المولى
كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...
العربية
المؤلف | أحمد عماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المهلكات |
التجسس صورة من صور ضعف الإيمان، وضعف التدين، وقلة المراقبة، وهو من الجانب الأخلاقي والسلوكي يدل على دناءة النفس وخستها، وضعف همتها، وانشغالها بالتافه من الأمور عن معاليها وغاياتها. التجسس سبيل إلى قطع الصلات، وتقويض العلاقات، وظهور...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
حديثنا اليوم عن خلق ذميم، ووصف قبيح؛ يوغر الصّدور ويورث الفجور، مع داء يؤدّي إلى فساد الحياة وكشف العورات، ويورد صاحبه موارد الهلاك؛ إنه داء التجسس وتتبع العورات والزلات؛ داء يدل على ضعف الإيمان وفساد الخلق، ودناءة النّفس وخسّتها.
إننا أمام مرض عضال يصيب المجتمعات في مقاتلها، داء انتشر في الناس كالنار في الهشيم؛ فثمة أناس لا همّ لهم ولا شغل لهم إلا تتبع عورات الناس، وتصيّد زلاتهم، وعَدّ هفواتهم، يتفننون في التجسس وفضح الآخرين، والفرح بانكشاف ما ستروه، والمسارعة في إبداء ما أخفوه! لا لمصلحة تتحقق، ولا لمفسدة تتقى، وإنما لغرض الفضيحة وكشف الأسرار وإبداء العيوب والأخطاء، إما بدافع الفضول وحب الاستطلاع، أو بدافع الحسد وإرادة الانتقام، أو طمعا في حطام الدنيا الزائل.
ونحن في زمن المواصلات؛ حيث من السهل نشرُ الفضيحة وبثها في كل الاتجاهات في طرفة عين، فما هي إلا ضغطة زر فإذا بالفضيحة تعم الأرض كلها عبر القنوات والمواقع وشبكات التواصل الاجتماعي.
والتجسس -يا عباد الله- هو البحث عن العورات والعيوب، وكشف ما ستره الناس.
التجسس بحث عن معايب الناس وأسرارهم التي لا يرضون بإفشائها واطلاع الغير عليها.
التجسس تفتيش عن بواطن الأمور وخفيها.
وهنا لا بد أن نفرق بين التجسس الممنوع الذي يُقصَد به تتبعُ عورات الناس والكشفُ عن أسرارهم وإظهارُ معايبهم، دون أن يكون لصاحبه غرض مباح من جلب منفعة راجحة أو دفع مفسدة متوقعة.
وبين التجسس المشروع الذي يراد به كل تخطيط وتتبع يهدف إلى مصلحة الدولة في تعاملها مع أعدائها، أو إلى مصلحة المجتمع الإسلامي بتنقيَتِه وتطهيره من أهل الشر والفساد.
فلقد فرق أهل العلم بين تتبع العورات في الزلات والمخالفات التي لا تضرّ إلا مرتكبها فهذا تجسس محرم منهي عنه، وبين ما يفعله مَن يحافظ على الأمن والاستقرار من تتبع لآثار المجرمين المنحرفين، فهناك معاصٍ وجرائم كالقتل والسرقة، ونحو ذلك من الجرائم التي يباح من أجلها لأهل الاختصاص تتبعُ ومراقبة مرتكبيها حتى يحولوا بين المجرم وجريمته قبل وقوعها، وهذا أمر محصور ومؤطر، وليس ذلك لأحد إلا لمن كان له الأمر في ذلك، وهذا لا يُعَدّ من تتبع العورات، وإنما هو أمر واجب لدفع المفسدة والحفاظ على أمن العباد والبلاد.
للتجسس المذموم آثار قبيحة ونتائج سيئة على الفرد والأسر والمجتمعات والدول؛ لذا نهى الله -تبارك وتعالى- عنه عباده المؤمنين في آية محكمة وصريحة تدل على تحريمه، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12]، قال ابن جرير في تفسيره لهذه الآية: "قوله: (وَلَا تَجَسَّسُوا) يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره"، ثم ذكرَ أثرَ ابن عباس -رضي الله عنه- في ذلك إذ يقول: "نهى الله المؤمن من أن يتتبع عورات المؤمن".
كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شدد في النهي عن التجسس والتحذير منه، وبيّن أنه مُفسِدٌ للأخوّة، وسبب في تقطيع الأواصر والصلات بين المؤمنين؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً" (رواه البخاري (6064)، ومسلم (2563).
التجسس صورة من صور ضعف الإيمان، وضعف التدين، وقلة المراقبة، وهو من الجانب الأخلاقي والسلوكي يدل على دناءة النفس وخستها، وضعف همتها، وانشغالها بالتافه من الأمور عن معاليها وغاياتها، قال أبو حاتم -رحمه الله- في "روضة العقلاء": "التجسس من شعب النفاق، كما أن حسن الظن من شعب الإيمان".
التجسس سبيل إلى قطع الصلات وتقويض العلاقات، وظهور العداء بين الأحبة والأصحاب، وبث الفرقة بين الإخوان؛ فقد يرى المتجسِّسُ من المتجَسَّسِ عليه ما يُسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد والكراهية والبغضاء، ويدخل صدرَه الحرجُ والتخوف بسبب فقده للثقة في صاحبه.
بالتجسس تنهار القدوات، وتصغر في الأعين القامات، ويفقد الناس الثقة حتى في علمائهم وصلحائهم؛ فقد يكون الذي تتجسس عليه قدوة وأسوة في الخير والصلاح، لكنه بشر يعتريه ما يعتري البشر من التقصير والغفلة والإساءة والنسيان؛ فإذا رآه المتجسس على خطأ وأذاع أمره، ونشر خبره سقط من أعين الناس، وتلاشت بين الناس مكانته، فحُرِمُوا من خيره وصلاحه، ونصحه وتوجيهه.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها | كفى المرءَ نبلا أن تعد معايبُهْ |
التجسس داءٌ ينغص العيش ويفسد الحياة؛ حين تصبح الحياة مليئة بالشكوك والتخوفات، فلا يأمن الإنسان على خصوصياته وأسراره من أن تنكشفَ وتظهرَ للناس، بل يعيش المرء في حالة من الشك الذي لا ينتهي، والقلق الدائم الذي لا ينقضي؛ فعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "إنّك إن اتّبعتَ عوراتِ النّاس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم"، فقال أبو الدرداء: "كلمة سمعها معاوية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفعه الله –تعالى- بها" (رواه أبو داود (4880)، وأبو يعلى (13/ 382) (7389)، وابن حبان (13/ 72) (5760)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود)، وفي رواية أخرى عن معاوية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعرضوا عن الناس، ألم تر أنك إن ابتغيت الريبة في الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم" (رواه البخاري في الأدب المفرد (248)، والطبراني (19/ 365) (859)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (186).
التجسس سبيل إلى الكراهية والبغضاء، ودافع إلى العداوة والانتقام؛ فإذا علم شخص ما أنّ فلانا يتجسس عليه ويريد أن يهتك ستره ويفضح أمره، فربما سعى هو من جانبه إلى التجسس عليه وفضحه وهتك ستره، وهكذا يتدرج الشيطان بالناس حتى يوقعهم في العداوة والبغضاء والخصام والنزاع.
التجسس سبيل إلى إشاعة الفاحشة بين المسلمين وانتشار السوء بينهم؛ وذلك بما يحصل من نشر لما استتر من الفضائح، وإظهار لما خفي من السوءات.
والمجتمع الذي يريد منا الإسلام أن نكون عليه وأن نرقى إلى مستواه؛ مجتمع قد سما بنفسه عن سفاسف الأمور، وعن كل ما يوجب الضغينة، ويورث العداوة، ويوقد نار البغضاء والشحناء. مجتمع يبحث عن مواقع الإيجابيات فيما يعود على نسيجه بالترابط والتآزر والثقة، لذا توعّد الله -تعالى- من يفرح وتسرّ نفسه بظهور عورات المسلمين بالعذاب الأليم، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور: 19].
