المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
الواجب على من أكرمه الله بسكنى هذا البلد المبارك الطيب أو الإقامة فيه لمدة محدودة، أن يرعى له حرمته، ويعرف له مكانته، وينزله منزلته، دون غلو أو جفاء، بل يقيم به وهو مراعٍ لآدابه، متبع في ذلك سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مقتف لآثاره، مهتد بهديه، ملازم لنهجه وطريقته، مجتهد بالقيام بطاعة الله، وفعل أوامره...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وراقبوه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه، ثم اعلموا -رحمكم الله- أن الواجب على من أكرمه الله بالسكنى في هذا البلد الطيب -أعني المدينة النبوية المنورة، طيبة الطيبة، مأرز الإيمان، ومهبط الوحي، ومهاجر النبي عليه الصلاة والسلام، ومثوى الحلال والحرام، ومهد الدعوة- أن يعرف لهذا البلد قدره، ويحفظ له مكانته، ويرعى له حقه، فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة جدًّا في بيان مكانة هذا البلد الشريف، ومنزلته الرفيعة، وفضله وفضل سكناه، والموت به والدعاء له بالبركة، وتحريمه كتحريم مكة، والتحذير الشديد من إحداث الحدث فيه، أو إيذاء أهله، أو التعرض لأحدٍ منهم بسوء.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن إبراهيم حرَّم مكة، ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثلما دعا إبراهيم -عليه السلام- لمكة". وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة: أن يُقطع عضاهها، أو يقتل صيدها، المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة". وروى البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المدينة حرام، ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً".
وروى البخاريُّ ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال". رواه البخاري ومسلم.
وروى البخاري ومسلم أيضًا عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اجعل لنا بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة". وروى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا"، وفي البخاري من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جُدُرات المدينة أوضع راحلته -أي حملها على سرعة السير- وإذا كان على دابة حركها من حبها". أي من حبه للمدينة. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
عباد الله: ولهذا فإن الواجب على من أكرمه الله بسكنى هذا البلد المبارك الطيب أو الإقامة فيه لمدة محدودة، أن يرعى له حرمته، ويعرف له مكانته، وينزله منزلته، دون غلو أو جفاء، بل يقيم به وهو مراعٍ لآدابه، متبع في ذلك سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مقتف لآثاره، مهتد بهديه، ملازم لنهجه وطريقته، مجتهد بالقيام بطاعة الله، وفعل أوامره، ساعٍ في بذل الخير والإحسان، مجانب للمنكرات والمحرمات والأهواء والمحدثات؛ فإن الطاعة في هذا البلد ليست كالطاعة في بلد آخر، والمعصية فيه ليست كالمعصية في بلد آخر، فالأعمال تتفاضل بتفاضل الأمكنة والأزمنة، وليس شيء يقدس الإنسان وينجيه من الخسارة والحرمان سوى عمله الصالح.
عباد الله: ومما ينبغي مراعاته في المدينة أن يعلم ساكنُها أنها محرمة كحرمة مكة، مع القيام بما يتعلق بذلك من أحكام، ومن ذلك ما ورد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني حرمت ما بين لابتي المدينة، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمن أنشدها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجر، إلا أن يعلف رجل بعيره".
عباد الله: وليحذر ساكن المدينة من أن يحدث فيها حدثًا، أو يؤوي فيها أحدًا من المحدثين؛ لئلا يتعرض بذلك لسخط الله ووعيده، وكيف يرضى لنفسه -من أكرمه الله بسكنى هذا البلد الطيب أو الإقامة به لفترة محدودة- أن يرتكب فيه الأمور المحدثة، والبدع المنكرة التي حذر منها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-؟! بل شدَّد في الوعيد على ذلك فقال -عليه الصلاة والسلام-: "من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
عباد الله: وليحذرْ ساكنُ المدينة من استجلاب الأطباق الهوائية المعروفة بالدشوش، والمجلات الهابطة، والصور الخليعة، والأفلام الساقطة... وغير ذلك من أنواع الشرور والعُهْر والفساد، مما يخلخل ديانة مشاهدها، ويذهب غيرته، ويفسد خلقه وأدبه، ويوقعه في حمأة الرذيلة والفساد، وبالله: كيف طابت نفس المحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والساكن في بلده أن يستجلب لهذا المكان الطاهر المبارك تلك البلايا والشرور؟! أصلح الله أحوالنا أجمعين، وبصرنا بدينه القويم، ورزقنا متابعة سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: وليحذرْ ساكنُ المدينة أو المقيم بها من التعرض لأهلها بسوء، أو التربص لهم بمكر وكيد، فيناله وعيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن فعل ذلك، ففي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا: "لا يريد أَحَدٌ أهلَ المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء". وفي البخاري عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يكيد أهلَ المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء".
وينبغي على ساكن المدينة أن يصبر على لأوائها وجهدها؛ فإن ذلك من أسباب نيل شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد تقدم في الحديث: "لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة". أسأل الله -جل وعلا- أن يكرمنا وإياكم بشفاعته.
وليتذكر -عباد الله- ساكنُ المدينة أنها مدرج الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأخيار من المهاجرين والأنصار، درجوا على هذه الأرض الطيبة، وتحركوا فيها، ومشوا في جنباتها على الخير والاستقامة والمحافظة والطاعة، وليحذر المسلم أن يتحرك عليها تحركًا يخالف تحركهم بأن يكون تحركه فيها على وجه يسخط الله ويعود عليه بالمضرة في الدنيا والآخرة.
وعلى ساكن المدينة -عباد الله- أن يجتهد في حب هذا البلد الطيب، مع القيام بمقتضى ذلك من الحقوق والآداب؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حبِّب إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكة أو أشد"، ونحن نقول -عباد الله-: اللهم حبب إلينا المدينة، وإنا لنسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحبب إلينا جميعًا المدينة، وأن يرزقنا حسن المقام بها، وأن يغفر لنا ما كان منا من خطأ أو تقصير، وأن يصلح حالنا، وأن يهدينا جميعًا سواء السبيل، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل و الجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والمحافظة على أوامره، واتباع سنة نبيه الكريم -صلوات وسلامه عليه-، ولنعلم -عباد الله- أننا جميعًا في دار عمل، وأنا مرتحلون منها إلى دار الجزاء، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد على آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم نصرًا مؤزرًا، اللهم أيدهم بتأيدك، واحفظهم بحفظك يا ذا لجلال والإكرام، اللهم انصر دينك وسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم- وعبادك المؤمنين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيما خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والعافية، وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ووفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رأفة ورحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا وأزواجنا وذرياتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر ذنوب المذنبين، وتب على التائبين، واكتب الصحة والعافية والسلامة لعموم المسلمين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأعنا على البر والتقوى، ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، اللهم حبب إلينا المدينة، ووفقنا لحسن السكنى بها، ووفقنا لطاعتك فيها يا ذا الجلال والإكرام، واستعملنا فيها على طاعتك، وجنبنا البدع والأهواء، إنك سميع مجيب قريب. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.