القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | عكرمة بن سعيد صبري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - فقه النوازل |
إن هذه الجموع المؤمنة الزاحفة إلى الأقصى لَتُمَثِّل أيضًا ردًّا إيمانيًّا عمليًّا، ورسالةً واضحةً موجَّهةً للطامعين في الأقصى، وللمعتدين عليه، للمقتحِمِينَ له، وللمطبِّعِينَ، وللمتحالِفِينَ، بأنه لا مجالَ للمساوَمة على الأقصى، ولا للتفاوُض عليه، ولا للتنازُل عن ذرةِ ترابٍ منه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله إذ لم يأتني أَجَلِي | حتَّى اكتسيتُ من الإسلام سِرْبَالًا |
الحمد لله الذي اختار شهر رمضان المبارك سيد الشهور، أفاض فيه الخير والنور، يعيش فيه المسلمون بسعة وحبور، سبحانه، إنه يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويُغِيث المكروبَ، وهو علام الغيوب.
ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، فرَض علينا الصيام، تقوى للقلوب، وتهذيبًا للنفوس، لقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183].
اللهم اجعل في قلوبنا نورًا، وفي أسماعنا نورًا، وفي أبصارنا نورًا، وفي أيدينا نورًا، اللهم يسِّر أمورَنا، ووحِّد صفوفَنا، واحقن دماءنا، وعليك بمن ظلمنا وآذَانَا.
ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا وشفيعنا محمدًا، عبدُ اللهِ ونبيُّه ورسولُه، الصادقُ الأمينُ، إمامُ الأنبياء والمرسَلِينَ، الذي غفَر اللهُ له ذنبَه، وشرَح له صدرَه، ووضَع عنه وزرَه، ورفَع له ذكرَه؛ فكان -عليه الصلاة والسلام- مُجِدًّا، وأكثرَ ما يكون في رمضان، وكان كريمًا، وأكثرَ ما يكون في رمضان، القائل: "مَنْ صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"، صلَّى الله عليكَ يا حبيبي يا رسول الله، وعلى آلِكَ الطاهرينَ المبجَّلينَ، وصحابتِكَ الغُرِّ الميامينِ المحجَّلينَ، ومن تبعكم وجاهَد جهادكم، من العلماء العاملين، إلى يوم الدين.
أيها المسلمُون، أيها المصلون، أيها الصائمون، أيها المحتسبون، أيها المرابطون، أيتها المرابطات، وكلنا مرابطون، يا من وفدتم إلى الأقصى المبارك، من أنحاء فلسطين العزيزة، المباركة، المقدسة، من البحر إلى النهر، يا من تخطيتم الحواجز العسكرية الظالمة، أقول: إن زحفكم إلى الأقصى المبارك لصلوات العشاء والتراويح، إن زحفكم إلى الأقصى المبارك لصلوات الجمعة والجماعات، لَيُذَكِّر المسلمين، جميعَ المسلمين، لَيُذَكِّر مليارًا ومائتَيْ مسلم، نذكِّرهم بالأقصى المبارك الأسير.
إن هذه الجموع المؤمنة الزاحفة إلى الأقصى لَتُمَثِّل أيضًا ردًّا إيمانيًّا عمليًّا، ورسالةً واضحةً موجَّهةً للطامعين في الأقصى، وللمعتدين عليه، للمقتحِمِينَ له، وللمطبِّعِينَ، وللمتحالِفِينَ، بأنه لا مجالَ للمساوَمة على الأقصى، ولا للتفاوُض عليه، ولا للتنازُل عن ذرةِ ترابٍ منه، وسيبقى مفتوحًا وعامرًا رغم التضيق والمضايقات، سيبقى مفتوحًا وعامرًا بالمسلمين، المتعبِّدين في رمضان وما بعد رمضان، فأنتم -أيها المرابطون، أيتها المرابطات في فلسطين- أنتم المعادلة الصعبة التي لا مجال للاختراق من خلالها.
أيها المصلون، أيها الصائمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: هذه هي الجمعة الأولى من شهر رمضان المبارك، فطوبى لمن صلَّى الجمعة في المسجد الأقصى المبارك، في هذا الشهر الفضيل، وهو صائم؛ فيكون المصلي قد جمع ثلاث فضائل: الجمعة لها فضيلة، والأقصى له فضيلة، والصوم له فضيلة؛ فاحرِصوا -أيها الصائمون- على الصلاة يومَ الجمعة في الأقصى المبارك، وعليه أقول: ينبغي على كل مسلم مرابِط -وكلكم مرابطون في أرض الإسراء والمعراج- أن يشدَّ الرحالَ إلى الأقصى، وأن يتوجه قاصدًا مدينةَ القدس، فإن مُنِعَ من الوصول إلى الأقصى ظلمًا وعدوانًا، فإنه يصلِّي حيث يُمنَع، وله ثوابٌ موازٍ لمن صلَّى في الأقصى، وقد سبَق أن أصدَرْنا فتوى شرعيةً بذلك.
أيها المصلون، أيها الصائمون: إننا نستظل بهذا الشهر المبارك العزيز على قلب كل مؤمن؛ إنه شهر الخيرات والبركات، شهر القربات، شهر العبادات، شهر الإنجازات والانتصارات، شهر التوبة والرحمات؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاء رمضان فُتِّحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ جهنمَ، وسُلْسِلَتِ الشياطينُ، -وفي رواية-: صُفِّدَتِ الشياطينُ"؛ أي: رُبِطَتْ، والحكمة من ذلك -أيها المسلمُون- حتى يكون في الناس حافزٌ للإقبال على الله -سبحانه وتعالى-، وأن يكون باب التوبة النصوح مفتوحًا لهم على مصراعيه، ينتظر التائبين المستغفرين، فلا سلطان للشيطان على الإنسان.
فهل من تائب يتوب الله عليه؟ هذا الشهر الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
اللهم يا الله يا ذا العرش المجيد، نسألك أن ترحمنا برحمتك، وأن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تعتقنا وإياكم من النار. قولوا: آمين.
أيها المسلمون، أيها المصلون: في هذا المجال نحذركم من شياطين الإنس؛ لأن الله رب العالمين قد ربَط شياطينَ الجن بالسلاسل، ولكنَّ شياطينَ الإنسِ غيرُ مربوطينَ، إنهم يُفسِدون في الأرض ولا يُصلِحون، إنهم سماسرة الأرض، إنهم الذين يسرِّبون البيوت، إنهم قد فارَقوا الجماعةَ، ومَرَقُوا من الدين، لقد أشار إليهم القرآن الكريم بوجوب مقاطعتهم مدنيًّا، لا كلام معهم، لا بيع ولا شراء، لا مصاهرة ولا زواج، بالإضافة إلى الفتوى الشرعية التي صدرت عام (1935م) بألَّا يُغَسَّلُوا، وألَّا يُكَفَّنُوا، وألَّا يُصَلَّى عليهم، وألَّا يُدْفَنُوا بمقابر المسلمين، ولا توبةَ لهم، فاحذروهم ولا تتعاملوا معهم.
أيها المسلمون، أيها المصلون، يا إخوة الإيمان في كل مكان: ومن شياطين الإنس أيضًا، أولئك القتلة، الذين يقومون بجريمة القتل العَمْد، الذين يُفسِدون في الأرض، ويُشِيعُونَ الرعبَ بين الناس، فلا توبةَ لهم أيضًا، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 93]، فقد سئل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن مصير هذا القاتل العَمْد؛ ما مصيرُه في الآخرة، سئل: "هل له توبة؟ قال: أنَّى له توبة؟!"؛ أي: ليس للقاتل العمد توبة. هذه الفتوى من ابن عباس، ترجمان القرآن الكريم.
أيها المسلمون، أيها الصائمون: توبوا إلى الله توبةً نصوحًا، في هذا الشهر الفضيل، شهر الصيام، فيقول الله رب العالمين في سورة التحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)[التَّحْرِيمِ: 8]، والمعلوم أن التوبة النصوح لها شروطها؛ منها:
أن يندم مرتكب الذنب أو المعصية عن فعلته، وأن يقلع عنها، وأن يعاهد الله ألَّا يعود إليها مرة أخرى.
أيها المسلمون، يا أحباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا هو شهر التوبة والمغفرة، فأحسِنوا صيامَه وقيامَه، وضاعِفوا فيه العبادة، والطاعة وحافِظوا على حرمته، وتجنَّبُوا الخوضَ في أعراض الناس، وفي اللغو ورفث الكلام، ليس الصيام من الأكل والشرب فقط، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّكَ أحدٌ أو جَهِلَ عليكَ فقل: إني صائم، إني صائم.
هذا ونحيِّي أصحابَ المطاعم والمقاهي الذين حافَظُوا على حرمة رمضان فأغلَقُوا محلاتهم خلال ساعات النهار، والله -سبحانه وتعالى- سيعوضهم خيرًا؛ فهو الرزاق ذو القوة المتين.
جاء في الحديث النبوي الشريف: "سبحان الله شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والطهور نصف الإيمان، والصوم نصف الصبر" صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.
أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: أتناول في هذه الخطبة ثلاث رسائل وبإيجاز:
الرسالة الأولى: تحيةً لأسرانا الأبطال البواسل، بمناسبة يوم الأسير الذي يصادف غدًا، نعم إننا نُحَيِّي الأسرى ليس في يوم واحد، إننا نحييهم في جميع الأيام، وأن نقف معهم وندعو لهم بالفرج القريب، وفكِّ الحصار إن شاء الله، ونستنكِر ما يُعامَل به الأسرى من إهمال طبي، ومن معاناة في اقتحامات السجون، واستعمال العنف بحقهم، إنهم أبطال، إنهم ثابتون، إنهم الصفوة في مجتمعنا، ونسأل الله الفرج لهم.
أيها المصلون: الرسالة الثانية: للأغنياء والموسِرِينَ والمقتدِرِينَ: بوجوب إخراج زكاة أموالهم؛ فالزكاة -كما هو معلوم- ركنٌ من أركان الإسلام، وهي حقٌّ واجبٌ، ومن حق الفقير أن يأخذها، والله -سبحانه وتعالى- يقول في سورة الذاريات: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[الذَّارِيَاتِ: 19]، وفي سورة المعارج: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[الْمَعَارِجِ: 24-25].
أيها المصلون، يا أبناء فلسطين المباركة العزيزة: الرسالة الثالثة والأخيرة -كما عوَّدْنَاكم- بشأن المسجد الأقصى المبارك، الذي يتعرَّض لانتهاكات يومية، مِنْ قِبَل الجماعات اليهودية المتطرفة، بحراسةٍ وتأييدٍ من سلطات الاحتلال التي تستغل وباء "كورونا" من أجل التدخل في شئون المسجد الأقصى المبارك، ونستنكر ما قامت به سلطات الاحتلال من قطع الأسلاك الكهربائية عن مكبِّرات الصوت لمنع أداء صلاة العِشاء والتراويح أولَ أمس، إزاءَ هذا نؤكِّد للمرة تلو الأخرى بأن المسجد الأقصى المبارك هو للمسلمين وحدَهم، بقرار إلهي رباني، ونحيِّي المسلمين الذين يزحفون إلى الأقصى في هذا الشهر المبارك، ونأمل أن يستمرَّ شدُّ الرحال إلى الأقصى إلى ما بعدَ رمضان.
ولا يسعنا إلا أن نقول: حماكَ الله يا أقصى. قولوا: آمين.
أيها المصلون، أيها الصائمون: الساعةُ ساعةُ استجابةٍ فأَمِّنوا مِنْ بَعْدِي.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وفَرِّج الكربَ عنا.
اللهم احمِ المسجدَ الأقصى من كل سوء.
اللهم تقبَّل صلاتنا، وقيامنا، وصيامنا، وصالِحَ أعمالنا، اللهم ألهمنا عملَ الخير وخيرَ العمل، اللهم هيِّئ مَنْ يوحِّد المسلمينَ، ويحذو حذوَ صلاح الدين، اللهم يا الله، يا أملَ الحائرينَ، ويا نصيرَ المستضعَفِينَ، ندعوك بكل يقين إعلاءَ شأن المسلمين بالنصر والعز والتمكين.
اللهم إنا نسألك توبة نصوحًا، توبة قبل الممات، وراحة عند الممات، ورحمة ومغفرة بعد الممات.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعلِ بفضل كلمتَي الحق والدين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
وأقم الصلاة؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].