الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | عبدالله محمد الطوالة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
القرآن دليلُ ومنهج المسلمين، دُستور حياةِ المؤمِنين، هو كلِّيّةُ الشريعة، عَمود الملّةِ، ينبوع الحكمة، آيَة الرِّسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ بغَيره، وإذا كانَ كذلك لزِم مَن رامَ الهدَى والنّورَ والسعادة في الدّارين أَن يتَّخِذه سَميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه جليسَه على مرِّ الأيّام واللّيالي، نَظرًا وعمَلاً، قولاً وفعلاً، ومن فعل ذلك فيوشِك أن يَفوزَ بالبُغيةِ، وأن يَظفرَ بالطّلبَة، وأن يجِد نفسَه معَ السّابقين وفي...
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: كانتِ البشريّةُ تعِيش في ظلامٍ دامِس ولَيل بهيمٍ، لعِبت بعقولِها انحرافاتٌ وخُرافات، حتى أكرَم الله هذه البَشريّةَ وأنزل علَيها القرآن؛ ليخرِجَها من الظلمات إلى النّور ومِن الخضوعِ للأوثان والأصنامِ إلى خضوعٍ كامِل للواحِد الديّان.
أنزل الله القرآنَ معجزةً خالِدة، وتحدَّى به الثّقلَين، فأذعَن لفصاحَتِه بلَغاؤُهم، وانقاد لحُكمِه حُكَمَاؤهم، وانبَهَر بأسرَارِه علماؤهم، وانقطَعَت حُجَج معارِضيه، وظهَر عَجزُهم، كيف لا وهو كلام الحكيمِ الخبير الذي لا يطاوِله كلام ولا يجاريه أسلوب؟! قولُ موجز ولفظ معجز.
يسَّر الله ذكرَه للذاكرين، وسهَّل حِفظَه للدّارسين، فهو للقلوبِ ربيعُها وللأبصارِ ضياؤها، إنه نورٌ مبين، وإلى النّور يهدِي، إنه الحقّ المبين وإلى الحقِّ يرشِد، إنه الصِراطُ المستقيم وإلى الجنّةِ يوصل، لا تملُّه القُلوبُ الصافية، ولا تشبع منه العلماء العاملة، ولا تنقضي عجائبه، ولاَ يخلَق معَ كثرةِ التّرداد.
القرآن دليلُ ومنهج المسلمين، دُستور حياةِ المؤمِنين، هو كلِّيّةُ الشريعة، عَمود الملّةِ، ينبوع الحكمة، آيَة الرِّسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ بغَيره، وإذا كانَ كذلك لزِم مَن رامَ الهدَى والنّورَ والسعادة في الدّارين أَن يتَّخِذه سَميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه جليسَه على مرِّ الأيّام واللّيالي، نَظرًا وعمَلاً، قولاً وفعلاً، ومن فعل ذلك فيوشِك أن يَفوزَ بالبُغيةِ، وأن يَظفرَ بالطّلبَة، وأن يجِد نفسَه معَ السّابقين وفي الرَّعيل الأوّل.
ذلك الجيلُ المبارك الذي ساروا على نهج القرآن، فأصبَحوا خيرَ أمّةٍ أخرِجَت للناس، لم يكُن القرآن عندَهم محفوظًا في السّطور، بل كان مَكنونًا في الصّدور ومحفوظًا في الأخلاقِ والأعمال، يَسير أحدُهم في الأرضِ وهو يحمِل أخلاقَ القرآن وآدابَه ومبادِئَه.
عباد الله: حتى الأعداء قد شَهِدوا بعظمةِ القرآنِ وسموِّ معانيه، والحق ما شهدت به الأعداء فلقد أتَى الوليد بنُ المغيرةِ وهو من هو في العداوة والكفر.
أتى مرةً إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم يقول: يا محمّد، اقرَأ عليّ القرآنَ، فيقرَأ عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
ولم يكَد الرسولُ صلى الله عليه وسلم يَفرغ مِن تلاوتها حتّى يطالِبه الخَصمُ الألَدّ بإعادَتها، مأخوذاً بجلالةِ لفظِها وقدسيّه معانيها، ورَصانَة بنيانها، وقوّةِ تأثيرها، ثم ما لبَث أن سجّل اعتِرافَه بعظمةِ القرآن قائلاً: "والله، إنَّ لَه لحلاوةً، وإنّ عَليه لطَلاوَة، وإنّ أسفَلَه لمورِقٌ، وإنَّ أعلاَه لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر".
ولا تستغربوا عباد الله هذه الشهادة أو غيرها من شهادات الأعداء فللقرآن قوة وعظمة تتصدع لها صُمُّ الجبال: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر: 21].
معاشر الصائمين: لقد وفقكم الله تعالى لبلوغ شهر رمضان وإدراك خيراته والتماس أنواره وبركاته.
وإنها لفرحة عظيمة تغشى عباد الله المؤمنين، يضيء لها محياهم، وتشرق حياتهم، وتستنير قلوبهم، ولكن فرحة رمضان إنما تكون بعمارته بالأعمال الصالحة، وإحيائه بالفضائل والطيبات، والاندراج في قافلة المسارعين والمسابقين في الخيرات، فإن ربكم تعالى يقول: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ)[البقرة:148].
