الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | سليمان الحربي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
ونحن في زمنٍ شُغِلَ النَّاس فيه بِالحديث عن القيامةِ وأشراطِها، فبينما ترى الإنسانَ مقصِّرًا في عبادَتِه وفي واجباتِه، تراه قد أجهد نفسَه بالسؤال والبحث عن الساعةِ وعلاماتِها، بَلْ رأينا مَن ترك أمورَه الحياتيَّة حينما رَأَى الأحداثَ والْفِتَنَ بدأَ يُفسِّرها بقُرب قيام السَّاعة، فترك معيشتَه وأَتْعَبه الوَسْوَاس...
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله أيُّها المسلمون حق تقاته، (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
مَعْشَرَ الإِخْوةِ: أخبَرَ اللهُ -عز وجل- أنَّ النَّاسَ سألوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- سؤالًا، وألَحُّوا في تِكرارِه، ولا زال هذَا السؤالُ يُكَرَّرُ عندَ بعض النَّاسِ، أو يأخُذَ تفكيرَه وَهو: متى الساعةُ؟ قال الله -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الأعراف:187].
فَهُمْ يسألونَ الرَّسُول -صلى الله عليه وسلم- عن الساعةِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا) متى وقتها الذي تجيء به، ومتى تحِلُّ بالخلق؟ (مُرْسَاهَا) أي: وُقُوعها. فأمر الله نبيَّه أن يقولَ لهم: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)، فهو -تعالى- مختَصٌّ بعلمِها، (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وقوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: خَفِي عِلْمُها على أهل السماوات والأرضِ، وكلُّ ما خفِيَ فهو ثقيلٌ، فَهُمْ مِن الساعة مشفقون.
وقد أخبر اللهُ أنَّ السَّاعة تأتي بغتة، فقال: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)، أي: فجأةً من حيث لا تشعرون، لم يستعِدُّوا لها، ولم يتهيأوا لقيامِها. وتأملوا قوله: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا)، أي: هم حريصون على سؤالِكَ عن الساعةِ، كأنَّكَ مستحفٍ عن السؤالِ عنها، ولم يعلَمُوا أنَّك -لكمال عِلْمِك بربِّك، وما ينفع السؤالُ عنه- غيرُ مبالٍ بالسؤال عنها، ولا حريصٍ على ذلك، فلِمَ لا يقتدون بك، ويكفون عن الاستحفاء عن هذا السؤال الخالي من المصلحة المتعذِّرِ علمُه، فإنه لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرّب.
وهِيَ مِن الأمور التي أخفاها اللهُ عن الخلق؛ لكمال حكمَتِه وسِعة علمه، (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)؛ فلذلك حَرِصوا على ما لا ينبغي الحرصُ عليه، وخُصوصًا مثل حال هؤلاء الذين يتركون السؤالَ عن الأهمِّ، ويَدَعُون ما يجب علَيْهم من العلم، ثم يذْهَبون إلى ما لا سبيلَ لأحدٍ أن يُدْرِكَه، ولا هم مُطالَبُون بعلمه"(تفسير السعدي: ص310).
قال القرطبيُّ عند قولِه -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا): "أي: عالم بها، كثير السؤال عنها. والحفيُّ المسْتَقْصِي في السؤال. قال محمد بن يزيد: يسألونك كأنَّك حَفِيّ بالمسألة عنها، أي: مُلِحٌّ"(تفسير القرطبي 7/ 336).
فلم يكن مِنْ هَدْي النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الانشغال بهذا السؤال، ولا السؤال عنه؛ لأن عَلْمَه مِمَّا قُطِع عنه وعنَّا.
وتأمَّلُوا قوله -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)[النازعات:42-46]؛ فالله يُخْبِر عن سؤالِهم وتعنُّتِهم، فأجابهم الله بقوله: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا).
قال السعدي -رحمه الله- عند قوله -تعالى-: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا): "أي: ما الفائدة لك ولهم في ذِكْرِها، ومعرفة وقتِ مجيئها؟ فليس تحتَ ذلك نتيجةٌ، ولهذا لما كان عِلْمُ العباد للساعةِ ليس لهم فيه مصلحةٌ دينيَّةٌ ولا دنيويَّةٌ، بل المصلحة في خفائه عليهم، طَوى علم ذلك عن جميع الخلق، واستأثر بعلمه فقال: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا)، أي: إليه ينتهي علمها، وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)؛ أي: إنما نذارتك "نفعها" لمن يَخْشَى مجيءَ الساعة، ويخاف الوقوفَ بين يديه، فَهُمُ الَّذين لا يهمُّهم سوى الاستعدادِ لها والعمل لأجلها. وأما من لا يؤمن بها، فلا يُبالي بِه ولا بتعنُّتِه؛ لأنه تعنُّتٌ مبنيٌّ على العناد والتكذيب، وإذا وصل إلى هذه الحال، كان الإجابة عنه عبثًا، يُنَزَّه الحكيم عنه"(تفسير السعدي: ص910).
