الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | حسام بن عبد العزيز الجبرين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ويقال لكل مذنب نادمٍ تائبٍ: كم من ذنب كسر عُجْبًا قد يهلك العبد! وكم من ذنب ملأ القلب خوفًا من الله!، وكم من ذنب كان سببًا لتضرُّع وانكسار ودعاء وافتقار! وكم من ذنب كان سببًا لطاعات كثيرة!
الخطبة الأولى:
الحمد لله المحيطِ الخبير ، الشهيدِ البصير ، العظيم القدير ، وأشهد إلا إله إلا اللهُ الرحيمُ الستيرُ التواب ، الغفورُ المجيبُ الوهاب، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، بلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ومجاهدة النفس على لزوم جادّتها والترقي في درجاتها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18].
إخوة الإيمان: أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنَّ رَجُلاً علَى عَهْدِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وكانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكانَ يُضْحِكُ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وكانَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قدْ جَلَدَهُ في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ به يَوْمًا فأمَرَ به فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العنْه، ما أكْثَرَ ما يُؤْتَى بهِ؟ فَقَالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ".
عباد الرحمن: أنطلق من هذا الحديث إلى تذكير لكل مدمن نادم، مبتلى بالرجوع إلى المعصية بعد توبته سواء طالت المدة أم قصرت، حديثي لمن يندم بعد كل مرة يقع منه الذنب وقد يقنّطه الشيطان ويلقي في نفسه أنه منافق! وفي الحديث: "ومَن سرَّتْهُ حسنَتُه وساءَتْه سيِّئَتُه، فهو مؤمِنٌ"(رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني)؛ فإن منهم من يذنب وكلما أذنب ندم وتاب، وربما بكى من الندم، ولكنه يضعف ويعود.
عباد الله: من عُوفي فليحمد الله وليحذر الشماتة، وليأخذ العبرة، وليحذر من فخّ التجرِبة، وليحفظ حاجز هيبة المعصية في نفسه؛ فنقص الخوف من الله أحد الأسباب، ولكن ليس هو السبب الوحيد، فإنه يوجد من يبتلى بذنب كالتدخين أو النظر المحرم مثلاً، ولو عُرض عليه رشوة ضخمة لم يقبلها، ولا يجد كبير معاناة في ذلك؛ لخوفه من الله -سبحانه- ولأن حاجز هيبة هذه المعصية عالٍ في نفسه لم يُخْدَش ولم يُكْسَر.
إخوة الإيمان: لا يخفى أثر الذنوب وشؤمها في الدنيا والآخرة، ولكن بعد وقوعها لا حل إلا علاجها بالتوبة والعمل الصالح؛ ففي الحديث: "إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلوَ قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللَّه كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"(رواه الترمذي وحسنه الألباني).
فالتوبة والاستغفار تمحو النكتة السوداء وإذا مُحيت لا تكون رينًا على القلب.
عباد الله: ويحسن التذكير بشروط التوبة عند كل ذنب: أولاً الندم على معصية الله -سبحانه-، وثانيًا: الإقلاع عن الذنب، وثالثًا: العزم على ألا يعود إليها ويزيد شرط رابع في بعض الذنوب: رد الحقوق إلى أهلها.
يقول أهل العلم من حقَّق هذه الشروط فتوبة نصوح.
عباد الرحمن: ومن غلبته نفسه والشيطان؛ فعاد إلى الذنب فعليه التوبة مرة أخرى، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قَبِلَ الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تابَ تاب الله عليه أيضًا. ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يُصِرّ؛ بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرة فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عليّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله يحب العبد المفتن التوّاب"، وفي حديث آخر: "لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار" (مجموع الفتاوى 16/58).
أخبر أحد الفضلاء عن شخص يعرفه يفعل أبوابًا من الخير منها: أنه يصوم الاثنين والخميس وأيام البيض، ويتصدق كل يوم لكنه مبتلى بالتدخين.
وآخر يصوم نافلة ويقوم نافلة، ويقرأ القرآن ويفعل أبوابًا من الخير لكنه مبتلى بالنظر الحرام يتوب ويعود حتى كاد أن ييأس.
"والمؤمن الصالح قد يُبتلى بذنب ملازم يحزنه؛ فإذا قرنه بالندم الجازم والاستغفار الملازم والدعاء الدائم أنزل الله المدد والغوث والحفظ والتأييد ولو بعد حين! وقد يتأخر المدد -امتحانًا واختبارًا- فالثبات الثبات مهما كثرت الجراحات وإياك وإلقاء سلاح الدعاء والاستسلام والوقوع في الأسر".
أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عَنِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فِيما يَحْكِي عن رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قالَ: "أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قالَ عبدُ الأعْلَى: لا أَدْرِي أَقالَ في الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: اعْمَلْ ما شِئْتَ".
اللهم اغفر لنا يا غفار، وتب علينا يا تواب، واسترنا يا ستير، واهدنا يا هادي يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله التواب القائل (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة:222]، وصلى الله وسلم على نبيه الذي كان يُعَدُّ له في المَجْلِسِ الواحدِ مائةُ مَرَّةٍ: "ربِّ اغفِرْ لي وتُبْ عليَّ إنك أنت التوابُ الغفورُ".
أما بعد: فيا عبد الله: احرص على الاعتراف بذنوبك بين يدي ربك، واحرص على الصدقة قال -سبحانه-: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة:102-104].
وعلى المسلم مع التوبة والاستغفار عمل الصالحات: "اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمْحُها"، وقال الحق -سبحانه-: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)[هود:114].
وليحرص من ابتلى بذنوب السرائر أن يُكثر من عبادات السرائر.
ومن أذنب سرًّا فليتب سرًّا، ومن ظهر ذنبه فليظهر توبته.
والحمد لله أن ربنا غفور تواب؛ ففي الحديث: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ"(رواه مسلم).
ويقال لكل مذنب نادمٍ تائبٍ: كم من ذنب كسر عُجْبًا قد يهلك العبد! وكم من ذنب ملأ القلب خوفًا من الله!، وكم من ذنب كان سببًا لتضرُّع وانكسار ودعاء وافتقار! وكم من ذنب كان سببًا لطاعات كثيرة!
إخوة الإيمان: وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد، ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل ما يكره إلا بها، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كان أكمل الناس وأكرمهم على الله، وكان يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ"(رواه مسلم).
وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وبهذه المغفرة نال الشفاعة يوم القيامة؛ كما في الصحيح في حديث الشفاعة المعروف: "فَيَأْتُونَ عِيسَى، فيَقولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ولَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، عَبْدًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبهِ وما تَأَخَّرَ".
ثم صلوا وسلموا..
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا..