البحث

عبارات مقترحة:

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

العين حق

العربية

المؤلف سليمان الحربي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه - المهلكات
عناصر الخطبة
  1. قصة وعبرة .
  2. العين حق .
  3. الواجب على من رأى شيئًا يعجبه .
  4. أهمية التحصُّن بالأذكار الشرعية ورقية الأبناء .
  5. خطورة توهُّم العين والانشغال الزائد بها .
  6. رسالة إلى العائن والمعيون. .

اقتباس

لا تظُنَّ أنَّك لم تَقْتُلْ مَا دُمْتَ لم تُزْهِقْ نفسًا بسكِّينٍ أو سِلاحٍ، وأنْتَ قَدْ قتَلْتَ أنْفُسًا بحَسَدِكَ وعيْنِك. كَمْ قتيلٍ لهؤلاءِ سيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيامَةِ متعَلِّقِينَ بِرَقبَةِ هؤُلاءِ الحَسَدَةِ؟! كَم شتَّتَ هذا الحاسِدُ مِن أسْرَةٍ؟! كَمْ أفْقَدَ مِن وَلَدٍ؟! كَمْ أبَادَ مِن ثَرْوَةٍ؟!..

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله -أيُّها المسْلِمونَ- حقَّ تُقاتِه (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

مَعْشَرَ الإِخْوةِ: لما أرْسَل يعقوبُ -عليه السلام- أوْلادَه إِلى مِصْرَ، ومَعهُم شقِيقُ يُوسُفَ -عليه السلام- لِأَجْلِ الميرَةِ والحصُولِ عَلى الطَّعامِ، وكَانُوا فِي فِلِسْطِينَ قَدْ أصَابَهُمُ الجَدْبُ وَالْفَقْرُ، بَيْنَما فِي مِصْرَ حِينَما تَولَّى يُوسُفُ خَزائِنَ الْأَرْضِ دَبَّرَها أحسنَ تدبيرٍ، فَزَرَعَ فِي أرْضِ مِصْرَ جَمِيعِها فِي السِّنِينَ الخْصَبَةِ، زُروعًا هائِلَةً، واتَّخذَ لها المحَلَّاتِ الْكِبارَ، وَجَبَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ شَيْئًا كَثيرًا وَحَفِظَهُ، وَضَبَطَهُ ضبْطًا تامًّا.

لمَّا أَرَادُوا أنْ يُسافِرُوا قَال لهم يَعقُوبُ -عليه السلام- وَأوْصَاهُمْ إِذا هُمْ قَدِمُوا مِصْرَ، أن (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ)[يوسف:67]؛ وذَلِك أنَّه خافَ عليْهِمُ الْعَيْنَ؛ لِكثْرَتِهم وبَهاءِ مَنْظَرِهم؛ لِكوْنِهم أبناءَ رجُلٍ واحدٍ.

قالَ الْقُرْطِبِيُّ -رحمه الله- فِي تفسِيرِها: "لمَّا عَزمُوا عَلى الخُروجِ خَشِيَ علَيْهِم الْعَيْنَ، فأمَرَهُمْ أَلَّا يَدخُلوا مِصْرَ مِنْ بَابٍ، وكانَتْ مِصْرُ لَها أرْبَعَةُ أبْوابٍ، وَإِنَّما خَافَ عليْهِمُ الْعَيْنَ لِكوْنِهم أَحَدَ عَشَرَ رجلًا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَكانُوا أَهْلَ جَمالٍ وَبَسْطَةٍ، قَالَه ابْنُ عبَّاسٍ، والضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهم"(تفسير القرطبي: 9/226).

إِصابَةُ الْعَيْنِ أَوِ النَّظْرَةُ هِي نَظَرٌ بِاسْتِحْسَانٍ، مَشُوبٍ بِحَسَدٍ، مِن خَبِيثِ الطَّبْعِ، يحْصُلُ لِلْمَنْظُورِ مِنه ضَرَرٌ، وَقَدْ حَاوَلَ كُفَّارُ مَكَّة أن يُصِيبُوا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْعَيْنِ، لَكِنَّ اللهَ حَمَاهُ وَوَقَاهُ، قَال -تعالى-: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لـمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ)[القلم:51]، قالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تفسيرِها: "أَخْبَر بِشِدَّةِ عَداوَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَأرَادُوا أنْ يُصُيبُوهُ بِالْعَيْنِ"(تفسير القرطبي 18/ 254).

وقَدْ أَجْمَعَ أهْلُ السُّنَّةِ عَلى الْإِيمانِ بِالْعَيْنِ، وأنَّها حَقٌّ، كَمَا جَاءَ ذَلِك في الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: "الْعَيْنُ حَقٌّ"(أخرجه البخاري: 5408)، وزادَ أحْمَدُ فِي مسنَدِه: "وَيَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ، وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ"(مسند أحمد 2/ 239).

قال ابْنُ حَجَرٍ -رحمه الله-: "وَقَدْ أُشْكِلَ ذَلِكَ عَلى بعْضِ النَّاسِ، فَقالَ: كيْفَ تعْمَلُ الْعَيْنُ مِنْ بُعْدٍ حتَّى يحْصُلَ الضَّررُ لِلمَعْيونِ؟ وَالجَوابُ: أنَّ طَبائِعَ النَّاسِ تخْتَلِفُ، فقَدْ يكُونُ ذَلِكَ مِنْ سُمٍّ يَصِلُ مِنْ عيْنِ الْعَائِنِ فِي الهَواءِ إِلى بَدَنِ المعْيُونِ"(فتح الباري لابن حجر: 10/ 200).

إِذَن الْعَيْنُ لَا تخْرُجُ إِلَّا مِن نفْسٍ مريضةٍ ظالمةٍ حاقدةٍ، لا تظُنَّ أنَّك لم تَقْتُلْ مَا دُمْتَ لم تُزْهِقْ نفسَا بسكِّينٍ أو سِلاحٍ، وأنْتَ قَدْ قتَلْتَ أنْفُسًا بحَسَدِكَ وعيْنِك. كَمْ قتيلٍ لهؤلاءِ سيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيامَةِ متعَلِّقِينَ بِرَقبَةِ هؤُلاءِ الحَسَدَةِ؟! كَم شتَّتَ هذا الحاسِدُ مِن أسْرَةٍ؟! كَمْ أفْقَدَ مِن وَلَدٍ؟! كَمْ أبَادَ مِن ثَرْوَةٍ؟! كَمْ أَوْجَع فِي المصِيبَةِ؟!

وَالمشْكِلَةُ أنَّه لا يَشْعُرُ بِما أَوْجَع، رَوَى الْإِمَامُ أحْمَدُ وابْنُ حِبَّانَ وصحَّحَهُ عنْ أَبي أُمامَةَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَال: رأى عامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يغتَسِلُ، فَقالَ: واللهِ مَا رَأَيْتُ كَاليْومِ وَلا جِلْدَ مُخَبَّأةٍ عذْرَاءَ؛ قَال: فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأتَى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَامرًا، فتغيَّظَ عليْهِ، وَقال: "عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلَا بَرَّكْتَ، اغْتَسِلْ لَهُ"؛ فغَسل لَهُ عامِرٌ وجْهَه، ويَدَيْهِ، ومِرْفَقَيْهِ، ورُكْبَتَيْهِ، وأطرافَ رِجْلَيْهِ، وداخلةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صَبَّ عليْهِ، فَراح مَعَ النَّاسِ (أخرجه مالك: 1678، وأحمد: 16023).

فتأمَّلْ قولَ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟"؛ فيَا للهِ! كَمْ قَتِيلٍ لم يُعْرَفْ أنَّه مقْتُولٌ؟! وكَمْ قاتِلٍ لَا يدْرِي أنَّه قَاتِلٌ، حتَّى يأتِي يومُ الْوَعيدِ، (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[غافر:17]!

بَلِ المصيبَةُ والرَّزِيَّةُ حِينَما يتَندَّرُ أصْحابُ الْقُلوبِ المرِيضَةِ بِما اقْتَرفُوهُ وفَعَلُوهُ، ويتبَجَّحُونَ ويتحَدَّثُونَ، بَلْ وَيُهدِّدونَ، فَهذَا -واللهِ- الخُسْرَانُ المبِينُ، والظُّلْمُ الْكَبِيرُ.

