العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن الأجدر بالمسلمين اليوم وهم يعيشون البأساء والضراء، ويقاسون الآلام واللأواء، أن يَرِدوا بابًا من أبواب التيسير عظيمًا، وحكمة من حِكَم المصائب جليلة، إنه دعاء الله والتضرُّع إليه واللجوء في السراء والضراء إليه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
فهذا نداءٌ إلى مَن قلبه مكلوم، وفؤاده حزين، إلى مَن أكلته الهموم، وأحرقته المصائب والمِحَن، ودقَّ عظمَهُ الفقر؛ فأصبح مشتَّت الأفكار.
نداءٌ إلى من ضلَّ عن الطريق المستقيم وتاه في متاهات الضالين ونسي يوم الدين.
نداءٌ إلى مَن أُغْلِقَتْ دونه الأبواب، ومنعه الحُجّاب وأَيِسَ مما في أيدي الناس.
نداءٌ إلى كل عقيم، وإلى كل مريض، وإلى كل مبتلى.
نداءٌ إلى كل مكروب، نداء إلى كل مظلوم، إلى كل محروم.
نداءٌ إلى كل واقع في شدة، متورط في كُربة، غارق في معضلة، خائف من عدو، متطلع إلى النصر.
نداء إلى المرابطين في الثغور، نداء إلى كل مقهور ومكسور، إلى كل مدين، إلى كل حزين، إلى كل سجين.
إلى كل مَن يرى صور الإذلال للمسلمين فلا يستطيع لها رفعاً ولا دفعاً. إلى الأمة جمعاء وهي اليوم في كرب شديد وضائقة عظيمة وشدة كبيرة. وليس لها من دون الله كاشفة.
إلى هؤلاء وهؤلاء يصدر هذا النداء من رب الأرض والسماء (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر:60]، (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)[الأعراف:55]، (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[غافر:65].
إن من أمضى الأسلحة وأقوى العلاجات لمواجهة المصائب والمحن وللسلامة من الأزمات والفتن، ولعلاج الهم والحزن؛ إنما هو في الالتجاء إلى الله والتضرع بين يديه، والاحتماء بحماه.
الإنسان يكون في أشرف أحواله عندما يتبتل إلى الله ولا يرجو إلا إياه، ولا يأمل فيما سواه، فماذا يرجو الفقير من فقير مثله؟!، وماذا يبغي العاجز من عاجز مثله؟! إن المسلك الرشيد الوحيد ألا يقف المرء سائلاً إلا بباب الله القويّ الغنيّ، أما أن يتولد في نفسه رجاء عند ذي جاه من الخلق فهذا هو الحمق.
إن البشر يتهافتون على من يأنسون فيه القوة والغنى التماس جداء وابتغاء نداء، ولو عقلوا لعلموا أن ما لديه قطرة مُعارة، وأن أحق من يشدون إليه الرحال ويربطون به الآمال هو الكبير المتعال.
إنه الملك الجليل الشأن الذي انبسط سلطانه على كل شيء فهو في السماء إله وفي الأرض إله، ويعطي ويغدق؛ لأن الكمال نعته سواء عرف البشر ذلك أم أنكروا، وعطاؤه على قدر لعظمته، ومِن ثَمَّ فهو أحقّ مَن يُرْجَى ويُقْصَد، وما توقَّف مطلب أنت طالبه بربك ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك.
إن الإنسان عندما يشمخ بنفسه وبحوله وطوله، ويأنس بما أعد ويذهل عن الله الذي إليه تصير الأمور، والمهيمن على زمام الحياة فإن النتائج تفجؤه بما لا يتوقع.
في حُنَيْن استراح المسلمون لكثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، وتبخر اعتمادهم على السماء فكانت النتيجة (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)[التوبة:25]، بينما في بدر واجه المسلمون عدوهم مستظهرين ببأس الله وتضاعف دعاؤهم وذكرهم لله، فجاءت النتيجة نصراً باهراً (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[آل عمران: 123].
إن الأجدر بالمسلمين اليوم وهم يعيشون البأساء والضراء، ويقاسون الآلام واللأواء، أن يَرِدوا بابًا من أبواب التيسير عظيمًا، وحكمة من حِكَم المصائب جليلة، إنه دعاء الله والتضرُّع إليه واللجوء في السراء والضراء إليه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)[الأنعام: 42].
الدعاء -يا مسلمون- هو ملاك الأمر، وروح العبادة، ومرضاة الرحمن، وملاذ الإنسان، في الدعاء تتجلى حقيقة العبودية، وتكمن فيه روح الافتقار إلى الجبار، وليس شيء أكرم على الله -عز وجل- من الدعاء.
إنه زاد المؤمن، وسلوة العابد، وملاذ الخائف، وملجأ المكروب، يحبه الله ويفرح به ويغضب على من تركه، (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)[الفرقان:77].
الدعاء هو العبادة، وفي الدعاء ابتعاد عن الكبر (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر: 60].
الدعاء يخفف حدة الأقدار وقد يدفعها وفي الحديث: "ولا يرد القدرَ إلا الدعاءُ"؛ بالدعاء يُحْفَظ الأبرار ويُصَان الأخيار ويتحصن الأطهار، فنسيانه ضياعٌ، وتركه شقاءٌ، والتهاون به عجز، وفي الحديث: "أعجز الناس من عجز عن الدعاء".
إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً لا يخيب عبداً دعاه، ولا يرد مؤمناً ناجاه "يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلّا مَن هدَيْتُه؛ فاستَهْدوني أَهدِكم، يا عبادي، كلُّكم جائِعٌ إلا مَن أطعَمْتُه؛ فاستطعِموني أُطعِمْكم، يا عبادي؛ كلُّكم عارٍ إلّا مَن كسَوْتُه؛ فاستَكْسوني أَكْسُكُمْ"(رواه مسلم 2577).
وإن ربكم ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له".
أيها المسلمون: ولكي يكون الدعاء مستجاباً فلا بد أن يسبقه توبة من جميع الذنوب والخطايا، فيقر العبد بذنبه، ويعترف بتقصيره ويندم على تفريطه؛ فإن تَرَاكُم الذنوب من أسباب عدم الإجابة، كما قال بعض السلف: "لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي".
ولكي يكون الدعاء مستجاباً فلا بد أن يدعو المسلم وهو في حالة تضرع وخشوع وتذلل وخضوع، (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأعراف: 55].
ولكي يُستجاب الدعاء، فلا بد من الإلحاح على الله وكثرة السؤال وعدم السآمة والملل. والدعاء عبودية لله وافتقار إليه وتذلل بين يديه، وكلما كثّره العبد وطوّله وأعاده وأبداه ونوع جمله كان ذلك أبلغ في عبوديته وإظهار فقره وتذلـلـه وحاجته.
ولكي يستجاب الدعاء فلا بد من إطابة المطعم والملبس والمشرب، وفي الحديث: "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة".
إن دعوات المؤمنين الصادقة هي الطاقة الحيّة المعطاءة التي تبعث الروح في قلوب المؤمنين، وتدفعها إلى البذل والعطاء بصدق وإخلاص؛ فهي الجُنْد الذي لا يُغلب والسلاح الذي لا يُقهر. فلا تفقد السماء صوتك، وكن عبدًا إذا دعا عرفته الملائكة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد: إذا كان الله لا يستجيب دعاء الغافلين اللاهين، فقد جاء في الأثر: اعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاهٍ.
وإذا كان الله لا يستجيب دعاء المفسدين فقد قال -تعالى-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف: 56].
وإذا كان الله لا يستجيب دعاء آكلي الحرام وشاربيه ولابسيه، فإنه -تعالى- مع هذا لا يستجيب دعاء المستعجلين الذين يستبطئون النصر، ويستعجلون ثمار دعواتهم، ويترقبون في الصباح نتائج دعواتهم التي ضجوا بها في المساء.
ففي الحديث: "يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل، يقول: قد دعوتُ فلم يستجب لي. فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء".
إن الواجب على من أراد أن يحقق الله رجاءه، وأن يجيب دعاءه أن يدعو ربه وهو موقن بالإجابة عظيم الثقة بالله شديد الرجاء فيما عنده.
إن الله لا يعجل لعجلتنا، وإنما إجابة الدعاء مرهونة بحكمة يعلمها (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[القصص: 68]، وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير.
إن الله أمرنا بالدعاء ووعدنا بالإجابة ووعده لا يتخلف، ولكن من حكمته ورحمته أن يختار لعبده ما هو أنفع وأكمل وفي الحديث: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يَصرف عنه من السوء مثلها"، قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر، قال: "الله أكثر".
وأخيراً: لا يكشف الضر والبلوى سوى الله، وليس لها من دون الله كاشفة؛ فالجأوا إلى الله بالدعاء والافتقار، ولا تستعجلوا الإجابة وتستبطئوا الثمار؛ فإن الله يحب سماع دعوات عبده وبكائه وتضرعه.
لا تستبطئوا الإجابة، فلربما كان ما نعيشه من أمن ورخاء ثمرة دعوة ضجَّ بها الأولون، ولربما كانت دعواتكم اليوم سببًا في صرف ودفع مكروه في المستقبل فلا تملوا أو تكلوا.
ما أكمل الإنسان حينما تهدأ العيون وتهجع النفوس وتسود ظلمة الليل ينشط لذكر الله ويسكب العبرات ويظهر الحاجة والافتقار إلى مولاه ويعترف بعجزه وضعفه ويلح عليه بالثناء والتسبيح والتهليل، ويردد (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص: 24].
أليس فينا جاثّ على ركبتيه يدعو كما فعل الإمام أحمد حينما اشتد أذى المأمون فمازال يدعو حتى جاء الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل.
هل من جاث على ركبتيه، حلال لقمته، هاطلة دمعته يرمق السماء ببصره، ويدعو الله أن يزيح الغمة ويرحم الأمة؛ فإن حاجتنا والله للركب الجاثية والأعين الباكية لا تقل عن حاجتنا للخطط المحكمة والأطباء والأدوية، فاللهم دعوة مستجابة تريح بها البلاد والعباد من البلاء والوباء ومن شر الأشرار وكيد الفجار ومكر الكفار.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.