المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فاللهُ سُبُّوحٌ قدُّوسٌ حميدٌ عظيمٌ، يُحِبُّ مَنْ يعظِّمُه ويحمدُه ويسبِّحُه ويقدِّسُه، جمَع المحامدَ والمحاسنَ كلَّها وهو أهلٌ لها، وأَرَى خلقَه آياتِه؛ لِيُنَزِّهُوهُ عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، ويحمدوه على الكمال، ومن تنزيهه الإكثارُ من تسبيحه، والبُعْدُ عمَّا يُغضِبُه أو يَبْغَضُه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: الله متَّصف بالكمال في ذاته وأسمائه وصفاته، متنزِّه عن العيوب والنقائص وما لا يليق بجلاله وكماله، أثبَت لنفسه الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقرَن ذلك بالتسبيح، (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الْحَشْرِ: 24]، ومن أسمائه -تعالى- السُّبُّوح؛ أي المنزَّه عن كل سوء، و(سبحان الله) كلمة يعظِّم بها الرب وتعني أنه منزَّه عن كل عيب من الصاحبة والوالد والولد وغير ذلك، ومن كل نقص من العجز والنوم والموت وغيرها، وكل ما ينافي أسماءه وصفاته فهو منزَّه عنه، والله سبح نفسه في مواطن تعظيمه وإجلاله وتنزيهه ونَفْي ما نسبَه إليه المشركون، من الشركاء واتخاذ الولد، فقال: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الصَّافَّاتِ: 180]، وافتتَح سبعَ سور من كتابه بتسبيحه، وقرَن تسبيحَه بالتوكُّل عليه فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)[الْفُرْقَانِ: 58]، وتسبيح الله مع إثبات المحامد له أفضل الكلام وهو ما اصطفاه الله للمقرَّبين إليه، سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده"(رواه مسلم).
وحملةُ العرش لا ينقطعون عن التسبيح؛ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)[غَافِرٍ: 7]، والملائكة مع ما وُكِلَ إليهم من الأعمال العظيمة دائبون على التسبيح من غير انقطاع ولا تعب؛ (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 20]، وهم بتسبيح ربهم يَشرُفُونَ؛ (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)[الصَّافَّاتِ: 166]، وإذا قضى الله الأمر في السماء سبحت الملائكة حتى يبلغ تسبيحهم السماء الدنيا؛ تعظيما لأمر الله.(رواه مسلم).
والسموات والأرض ومن فيهن كلها تسبِّح لله مقرة بكماله خاضعة لسلطانه؛ (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الْحَدِيدِ: 1]، والرسل صفوة الخلق دعوا أقوامهم إلى التسبيح وتحلوا به، فموسى -عليه السلام- أرسله الله إلى فرعون فسأل ربه وزيرًا يشاركه في رسالته وكثرة التسبيح؛ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا)[طه: 29-34]، وزكريا -عليه السلام- بشَّره ربُّه بيحيى وجعَل له آية على وجود الولد؛ وهي عدم قدرته على كلام الناس إلا بالإشارة، وأمَرَه اللهُ وهو على تلك الحال بملازَمة التسبيح؛ فقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)[آلِ عِمْرَانَ: 41]، وخرج على قومه ولسانه محبوس عن كلامهم من غير آفة ولا سوء، وآمرهم بالإشارة بتسبيح الله؛ (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)[مَرْيَمَ: 11]، وشأن العلماء في الأمم تنزيه الله عن العيوب والنقائص؛ قال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا)[الْإِسْرَاءِ: 107-108]، والله أمَر نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- أن يسبحه أول النهار وآخره؛ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)[طه: 130]، وأول الليل وآخره؛ (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)[طه: 130].
ولعظيم شأن التسبيح وحاجة الخلق إليه فإن من مقاصد الرسالة دعوة الخلق إليه؛ قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْفَتْحِ: 8-9]، وبذلك أمر الله عباده: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 41-42]، والمؤمنون إذا سمعوا كلام الله؛ (خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)[السَّجْدَةِ: 15]، والمخلوقات على اختلافها تسبح لله؛ فالرعد يسبح له؛ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)[الرَّعْدِ: 13]، والطيور والجبال سبَّحت بتسبيح داود -عليه السلام-: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 79]، حتى النمل يسبح لله؛ قال عليه الصلاة والسلام: "قرصَتْ نملةٌ نبيًّا من الأنبياء فأمَر بقرية النمل فأُحرِقَتْ، فأوحى اللهُ إليه: أَنْ قَرَصَتْكَ نملةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ؟"(رواه البخاري).
وما من شيء في الكون إلا وهو يسبح لله ويحمده مُقِرًّا بكماله، خاضعًا لسلطانه؛ قال سبحانه: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[الْإِسْرَاءِ: 44]، وقد أسمَع اللهُ بعضَ خلقِه ما شاء من ذلك؛ قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كنا نأكل الطعام مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل"(رواه الترمذي)، والخَلْقُ كلُّهم مأمورون بتنزيه الله وإجلاله وعبادته، ومن استكبر منهم عن ذلك فالملائكة يسبحون اللهَ، واللهُ غنيٌّ عن جميع خلقه؛ (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ)[فُصِّلَتْ: 38]، والله سبَّح نفسَه المقدَّسةَ، وأرشَد عبادَه إلى تسبيحه في المساء والصباح؛ (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)[الرُّومِ: 17]، وهو من أفضل زاد الآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ ممَّا جاء به إلا أحدٌ قال مثلَ ما قال أو زاد عليه"(رواه مسلم).
والمساجد بيوت الله، أَذِنَ برفعها ليُذكَر اللهُ فيها ويُسبَّح؛ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)[النُّورِ: 36]، والصلاة استفتاحها وركوعها وسجودها تسبيح، وبعد الفراغ منها تسبيح مع تحميد وتكبير، وحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- كلها تسبيح، إذا قرأ القرآن ومرَّ بآية فيها تَنزِيهٌ لله سبَّح، وإذا قام من الليل يطيل التسبيح في ركوعه وسجوده، وإذا سمع ما لا يليق بجناب الربوبية سبح الله بل ويكرر تسبيحه حتى يعرف ذلك في وجوه أصحابه، وإذا ركب دابة في سفر سبح، وإذا نزل أو هبط واديًا سبَّح، وإذا رأى الأمر الذي يُتعجَّب منه سبَّح، وإذا أَوَى إلى فراشه سبَّح ثلاثًا وثلاثينَ مع تحميد وتكبير، والتسبيح مَفزَع الأنبياء عند الشدائد، يونس -عليه السلام- وهو في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت نادى ربَّه بالتوحيد والتسبيح؛ (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 87]، فنجَّاه اللهُ وقال: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصَّافَّاتِ: 143-144]، ولما تجلى الله للجبل وجعله دكًّا خرَّ موسى صَعِقًا وكان أول قوله حين أفاق: (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[الْأَعْرَافِ: 143]، وحدَث في الكون أمرٌ عجيبٌ بذَهابِ ضوءِ الشمسِ فخرَج النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من بيته فَزِعًا، فصلى وذكَر الله مع التسبيح حتى انكشف ما بهم، وحين اشتد أذى المشركين بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أمرَه اللهُ بالإكثار من التسبيح، قال عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)[طه: 130]، ولما أحاط به الهمُّ وضاقَ به الصدرُ من الأذى أخبرَه اللهُ أنَّ انشراح الصدر في التسبيح والصلاة؛ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[الْحِجْرِ: 97-98]، وتسبيح الله وذكره كما أنه قربة إلى الله، فهو قوة في البدن، اشتكت فاطمة -رضي الله عنها- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تعب الخدمة في بيت زوجها، فأمرها بالتسبيح والتكبير والتحميد. (متفق عليه).
وخير ما يختم به العبد مجلسه ذكر مطلع تسبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ جلَس في مجلس فكَثُرَ فيه لغطُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ، أشهدُ ألَّا إلهَ إلا أنتَ أستغفركَ وأتوب إليكَ، إلا غُفِرَ له ما كان في مجلسه ذلك"(رواه الترمذي).
ولَمَّا بلَّغ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ أمَرَه ربُّه بالإكثار من التسبيح؛ ليستكمل ما تبقَّى له من مقامات العبودية؛ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[النَّصْرِ: 1-3]، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة بعد أن نزلت عليه: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)[النَّصْرِ: 1]، إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"(متفق عليه).
والتسبيح لا ينقطع بانقضاء الدنيا، ففي يوم القيامة يتبرأ الملائكةُ مسبِّحين اللهَ ممَّن عبَدَهم من دون الله؛ قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ)[سَبَأٍ: 40-41]، وعيسى -عليه السلام- في المحشر يتبرأ ممن غلا فيه مسبِّحًا لله، منزِّهًا إياه من عبادتهم له؛ (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ)[الْمَائِدَةِ: 116]، وإذا تجلَّى اللهُ للفصل بكمال رحمته وعدله بين الخلائق يومَ القيامة؛ لتمييز مَنْ يدخل الجنة ممَّن يدخل النارَ تُسبِّح الملائكةُ بحمد الله وهم حافُّون مِنْ حولِ العرشِ؛ قال تعالى: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ)[الزُّمَرِ: 75]، وإذا دخَل أهلُ الجنةِ الجنةَ أولُ دعائهم فيها التسبيحُ؛ (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)[يُونُسَ: 10]، وإذا سكنوها لا يفارقهم التسبيحُ؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أهلَ الجنةِ يُلهَمُونَ التسبيحَ والتحميدَ كما تُلهَمُونَ النَّفَسَ"(رواه مسلم).
وبعد أيها المسلمون: فاللهُ سُبُّوحٌ قدُّوسٌ حميدٌ عظيمٌ، يُحِبُّ مَنْ يعظِّمُه ويحمدُه ويسبِّحُه ويقدِّسُه، جمَع المحامدَ والمحاسنَ كلَّها وهو أهلٌ لها، وأَرَى خلقَه آياتِه؛ لِيُنَزِّهُوهُ عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، ويحمدوه على الكمال، ومن تنزيهه الإكثارُ من تسبيحه، والبُعْدُ عمَّا يُغضِبُه أو يَبْغَضُه، ومن تعظيمِه كثرةُ حمدِه وفعلُ الطاعاتِ والثناءُ عليه في كلِّ حينٍ؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزُّمَرِ: 67].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيما لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون: التسبيحُ حقٌّ لله وحدَه، وهو يحيي القلوب ويحقق التوحيد، ويضاعف الأجور، فتسبيحةٌ واحدةٌ يُكتَب بها للعبدِ عشرُ حسنات، ويُحَطّ عنه من الخطايا مثلُها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيعجز أحدكم أن يكسب كلَّ يومٍ ألفَ حسنةٍ، فسأله سائلٌ من جلسائه: كيف يكسب أحدُنا ألفَ حسنةٍ؟ قال: يسبِّح مائةَ تسبيحةٍ، فيُكتَب له ألفُ حسنةٍ، ويُحَطُّ عنه ألفُ خطيئةٍ"(رواه مسلم).
والله يحب التسبيح والحمد، والميزانُ يَثقُل بهما، قال عليه الصلاة والسلام: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"(متفق عليه).
ووزنهما كبير ثقيل ترجُح بهما الصحف والموازين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأرض"(رواه مسلم)، وهما يحطان الخطايا وإن كثرت الذنوب، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ قال: سبحانَ اللهِ وبحمدِه مائةَ مرةٍ حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثلَ زَبَدِ البحرِ"(متفق عليه).
والتسبيح يعدل الصدقة بالمال؛ "إن بكل تسبيحة صدقة"(رواه مسلم)، ومن سبَّح اللهَ متدبِّرًا ما يقول وقلبه يواطئ لسانه عدل تسبيحُه أعمالَ المجتهِدين من العُبَّاد؛ خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من عند جويرية -رضي الله عنها- حين صلَّى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: ما زلتِ على الحال التي فارقتكِ عليها؟ قالت: نعم، قال: لقد قلتُ بعدَكِ أربعَ كلماتٍ، ثلاثَ مراتٍ، لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لَوَزَنَتْهُنَّ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه عددَ خلقِه ورضا نفسِه، وزنةَ عرشِه، ومدادَ كلماتِه"(رواه مسلم)، والسعيد مَنْ أكثرَ مِنْ تسبيحِ اللهِ وأفرَدَه بالعبودية.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئنًّا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ عهدِه لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، وانفع اللهم بهما الإسلام والمسلمين، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ربَّ العالمينَ.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، والله يعلم ما تصنعون.