التجسس دليل بيّن واضح على سوء الطوية، وعن نفاق يعشش في قلب صاحبه، وأن صاحبه بعيد عن الإيمان وإن ادّعاه، بعيد عن التقوى وإن تزيا بلباسها، لذا كان نداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن هذه صفته بقوله: "يا معشر مَن آمَنَ بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته، ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته" (رواه أبو داود (4880)، وأحمد (4/ 420) (19791) عن أبي برزة الأسلميّ، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
ويكفي التجسس سوءا وقبحا أن صاحبه يُعَرّض نفسه لغضب الله وأليم عقابه في الآخرة، أما في الدنيا فيبقى مكروهاً مُبغَضاً عند الناس، فهو دائماً في محل الريبة والشك، لا يأنس الناس به، ولا يرتاحون بحضوره.
ويكفي التجسس سوءا وقبحا أن صاحبه كالذباب لا يكاد يقع إلا على المستقذرات والمنتنات والمستقبحات ذوقاً وعرفاً، بل وشرعاً؛ لأنه لا يبحث إلا عن العيوب والنقائص.
وللتجسس المذموم صور عديدة، ووسائل كثيرة، كلها تهدف إلى فضح الناس، وكشف مستورهم، والاطلاع على عوراتهم وأسرارهم، ومن ذلك: التجسس على بيوت الناس ومساكنهم: فمن الناس من ابتلي بهذا المرض، فتراه يتجسس على الناس في منازلهم وبيوتهم، للاطلاع على عوراتهم والكشف عن سوءاتهم، إما بالاستماع من وراء الأبواب والنوافذ، أو بالنظر فوق الأسطح، أو بالدخول في البيوت على حين غفلة من أهلها، أو باستئذان لغرض كاذب تافه كشرب الماء مثلاً والمقصود غيرُ ذلك؛ وكل ذلك من قبائح الأفعال التي نهى الله عنها ورسوله.
فما شرعَ اللهُ الاستِئذانَ عند دُخولِ البيوتِ إلا حماية لخصوصيات الناس، وحفاظا على أسرارهم، وصِيانة وسترًا لعوراتِهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) [النور: 27].
وقد بيَّن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حكمةَ هذا الاستِئذان والغايةَ من تشريعِه، كما في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعدٍ -رضي الله عنه- قال: "اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَرِ" (أي حتى لا يقع بصرُ الطارقِ على ما لا يريد أهل ذلك البيت أن يراه أحد).
التنصّتُ على الناس والاستماع إليهم خفية: وقد توعّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يستمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، بأن يُصَبّ في أذنه الرصاص المذاب يوم القيامة بسبب فعلته هذه؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ" (والآنك: الرَّصاص المُذاب).
محاولة الاطلاع على ما يخفيه الناس عن غيرهم: فمن الناس من تتطلع نفسه إلى معرفة ما يخفيه الناس في هواتفهم أو أوراقهم أو صورهم ونحو ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه" (أخرجه الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه-).
فاتقوا الله -عباد الله-، ودَعُوا التجسّسَ على الناس وتتبعَ زلاتهم وعوراتِهم؛ فذلك أتقى لربكم، وأسعدُ لقلوبكم، وأحسنُ لمعاشِكم ومَعادِكم، يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان -رحمه الله-: "الواجبُ على العاقلِ: لزومُ السلامةِ بتركِ التجسّس على عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسِه، فإنّ مَن اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، أراح بدنه ولم يُتعب قلبه، فكلما اطلع على عيبٍ لنفسِه، هانَ عليه ما يَرَى مثله مِن أخيه، وإنّ مَن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه، عَمِيَ قلبُه، وتعِبَ بدنه، وتعذَّرَ عليه تركُ عيوب نفسِه، وإنّ مِن أَعْجَزِ الناس مَن عابَ الناس بما فيهم، وأعجزُ منه من عابهم بما فيه، ومَن عاب الناس عابوه" (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، ص: 125).
لا تلتمسْ من مساوي الناس ما سَتروا | فيهتك الناسُ سترا من مساويكا |
واذكرْ محاسِنَ ما فيهم إذا ذُكِروا | ولا تعِبْ أحدا عيبا بما فيكا |
نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لحب الخير وعمل الصالحات، وأن يجنبنا التجسس على الناس واتباع العورات والزلات.
(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].
وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.