وقد أخبرَ الله -عز وجل- أنَّ عِلْم الساعة عنْدَه لا يعْلَمُه مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)[لقمان:34]، وقال: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا)[طه:15]، وإنَّما أخفى اللهُ وقتَها لحكمةٍ عظيمةٍ، وهي دَفْعُ النَّاس إلى العمَلِ باستمرارٍ؛ حتى لا يَتَوَانَوْا أو يَتَكاسَلُوا لِعلْمِهم بوقوعها.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا * إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)[الأحزاب: 63-68].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكْرُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنَّ لَا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الدَّاعِي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانِه.
أمَّا بَعْدُ: مَعْشَرَ الإِخْوةِ: إن القضيَّةَ الكبيرةَ ليست هي معرفةَ وقوع الساعةِ، وإنما القضيَّةُ هي: مَا أَعْدَدْتَ لها؟ وهذه هي إجابة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَما ألحَّ عليه السؤالَ، كما جاءَ ذلك في الصحيحين من حديث أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ؟ قَالَ: "وَيْلَكَ! وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: "إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، فَقُلْنَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا(أخرجه البخاري: 5815).
فقولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "ويلك" دليل على أن هذا السؤالَ وانشغالَ الذِّهن به من الْعَبَثِ وَمِن الْكَسَلِ، بل التفكيرُ الجادُّ والحقيقيُّ والمثْمِرُ هو بالإعداد لها والتزوُّد للآخرة.
ونحن في زمنٍ شُغِلَ النَّاس فيه بِالحديث عن القيامةِ وأشراطِها، فبينما ترى الإنسانَ مقصِّرًا في عبادَتِه وفي واجباتِه، تراه قد أجهد نفسَه بالسؤال والبحث عن الساعةِ وعلاماتِها، بَلْ رأينا مَن ترك أمورَه الحياتيَّة حينما رَأَى الأحداثَ والْفِتَنَ بدأَ يُفسِّرها بقُرب قيام السَّاعة، فترك معيشتَه وأَتْعَبه الوَسْوَاس والتَّفكيرُ؛ حتَّى قَضَى على نفسِه قبْلَ يَوْمِه، ومَا عَلِمَ أنَّ هذا الأمرَ لا يُمْكِن الوصولُ إليه، وقد تصوَّر بعضُ أهل العلم في عصور مختلفةٍ -تبعًا لأدلةٍ فَهِمُوها- أنَّ الساعةَ قد آذَنَتْ في وقتهم.. ثُمَّ مَضى بعدَ وقتِهم مِئاتُ السِّنينَ.. وَلا تزال الساعةُ غيبًا من غيبِ اللهِ لم يعلَمْه أحدٌ.
وَإِذا كانتْ ساعةُ الإنسان تَحين إِذا مات؛ فلماذَا تَشْغلُ نفْسَك بـ"ساعة الدنيا كلها"؟! ليس لأحدٍ مهما كانَ أن يجزم بوقتِ خُرُوجِ علامةٍ من علامات الساعة؛ لأن هذا غيبٌ لا تدرِكُه الأذهان، وقد حاول بعضُ الكُتَّاب التنبؤَ ببعض ذلك، ثُمَّ ظهر كَذِبُه، أَوْ جهْلُه.
والمجْزُومُ بِه أنَّه منذُ بُعِث النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- والساعة قد قربت؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: "بُعِثْتُ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ"(أخرجه البخاري 6139)، بل قال الله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)[القمر:1] ؛ فالسَّاعةُ قريبةٌ، ولكن يبقى العملُ.
وكم رَأَيْنا من اسْتولَتْ عليه فكرة المهديِّ، وأنَّه المهديُّ المنتظر! وكمِ ادَّعاها مِن أُنَاسٍ، فماتوا وما بقوا! والمهديُّ لم يأتِ بعْدُ. ومِن العجيب أن مُدَّعِي المهديّ كثيرًا ما تَتَلَبَّس هذه الدعوى بمرضى النُّفوس، ومَن أُصيب بأمراضٍ نفسيَّةٍ، أو كان مِمَّنْ يَتناول أمورًا مُحَرَّمةً، حتى يأتيَ بمثل هذه الدَّعَاوى الباطلةِ، وفي كلِّ يومٍ نسْمَعُ مَن يدَّعِي هذه الدعوى الباطلةَ.
ثُمَّ إِنَّ التعلُّقَ بِمثل هذِه إنما هو تَعَلُّقُ الْعَجَزَةِ؛ فالله -جل وعلا- أَمَرنا بِرَفْع الدِّين، مُنذ عهد الصحابةِ، وأَمَرَنا بالْعَمَلِ والْجَدِّ والتزوُّدِ للآخرة، فهذا هو الحزم.
ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين.