البحث

عبارات مقترحة:

الأحد

كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...

المقدم

كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...

القهار

كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...

عرض المرأة على الأكفاء

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات النكاح - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. الترغيب في تزويج الصالحين والظفر بهم .
  2. مشروعية عرض الرجل ابنته على الرجل الصالح .
  3. عرض السلف بناتهم على الصالحين .
  4. مخاطر الخضوع للتقاليد في أمور الزواج .
  5. ظاهرة عرض الفتيات أنفسهن في وسائل التواصل وخطورتها. .

اقتباس

وَتَسْتَمِرُّ النَّمَاذِجُ الْمُضِيئَةُ فِي تَارِيخِنَا؛ فَهَذَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْغَسَّانِيُّ يَحْكِي: أَنَّهُ كَانَ فَتًى مُشْتَغِلًا بِالطَّلَبِ عَلَى عَفَافٍ وَصَوْنٍ؛ فَأُعْجِبَ بِهِ شَيْخُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَحْمَانَ فَاسْتَدْعَاهُ وَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي وَعِنْدِي مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَبَقِيَتِ ابْنَتُهُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ، وَكَانَ يَصِفُ دِينَهَا وَعَقْلَهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ الْأَبُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الْكُفْءِ، الَّذِي يُحَافِظُ عَلَيْهَا وَيُكْرِمُهَا، وَيَتَّقِي اللَّهَ -تَعَالَى- فَيَقُومُ بِحُقُوقِهَا وَحُقُوقِ أَوْلَادِهَا؛ فَالْبِنْتُ أَمَانَةٌ فِي عُنُقِ أَبِيهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يُسَلِّمَ الْأَمَانَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[النُّورِ:32].

 

وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الزَّوَاجِ الْغَائِبَةِ فِي زَمَانِنَا عَرْضَ الْأَبِ ابْنَتَهُ عَلَى الْأَكْفَاءِ، مِمَّنْ يَرْضَى دِينَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ -تَعَالَى- قِصَّةَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ الْفَتَاتَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، وَكَيْفَ أَنَّ أَبَاهُمَا عَرَضَ عَلَى مُوسَى الزَّوَاجَ مِنْ إِحْدَاهُنَّ؛ لَمَّا أَخْبَرَتْهُ ابْنَتُهُ بِمَا رَأَتْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ فِي هَذَا الشَّابِّ الْكَرِيمِ؛ (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ)[الْقَصَصِ: 26-27]؛ وَهَكَذَا تَمَّ هَذَا الزَّوَاجُ الْمُبَارَكُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: "فِيهِ عَرْضُ الْوَلِيِّ بِنْتَهُ عَلَى الرَّجُلِ؛ وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ... فَمِنَ الْحَسَنِ عَرْضُ الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ، وَالْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ؛ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ".

 

وَقَدْ عَرَضَ عُمَرُ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَبَوَّبَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ "بَابُ عَرْضِ الْإِنْسَانِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ"؛ يُبَيِّنُ مَشْرُوعِيَّةَ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابَهُ، وَفِيهِ: "تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ، أَوْ حُذَيْفَةَ -شَكَّ عَبْدُ الرَّزَّاقِ-، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَلَقِيَنِي، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ ابْنَةَ عُمَرَ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَخَطَبَهَا إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئًا حِينَ عَرَضْتَهَا عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُهَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَوْ تَرَكَهَا نَكَحْتُهَا"(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ)؛ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: "وَفِيهِ: عَرْضُ الْإِنْسَانِ بِنْتَهُ وَغَيْرَهَا مِنْ مُوَلِّيَاتِهِ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ خَيْرَهُ وَصَلَاحَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَعْرُوضَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا اسْتِحْيَاءَ فِي ذَلِكَ"(فَتْحُ الْبَارِي).

 

وَهَا هِيَ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: "وَتُحِبِّينَ ذَلِكِ؟"، قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ؛ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي، فَقَالَ: "إِنَّ ذَلِكِ لَا يَحِلُّ لِي... فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

فَتَأَمَّلُوا: كَيْفَ عَالَجَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مَوْضُوعَ النِّسَاءِ الْأَرَامِلِ وَالْمُطَلَّقَاتِ وَمَنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ مِنَ النِّسَاءِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا هَذَا الْأَمْرَ دُونَ عِلَاجٍ شَرْعِيٍّ؟؛ فَكَانُوا يَعْرِضُونَ بَنَاتِهِمْ عَلَى الْأَكْفَاءِ مِنَ الرِّجَالِ، مِمَّنْ يَرْضَوْنَ صَلَاحَهُمْ، دُونَ حَيَاءٍ، وَلَا يَعْتَذِرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ بَنَاتِهِمْ عِنْدَهُمْ فَوْقَ كُلِّ اعْتِبَارٍ!.

 

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: وَهَكَذَا سَارَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ يَرْوِي كَيْفِيَّةَ زَوَاجِهِ؛ فَيَقُولُ: "كَانَ عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَبِيتُ عِنْدَ أُمِّهِ كَمَا يَبِيتُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَإِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا عِنْدَ أُمِّهِ جِئْتُهُ، فَيَقُومُ فَيُصَلِّي لَيْلَتَهُ، وَأَقُومُ إِلَى جَنْبِهِ أُصَلِّي حَتَّى الصَّبَاحِ، فَمَكَثْتُ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ؛ فَأَدْرَكَنِي يَوْمًا، وَأَنَا رَائِحٌ بِالْهَجِيرِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَاحَ بِي فَوَقَفْتُ، فَاتَّكَأَ عَلَى يَدِي حَتَّى بَلَغَ بَابَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ: أَفِيكَ خَيْرٌ؟، فَقُلْتُ: أَيْنَ يُذْهَبُ بِالْخَيْرِ عَنِّي؟!، قَالَ: أُزَوِّجُكَ ابْنَتِي أُمَّ حَكِيمٍ؛ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتَهَا مِنِّي، قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَخَلَ بِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَزَوَّجَنِي أُمَّ حَكِيمٍ"(مُخْتَصَرُ تَارِيخِ دِمَشْقَ).

 

لَقَدْ أَدْرَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ صَلَاحَ ابْنِ أَخِيهِ؛ لِمَا رَأَى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ مَعَهُ، وَتَبْكِيرِهِ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَرَغِبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّابُّ الصَّالِحُ زَوْجًا لِابْنَتِهِ، رَغْمَ شِدَّةِ فَقْرِهِ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ قَدْ طَلَبَهَا مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِابْنِهِ يَزِيدَ؛ إِلَّا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَضَّلَ ابْنَ أَخِيهِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، رَغْمَ مَالِهِ وَمُلْكِهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ وَالصَّلَاحَ عِنْدَهُمْ أَوْلَى مِنَ الدُّنْيَا وَالْمَالِ!.

 

وَمَنْ مِنَّا لَمْ يَسْمَعْ بِقِصَّةِ تَزْوِيجِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ابْنَتَهُ مِنْ تِلْمِيذِهِ كُثَيِّرِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ؟! فَعَنِ ابْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: "كُنْتُ أُجَالِسُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبَ، فَفَقَدَنِي أَيَّامًا، فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قُلْتُ: تُوُفِّيَتْ أَهْلِي، فَاشْتَغَلْتُ بِهَا، فَقَالَ: أَلَا أَخْبَرْتَنَا فَشَهِدْنَاهَا. ثُمَّ قَالَ: هَلِ اسْتَحْدَثْتَ امْرَأَةً؟ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ! وَمَنْ يُزَوِّجُنِي وَمَا أَمْلِكُ إِلَّا دِرْهَمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً؟! قَالَ: أَنَا، فَقُلْتُ: وَتَفْعَلُ؟! قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَحَمَّدَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَزَوَّجَنِي عَلَى دِرْهَمَيْنِ، أَوْ قَالَ: ثَلَاثَةٍ، فَقُمْتُ، وَمَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ مِنَ الْفَرَحِ، فَصِرْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَجَعَلْتُ أَتَفَكَّرُ فِيمَنْ أَسْتَدِينُ، فَصَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ، وَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، وَكُنْتُ وَحْدِي صَائِمًا، فَقَدَّمْتُ عَشَائِي أُفْطِرُ، وَكَانَ خُبْزًا وَزَيْتًا فَإِذَا بَابِي يُقْرَعُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟، فَقَالَ: سَعِيدٌ، فَأَفْكَرْتُ فِي كُلِّ مَنِ اسْمُهُ سَعِيدٌ إِلَّا ابْنَ الْمُسَيِّبِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَّا بَيْنَ بَيْتِهِ وَالْمَسْجِدِ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا سَعِيدٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! أَلَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ؟، قَالَ: لَا، أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تُؤْتَى؛ إِنَّكَ كُنْتَ رَجُلًا عَزَبًا فَتَزَوَّجْتَ، فَكَرِهْتُ أَنْ تَبِيتَ اللَّيْلَةَ وَحْدَكَ، وَهَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ مِنْ خَلْفِهِ فِي طُولِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا، فَدَفَعَهَا فِي الْبَابِ وَرَدَّ الْبَابَ"(سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ).