لقدْ أمَرَ رسولُنا الْكَرِيمُ -عليْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وَأتَمُّ التَّسليمِ- الْعَائِنينَ خاصَّةً وَجَمِيعَ المسْلِمِينَ بِالتَّبْريكِ، إِذا رَأَوْا شَيْئًا أعْجَبَهُم، سواءٌ كَانَ هَذا الشَّيْءُ لَهُمْ أَوْ لِغَيرِهِمْ مِن إِخوَانِهم المسْلِمِينَ، وسواءٌ الَّذِينَ عُرِفوا بِالعَيْنِ والَّذِينَ لَمْ يُعْرَفُوا بِها، وسواءٌ كَانَ المرْئِيُّ المعْجِبُ نَفْسًا أَو مَالاً.

ألم يَقُلِ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- فِي الحدِيثِ السَّابِقِ: "هَلَّا بَرَّكْتَ"، قالَ الْإِمامُ مَالِكٌ -رحمه الله-: "يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أنْ يَقُولَ: مَا شَاء اللهُ لَا قوَّةَ إِلَّا باللهِ"(أحكام القرآن لابن العربي 3/ 233).

قال أبو العبَّاس القُرْطُبِيُّ: "وَاجِبٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ أعْجَبَهُ شيْءٌ أنْ يُبَرِّكَ، فإنَّه إِذا دَعا بِالْبَركَةِ صُرِفَ المحْذُورُ لَا محَالَةَ، أَلا تَرى قولَه -عليه السلام-: "أَلَا بَرَّكْتَ"، فدَلَّ عَلى أنَّ الْعَيْنَ لا تَضُرُّ ولا تَعْدُو إِذا بَرَّكَ الْعائِنُ، وأنَّها تعْدُو إِذا لَمْ يُبَرِّكْ، والتَّبرِيكُ أنْ يقولَ: تَبارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ، اللهُمَّ بَارِكْ فِيهِ"(تفسير القرطبي 9/ 227).

وقالَ العلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رحمه الله-: "وَإِذا كَان الْعَائِنُ يخشَى ضَرَرَ عَيْنِه، وَإِصابَتِها لِلْمَعِينِ، فلْيَدْفَعْ شَرَّهَا بِقَوْلِه: اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَيْهِ"(زاد المعاد 4/ 156).

أَعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالمينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر:18-19].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكْرُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنَّ لَا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الدَّاعِي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانِه.

أمَّا بَعْدُ: مَعْشَرَ الإِخْوةِ: قالَ شَيْخُ الْإِسلامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ -رحمه الله-: "الحَسَدُ مَرَضٌ مِن أمْرَاضِ النَّفْسِ، وهُو مَرَضٌ غالِبٌ، فَلا يخْلُصُ مِنه إِلَّا قَلِيلٌ مِن النَّاسِ؛ وَلهذَا يُقَالُ: مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ، لكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ والْكَرِيمَ يُخْفِيهِ، وقدْ قِيل لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَيَحْسِدُ المؤْمِنُ؟ فَقالَ: مَا أنْسَاكَ إِخْوةَ يُوسُفَ، لَا أَبَا لَكَ! وَلكنْ عمَهٌ فِي صدْرِك، فإِنَّه لا يَضُرُّك مَا لم تَعْدُ بِه يدًا ولسانًا. فمَنْ وَجدَ فِي نفسِه حَسدًا لِغَيْرِه فعَلَيْهِ أنْ يستَعْمِلَ معه التَّقْوى والصَّبْرَ، فيَكْرَه ذَلِك مِن نفسِه" (مجموع الفتاوى 10/125).

وقدْ جاءَتْ آثَارٌ صحَّحَها بعضُ أهلِ الْعِلْمِ عن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قالَ: "أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَّتِي بَعْدَ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ بِالْعَيْنِ"(أخرجه الطيالسي: 1760، والبزار كما في كشف الأستار:3052 وقال الهيثمي 5/106: رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ في الفتح 10/200: رواه البزار بسند حسن).

ولِذا كانَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كما فِي صَحِيح الْبُخارِيِّ يُعَوِّذُ الحسَنَ والحُسَيْنَ يقُولُ: "أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ"(أخرجه البخاري:3191)، ويقولُ: "هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يُعَوِّذُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِما السَّلَامُ"( أخرجه أحمد:2434).