فسروركم برمضان يعنى الجد والعمل وترك التواني والكسل، يعني استنفار كل الطاقات، واستغلال كل اللحظات والتنافس في الطاعات والمسارعة في الخيرات، فالفرصة أيام معدودة، وساعات محدودة، سرعان ما تنقضي.
عباد الله: وإن أفضل الأعمال استثمارا لأوقات رمضان، هو ذكر الله تعالى، فقد جاء في الحديث الحسن: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وارفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم"، قالوا بلى: قال: "ذكر الله تعالى".
ولا شك يا عباد الله أن أفضل الذكر هو قراءة القرآن، ورمضان شهر القرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185].
والقرآن كريم، جد كريم، قرآن عجيب ذو كرم وسخاء، وجود وعطاء، استمع إلى الحق جل وعلا يقرر هذه الحقيقة الكبرى بعد قسم عجيب لم يرد في القرآن مثله.
قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة: 75- 77].
فالقسم عظيم والمقسم عليه هو كرم القرآن وسخاؤوه، ثم إن هذا العطاء القرآني السخي، على كثرته فهو مبارك أيضاً قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155].
إذن فالقرآن كريم يعطي بسخاء، وعطاؤوه فيه بركة.
روى الترمذي والحاكم بسند حسن عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حلِّه -يعنى صاحبه-، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب، زده، فيُلبَس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب، ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارتق، ويزداد بكل آية حسنة".
وعن نس بن مالك رضي لله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" فإذا كان القرآن الكريم المبارك سيوصل صاحبه إلى أن يكون من خواص الملك يوم القيامة فهل بعد هذا من كرم وبركة.
من أجل هذا جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس تحسُّر أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها".
يا صائمون: القرآن ربيع القلوب، ونور الصدور، وحُداء الصائمين، وروضة القانتين: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت: 51].
وإن لذائذ الدنيا لتهون عند لذة القرآن وفرحته وحلاوته: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
أيها الصائمون، لقد كان صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم مُزدانًا بقراءة القرآن ذكرًا وتلاوة وتدبرًا، فقد كان القرآن سميره وأنيسه، وميدانه وبستانه، يذاكره جبريل عليه السلام القرآن كل سنة، فيقف عند مواعظه ويتأمل أسراره ويتدبر معانيه وأحكامه.
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9].
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وجنبنا الغفلة والعصيان. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الحمد لله وكفى ..
وبعد:
فقد أدرك السلف الصالحون والتابعون لهم بإحسان سر عظمة القرآن، فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظه وحلاوته، وفى المواسم الفاضلة يزداد التعلق ويشتد التسابق، وتشتعل الهمم والعزائم، وتبيت نفوس الصالحين في موكب القرآن هنيّة طيبة نديّة: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
ومن ثم فلقد كان لهم أحوال عجيبة مع القرآن، ننقل إليكم بعضها لتكون حافزًا إلى الخيرات وسائقًا لطلب الدرجات.
قال عبد الله بن مسعود: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون".
وقال معاذ رضي الله عنه في مرض موته: "اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا غرس الأشجار، وإنما لمكابدة الساعات وظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".
وقيل لأبي الدرداء وكان لا يفتر من الذكر: "كم تسبح في كل يوم؟ قال: مائة ألف مرة إلا أن تخطئ الأصابع".
وقال سلام بن أبي مطيع: "كان قتادة يختم القرآن في سبع، فإذا جاء رمضان ختم القرآن في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة".
وفي ترجمة ابن عساكر رحمه الله قال ابن القاسم: "كان أبي مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على كل لحظة تذهب في غير طاعة".
الله أكبر! ما أعلاها من همم، وما أشدها من عزائم.
هكذا عرف السلف قدر القرآن، أيقنوا أنه مادة الحياة، فذابوا فيه، كشفوا أسراره، فما رضوا بسواه، وجدوا حلاوته فهانت كل اللّذائذ دونه.
قال وهيب بن الورد: قيل لرجل: ألا تنام؟! قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي.
وقال محمد بن كعب: "كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه"، يشير إلى سهره وطول تهجده.
وقال الحسن رحمه الله: "والله، ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته".
وقال وهيب رحمه الله: "نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرقَّ للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره".
وقال عثمان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".
وقال ثابت البُناني رحمه الله: "كابدتُ القرآن عشرين سنة، وتمتعت به عشرين سنة".
أيها الصائمون: هذا شيء من كرم وبركة القرآن، وهي إنما تُدركُ بالتفهم والتدبر، وليس بالهذ والاستعجال، فلقد قرأ أقوام القرآن وأكثروا منه فلم يجاوز تراقيهم.
فاقرؤوا القرآن مرتلين متدبرين متعظين، وحركوا به القلوب، وقفوا عند عجائبه، وتأملوا أسراره، فما وقع في القلوب منه فرسخَ نفع بإذن الله: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29].
ثم صلوا عباد الله..