 

وَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْبِنْتَ الصَّالِحَةَ قَدْ خَطَبَهَا الْخَلِيفَةُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِابْنِهِ وَوَلِيِّ عَهْدِهِ الْوَلِيدِ؛ فَرَفَضَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِيَّاهُ، وَزَوَّجَهَا هَذَا الطَّالِبَ الْفَقِيرَ؟!

 

نَعَمْ؛ لَمْ تَكُنْ بَنَاتُهُمْ سِلْعَةً يَتَكَسَّبُونَ بِهِنَّ، وَيَبْحَثُونَ لَهُنَّ عَنْ أَصْحَابِ الْمَالِ وَالْمَنْصِبِ؛ بَلْ كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنِ الصَّالِحِينَ وَلَوْ عَلَى فَقْرٍ وَحَاجَةٍ؛ فَاللَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ؛ إِنَّهُمْ يَمْتَثِلُونَ قَوْلَ الْحَقِّ -سُبْحَانَهُ-: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)[النُّورِ: 26]؛ فَلِلَّهِ دَرُّهَا مِنَ امْرَأَةٍ فَاضِلَةٍ، يَقُولُ عَنْهَا زَوْجُهَا: "فَإِذَا هِيَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ، وَأَحْفَظِ النَّاسِ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَعْلَمِهِمْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَعْرَفِهِمْ بِحَقِّ زَوْجٍ".

 

وَهَكَذَا فَلْيُكُنِ الْأَبُ فِي الْحِرْصِ عَلَى أَمَانَةِ بِنْتِهِ، وَلْيُسَرَّ بِبِشَارَةِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْقَائِلِ: "مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ، فَصَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهِنَّ، وَضَرَّائِهِنَّ، وَسَرَّائِهِنَّ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُنَّ"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَوْ ثِنْتَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَوِ اثْنَتَانِ"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَوْ وَاحِدَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَوْ وَاحِدَةٌ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)

 

قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ -تَعَالَى-؛ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ الْأَوْفِيَاءِ، وَبَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَتَسْتَمِرُّ النَّمَاذِجُ الْمُضِيئَةُ فِي تَارِيخِنَا؛ فَهَذَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْغَسَّانِيُّ يَحْكِي: أَنَّهُ كَانَ فَتًى مُشْتَغِلًا بِالطَّلَبِ عَلَى عَفَافٍ وَصَوْنٍ؛ فَأُعْجِبَ بِهِ شَيْخُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَحْمَانَ فَاسْتَدْعَاهُ وَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي وَعِنْدِي مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَبَقِيَتِ ابْنَتُهُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ، وَكَانَ يَصِفُ دِينَهَا وَعَقْلَهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ".

 

وَهَذِهِ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي دَاوُدَ أَكْثَرَتْ عَنْ أَبِيهَا وَشَارَكَتْهُ فِي بَعْضِ شُيُوخِهِ، زَوَّجَهَا أَبُوهَا مِنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحْرِزٍ؛ "فَتًى كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فَاضِلًا مُقِلًّا فَأَعْجَبَهُ سَمْتُهُ، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: أَتُحِبُّ أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي؟ فَخَجِلَ الْفَتَى وَذَكَرَ حَاجَةً تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ، وَنَظَرَ لَهَا فِي دَارٍ وَزَفَّهَا إِلَيْهِ"(الذَّيْلُ وَالتَّكْمِلَةُ).

 

عِبَادَ اللَّهِ: أَرَأَيْتُمْ هَدْيَ نَبِيِّكُمْ وَسَلَفِكُمُ الصَّالِحِ، فَبِهِمْ فَاقْتَدُوا؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الْأَنْعَامِ: 90]، لَكِنَّنَا لَمَّا رَغِبْنَا عَنْ هَدْيِهِمْ؛ مُلِئَتْ حَيَاتُنَا تَعْقِيدَاتٍ، نَعْتَذِرُ بِالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ؛ حَتَّى ابْتَلَانَا اللَّهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي صَعَّبَتْ مَا هُوَ يَسِيرٌ!.

 

أَتَسْتَحُونَ مِنْ عَرْضِ بَنَاتِكُمْ عَلَى الشَّبَابِ الصَّالِحِ؛ لِتَصُونُوا كَرَامَتَهُنَّ، وَتَعُفُّوهُنَّ عَنِ الْحَرَامِ، وَهَلْ فِي الْإِعْفَافِ حَيَاءٌ؟! قَالَ أَنَسٌ: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَكَ بِي حَاجَةٌ؟، فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، وَاسَوْأَتَاهْ وَاسَوْأَتَاهْ، قَالَ: "هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ؛ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَهَذَا لَا يَعْنِي أَنْ يَعْرِضَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يَعْرِضُهَا عَلَى مَنْ يَثِقُ فِيهِ؛ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ وَالْأَمَانَةِ؛ كَمَا فِي الْقِصَصِ الَّتِي مَرَّتْ مَعَنَا، وَ"لَكِنْ لَا يُزَوِّجُهَا إِلَّا بِرِضَاهَا".

 

أَيُّهَا الْأَحْبَابُ: تَرَوْنَ الْفِتَنَ الَّتِي تَعُمُّ مُجْتَمَعَاتِنَا؛ فَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا أَكْثَرَ مِنْ ذِي قَبْلُ، وَكُلَّ عَامٍ هِيَ فِي ازْدِيَادٍ، وَمَعَ الِانْفِتَاحِ الْإِعْلَامِيِّ وَدُخُولِ الْإِنْتَرْنِتْ إِلَى كُلِّ بَيْتٍ، وَاخْتِلَاطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ؛ تَشْتَدُّ الْفِتَنُ، وَتَنْتَشِرُ الْعَلَاقَاتُ الْمُحَرَّمَةُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ؛ بِدَعْوَى الْحُبِّ وَالصَّدَاقَةِ وَالتَّعَارُفِ، عَبْرَ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى الْوَاقِعِ ثَانِيًا!.

 

وَمِنْ مَسَاوِئِ هَذِهِ الْمَوَاقِعِ تَخَصُّصُ بَعْضِهَا فِي الزَّوَاجِ، نِسَاءٌ يَعْرِضْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِهَذِهِ الْمَوَاقِعِ، وَيُرْسِلْنَ صُوَرَهُنَّ وَتَفْصِيلَاتٍ عَنْ حَيَاتِهِنَّ؛ إِنَّهُنَّ يَبْحَثْنَ عَنْ أَزْوَاجٍ، وَتِلْكَ غَرِيزَةٌ فِطْرِيَّةٌ، كَيْفَ نُغْمِضُ أَعْيُنَنَا عَنْهَا؟! فَإِنْ لَمْ نَفْتَحْ بَابَ الْخَيْرِ لَهَا؛ سَاعَدْنَا عَلَى فَتْحِ أَبْوَابِ الشَّرِّ أَمَامَهَا، وَكَانَ الْبَاطِلُ أَسْبَقَ إِلَى مُجْتَمَعَاتِنَا، وَلَعَلَّ مِنَ الْوَسَائِلِ الْبَدِيلَةِ عَنِ الْحَرَامِ وَالْمُعِينَةِ عَلَى الزَّوَاجِ الْحَلَالِ: الِاسْتِعَانَةَ بِأَئِمَّةِ مَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ، بِأَنْ يُخْبِرَ الْوَلِيُّ عَنْ مُوَلِّيَاتِهِ الصَّالِحَاتِ الرَّاغِبَاتِ فِي الزَّوَاجِ. وَمِنَ الْوَسَائِلِ الْبَدِيلَةِ كَذَلِكَ: أَنْ تُوجَدَ جَمْعِيَّاتٌ مَوْثُوقَةٌ يَقُومُ عَلَيْهَا أَخْيَارٌ صَالِحُونَ، تَعْمَلُ عَلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرَّاغِبِينَ وَالرَّاغِبَاتِ فِي النِّكَاحِ، وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ رَأْسَيْنِ بِالْحَلَالِ! فَلْنَتَّقِ اللَّهَ فِي بَنَاتِنَا، وَنَسْعَى فِي إِعْفَافِهِنَّ وَتَزْوِيجِهِنَّ بِالصَّالِحِينَ؛ "إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].