ومَا أكثرَ الغَفْلَةَ فِي هذَا؟! فَإِذا كانَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعَوِّذُ هذَيْنِ الطَّاهِرَيْنِ وَفي بَيْتٍ طاهِرٍ، وَفي مجْتَمَعٍ طاهِرٍ، فَما بالُك بِوَقْتِنا؟! بَل إِنَّ الصِّغارَ -كَما قرَّره أهْلُ العِلْمِ- تُسْرِعُ إِلَيْهِم النَّظرَةُ وَالْعَينُ أكثرَ مِنْ غيرِهِم؛ مُسْتَدِلِّينَ بِما رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: "مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ". قَالَتْ: لاَ، وَلَكِنِ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ. قَالَ: "ارْقِيهِمْ". قَالَتْ: فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "ارْقِيهِمْ"(أخرجه مسلم: 2198)، فتأمَّل قولَها: "قالت: لا ولكِنِ العَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ".

وَلهذَا شُرِعَتِ الأذْكارُ وَالْأَوْرادُ الَّتي تَحمِي بِأَمْرِ اللهِ مِنْ هذا الدَّاءِ، وَمِنْ هؤلاء الظَّالمينَ، فيجْتَهِدُ المرْءُ بأنْ يُعِيذَ نفسَه وأولادَه ووالِدَيْهِ وزوجه بكلماتِ اللهِ التَّامَّةِ، مِن كُلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومِنْ كلِّ عينٍ لامَّةٍ، وَلا يُشْتَرَطُ أنْ يكُونُوا عِنْدَهُ؛ فالتَّعْوِيذُ دُعاءٌ للهِ، واستِعانَةٌ بِه.

ومِنْ أعْظَمِ ما تَعَوَّذَ بِه المتَعَوِّذُونَ مِن الشَّيَاطِينِ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أنَّ رسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الملْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ"(أخرجه البخاري:3119)، أيُّ فضْلٍ أعْظَمُ مِن هَذا! غَنِيمَةُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِه، وكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِن الشَّيْطَانِ، وعَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ.

وختَامًا -أيُّها الْإِخْوَةُ-: فإِنَّ كوْنَ "الْعَيْنِ حَقّ"، أمْرٌ ثابِتٌ شرْعًا وَوَاقِعًا وعقْلاً، وحِينَما تظْهَرُ أمَامَنا هذِه الحقِيقَةُ جَلِيَّةً، فَإِنَّ مِن الأخْطَاءِ الشَّائِعَةِ، وَالْبَلايَا المعَقَّدَةِ أنْ يُصْبِحَ المرَضُ بِالْعَيْنِ شَبَحًا مُرَوَّعًا، أوْ هاجِسًا مُتَدَلِّيًا إِلى الذِّهْنِ عِندَ كُلِّ وَخْزَةِ ألمٍ، أوْ نَكْسَةِ نفْسٍ، حتَّى يصِلَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ إِلى دَرجَةِ الْوَهْمِ لَدى النَّاسِ، فَإِذا مَا عطَس امْرُؤٌ قالوا: هَذِه عَيْنٌ، وَإِذا أخَذتْه سَعْلَةٌ قَالوا: إِنَّها الْعَيْنُ، وَإِذا ما أُصِيبَ أَو ابْتُلِي قَالُوا: يَا لَها مِنْ عَيْنٍ!

حتَّى لقَدْ أخَذَ الْوَهْمُ مِن الْبعْضِ مأْخَذَهُ، يمْشِي وأمامَهُ الْعَيْنُ، ويَنامُ كَذَلِكَ ويُصْبِحُ كَذَلِك، وهَذا هُوَ الدَّاءُ العُضَالُ؛ إِذ لَا يَزِيدُهُ الْوَهْمُ إِلَّا وَهَنًا.

وأُوَجِّهُ نَصيحَةً إِلى مَن يَجِدُ في نَفْسِه حَسدًا وَشُحًّا يَغْلِبَانِهِ، بِأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ، وأَنْ يخافَ لِقَاءَهُ، ولْيَعْلَمْ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَا تَضِيعُ، وأنَّ اللهَ سيَقْتصُّ لِلْمظْلُومِ فِي يومٍ تَحْتاجُ فِيه إِلى الرَّحْمَةِ، فانْتَبِهْ لِنَفْسِكَ، وَعَوِّدْ نفسَكَ عَلى التَّبْرِيكِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَا شاءَ اللهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ.

ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين