الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والموفَّق مَنِ اغتنَم الفرصةَ قبل أن يحال بينَه وبينَها؛ فجعل العامَ كلَّه رمضان، يُسارِع فيه إلى الخير ويُسابِق إلى الطاعة، فإن الإقبال على الله ليس له زمانٌ ولا موسمٌ، وما تمضي من عمر المؤمن ساعةٌ من الساعات إلَّا ولله فيها عليه وظيفةٌ من وظائف الطاعات...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسلما كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
أيها المسلمون: اقتضت حكمةُ اللهِ وكمالُ علمِه ولطيفُ خبرتِه أن نوَّع العباداتِ، وجعَلَها وظائفَ على القلب واللسان والجوارح، ومنها الظاهر والباطن، يجمعها كلَّها معنًى واحدٌ، به تتحقَّق العبوديةُ؛ هو اجتماع غاية الحب مع غاية الذل لله وحده، وعدَّد -سبحانه- تبعًا لذلك مواسم العبادة، وكرَّر أوقاتَها ومناسباتِها فضلًا منه ورحمةً، فلئن مضى موسم فيتلوه مواسم، ولئن رُفِعَ منارُ عبادة وأدركه من شاء الله من العباد فعمَّا قريب يُرفَع لهم غيره، ولئن خُتِمَ على باب أجر بمن سبَق إليه فيوشك أن تُفتَح بعدَه أبوابٌ، وما من عبد إلا ويجد من أبواب العبادة وأنواعها ما يناسبه، والشأن في صلاح النية وعلو الهمة، قال تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)[الزُّمَرِ: 2]، وقد رحل عنا شهر رمضان الذي جعَلَه اللهُ من أعظم مواسم الطاعة، ومن أكبر أسواق الخير، مَنْ أحسَن فيه ووُفِّقَ للطاعة فليعلم أنه ليس رمضان وحده موسم العمل، ومن أساء أو قصَّر فليُبَادِرْ بتوبة تُكمِل ما نقَص من إيمانه، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31].
وحسن العهد من الإيمان، والتوفيق للطاعة نعمة يجب شكرها بالاستمرار عليها، وقبول الطاعة له دلائل وعلامات، فمن أقبل على الطاعة بعد رمضان وصدرُه منشرحٌ للعبادة والاستزادة منها والتنقُّل بين مدارجها فتلك أمارةُ خيرٍ أراده اللهُ به، وشاهِدُ صلاحٍ يُدبِّره اللهُ له، فإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، والثبات على الطاعة نعمة أكبر من ابتداء الطاعة، ومن أعرض أو قصر فما أحوجه إلى الاستغفار وسؤال الله القبول، فلم يزل شأنُ الصالحينَ الاهتمامُ لقَبول العمل أكثر من العمل، وإن من علامة رد العمل وعدم القَبول إتباع الطاعة بالمعصية، وما أحسَن الحسنةَ بعد السيئة تمحوها، وما أقبحَ السيئةَ بعد الحسنة تمحقها وتعفوها.
وأَرُوا اللهَ من أنفسكم خيرًا بعد كل موسم من مواسم العبادة، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النَّحْلِ: 92]، وإياكم والانقطاع والملال والإعراض، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وخيرُ العملِ وأحبُّه إلى الله ما داوَم عليه العبدُ ولو كان قليلًا، قال عليه الصلاة والسلام: "أحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى- أدومها وإن قلَّ"(متفق عليه)، ومَنْ ذاقَ حلاوةَ العبادة في رمضان وامتلأ صدرُه بالخشوع والذلِّ لله حريٌّ به أن يستعيذ بالله من الرجوع عن الاستقامة إلى غيرها، ومن النقصان بعدَ الزيادة، ومن الغفلة بعد الانتباه، ويجمعها قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأعوذ بك من الحور بعد الكور"(رواه أحمد).
وإياك أن يراك الله حيث نهاك بعد إذ رآك حيث أمرك، وإياك أن يجدك ربك مُعرِضًا عنه بعد أن تفضَّل عليك ووفَّقَك للإقبال عليه، واحذر أن تُوَلِّيَهُ دبرَكَ وقد بسَط لكَ يديه ينتظر دعاءَكَ ومسألتَكَ ويفرح بتوبتِكَ وإنابتِكَ، فَرَبُّ رمضانَ هو ربُّ الشهور والأعوام كلها، ومواسمُ الخيرِ لا تنقطع عن الصادقينَ، وأبوابُ العبادةِ مشرَعةٌ للقاصدينَ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(متفق عليه).
وإذا اجتمعت عبادات للمسلم ولو في غير رمضان نال الجنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ"(رواه مسلم).
والموفَّق مَنِ اغتنَم الفرصةَ قبل أن يحال بينَه وبينَها؛ فجعل العامَ كلَّه رمضان، يُسارِع فيه إلى الخير ويُسابِق إلى الطاعة، فإن الإقبال على الله ليس له زمانٌ ولا موسمٌ، وما تمضي من عمر المؤمن ساعةٌ من الساعات إلَّا ولله فيها عليه وظيفةٌ من وظائف الطاعات، فالمؤمنُ يتقلَّب بين هذه الوظائف ويتقرب بها إلى مولاه وهو راجٍ خائفٌ.
ومن قعدت به همتُه عن الاستكثار من أعمال الجوارح أو قصرت ذات يده عن الإنفاق في وجوه الخير فلا يُغلَبَنَّ عن إصلاح قلبه والعناية بسريرته؛ بتحقيق التوكل على الله ودوام الرغبة إليه، والخوف منه ودوام التعلق به، وسلامة صدره للمسلمين، وأن يُدرِك ما عجَز عنه بكثرة ذكرِ اللهِ، وملازَمةِ الاستغفارِ والدعاءِ والنصحِ للمسلمين عامتِهم وخاصتِهم.
والأزمنة والأمكنة الفاضلة لا تُقدِّس أحدًا ما لم يعمل صالحًا ويستقم ظاهرًا وباطنًا، وكثرة أعمال الجوارح لا تنفع إلا مِنْ قلبٍ سليمٍ ونَفْسٍ مُخبِتةٍ، والعاقل مَنْ يعتني بصلاح قلبه على الدوام، ويتفقد سريرته وباطنه في جميع الأزمان، والنية الصالحة يؤجَر معها العبدُ حتى على أكله وشربه ونومه، وتصبح الطاعة الواحدة في حقه طاعات كثيرة، قال عليه الصلاة والسلام: "إنكَ لن تُنفِق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجِرْتَ عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك"(متفق عليه).
وعمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله، فإن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، قال سبحانه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الْحِجْرِ: 99]؛ فالشهور والأعوام والليالي والأيام مقادير الآجال ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل حيٌّ قيومٌ ولأعمال عباده شاهدٌ رقيبٌ، وكل وقت يُخلِيه العبدُ من طاعة مولاه فقد خَسِرَهُ، وكل ساعة يغفل فيها عن ذِكْر الله تكون عليه يوم القيامة ندامةً وحسرةً، ومن كان مقصِّرًا أو مفرِّطًا فلا شيء يحول بينه وبين التوبة ما لم يعاين الموت، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله -تعالى- يقبل توبة عبده ما لم يغرغر"(رواه أحمد).
ومن رحمة الله بعباده وحكمته في شرعه وأمره أنه لم يطلب من خلقه الانقطاع إلى عبادته في كل وقت، ولم يوجب عليهم الرهبانية التي تُناقِض موجبَ الفطرة، وتكبح رغبات النفس وشهواتها من كل وجه، بل جعَل لكلِّ شيءٍ قدرًا، وضرَب لكلِّ شيءٍ أجلًا، وجعَل الأعيادَ أيام فرح وسرور وأكل وشرب من غير غفلة ولا معصية.
ومن وسطية الإسلام موازنته بين مطالب الروح والجسد، ومراعاة حقوق النفس مع أداء الواجبات وترك السيئات، قال عليه الصلاة والسلام: "إن لجسدك عليكَ حقًّا، وإن لعينكَ عليكَ حقًّا، وإن لزوجك عليكَ حقًّا، وإن لزَوْرِكَ -أي: ضيفِكَ- عليكَ حقًّا"(متفق عليه).
وبعد أيها المسلمون: فأعمار هذه الأمة قصيرة، والله عوَّضَها بأعمال يسيرة في أزمنة فاضلة، أجورُها كبيرةٌ، والمسلم يبذُل جهدَه وعملَه في كلِّ حينٍ لعملِ الطاعاتِ، ويزيد ذلك في مواسم الخيرات، والموفَّق مَنْ يتزوَّد دومًا من الصالحات، مُوقِنًا بأنه سيموت في يومه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللهُ وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن نبينا محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون: من توفيق الله للعبد أن يداوم على الصيام والقيام بعد رمضان، فيصوم ستًّا من شوال؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر"(رواه مسلم)، ويصوم ثلاثة أيام من كل شهر أو الإثنين والخميس وعرفة لغير الحاج، وعاشوراء وغيرها من أوقات الصيام المطلَق والمقيَّد، ويقوم من الليل ما تيسَّر له، مع المداوَمة على نوافل الصلاة، والإكثار من تلاوة كتاب الله وذِكْره -سبحانه-، وغيرها من العبادات مع الإحسان إلى الخَلْق.
ثم اعلموا أنَّ اللهَ أمَرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبينا محمد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الراشدينَ، الذين قَضَوْا بالحقِّ وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًّا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم احفظ مقدَّسات المسلمين، وعليكَ بالمعتدينَ يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا ووليَّ عهده لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذْ بناصيتهما للبِرِّ والتقوى، وانفع بهما الإسلامَ والمسلمينَ يا ربَّ العالمينَ، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم ألهمنا الصواب ووفقنا للحق وجنبنا الفتن يا ذا الجلال والإكرام.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على آلائه ونِعَمِه يَزِدْكُمْ، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].