما أحرى حجاج بيت الله الحرام، وما أحرى المسلمين بعامة أن يأخذوا هذه العبرة من هذا المشهد العظيم؛ فإن مثل ذلكم الاستشعار يعد امن أعظم الدواعي إلى التآلف والتكاتف والرحمة والشفقة والتواضع والتعاون.. لا شعارات وطنية ولا هتافات عصبية ولا رايات حزبية.. إنما هي راية واحدة هي راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
إن الأمة بحاجة ماسة إلى استجلاب كل معاني الوحدة والتعاون والتناصح على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان؛ فلا يعتدي أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد، بل يعيش المسلمون في سلام حقيقي وتعاون قلبي.. لا يمكن أن يكون له ظل في الواقع إلا من خلال الالتزام بشريعة الإسلام الخالدة التي أعز الله الأمة بها؛ فما أحوج الأمة الإسلامية -وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية والخلافات المنهجية- إلى الاقتباس من أسرار الحج لتتخلص نفوس أبنائها من الأنانية والغل والحسد؛ ولترتقي بهم إلى أفق الإسلام الواسع المبني على منهاج النبوية والدافع لكل نزاع أو شقاق أو اختلاف، كيف لا والله -جل وعلا- يقول: ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ... ) [الشورى:10]، ويقول سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء:59].
إذأً لا مجال للتفاخر ولا للاختلاف ولا للتخاذل، وليس اختلاف الألسنة والألوان والطباع والبلدان محلا للشقاق والفرقة لأن الميزان عند الله واحد: ( ..إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) [الحجرات:13] ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [ البقرة:208-209].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.. قلت ما قلت إن صواباً فمن الله وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فاتقوا الله -حجاج بيت الله الحرام- واعلموا أنه يشرع للحجاج في اليوم الثامن من ذي الحجة أن يحرم بالحج إن كان متمتعًا، وإن كان مفردًا أو قارنًا فهو لا يزال في إحرامه، ويستحب للحاج في اليوم الثامن أيضا أن يتوجه إلى منى قبل الزوال فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرًا من دون جمع..فإذا صلى فجر يوم التاسع وطلعت الشمس توجه إلى عرفة وهو يلبي أو يكبر، فإذا زالت الشمس صلى بها الظهر والعصر جمعًا وقصرًا بآذانٍ وإقامتين..
ثم يقف بها -وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة- فيكثر فيها من التهليل والتسبيح والدعاء والاستغفار، ويتأكد الإكثار من التهليل لأنه كلمة التوحيد الخالص؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: " خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ".
إذا غربت الشمس أفاض الحاج من عرفة إلى مزدلفة بسكينةٍ ووقارٍ.. فلا يزاحم ولا يؤذي، ثم يصلي بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا بأذان وإقامتين، ثم يبقى بها حتى طلوع الفجر، إلا الظعن والضعفة.. فلهم أن ينصرفوا منها بعد منتصف الليل.. فإذا صلى الحاج الفجر بمزدلفة وقف عند المشعر الحرام - والمزدلفة كلها موقف - فيدعو الله طويلاً حتى يسفر ثم يسير إلى منى فيرمي جمرة العقبة - وهي أقرب الجمرات إلى مكة - يرميها بسبع حصيات صغيرات يكبر مع كل حصاة..
ثم ينحر هديه إن كان متمتعا أو قارنا، ثم يحلق ويحل من إحرامه؛ فيباح له كل شيء حرم عليه بسبب الإحرام إلا النساء، ويبقى في حق القارن والمفرد طواف الإفاضة وسعي الحج إن لم يكن سعى مع طواف القدوم، وأما المتمتع فيبقى عليه طوافُ وسعي غير طواف العمرة وسعيها.. ثم بعد الطواف يحل للحجاج كل شيء حرم عليه بسبب الإحرام حتى النساء، ولا يضر الحاج ما قدم أو أخر من أفعال يوم النحر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما سئل عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: "افعل ولا حرج "، ثم يبيت الحاج في منى أيام التشريق وجوبا لفعل النبي-صلى الله عليه وسلم- ولقوله: " خذوا عني مناسككم ".. فيرمي الجمرات في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر إن لم يكن متعجلا.. كل جمرة بسبع حصيات؛ يبدأ بالجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى.. ويبدأ وقت الرمي في هذه الأيام بعد الزوال لفعله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أراد أن يتعجل فليرم بعد الزوال من يوم الثاني عشر ثم يخرج من منى إلى مكة، ولا يضره لو غربت عليه الشمس وهو لم يخرج من منى، كما لا يضره لو رمى بعد مغرب اليوم الثاني عشر وتعجل على الأظهر من أقوال أهل العلم، ثم يطوف بعد ذلك طواف الوداع: ( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) [البقرة:200].
هذا، وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله.. صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه وأيه بكم -أيها المؤمنون- فقال جل وعلا: " ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وسلم الحجاج والمعتمرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تقبل من الحجاج حجهم.. اللهم تقبل من الحجاج حجهم، اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحًا ومغنمًا وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلمًا.
اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ما سألناك من خيرٍ فأعطنا وما لم نسألك فابتدرنا، وما قصرت عنه آمنا وأعمالنا من الخيرات فبلغنا..ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.