الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
فبعدَ قوةِ الحديدِ والنَّارِ في استعمارِ بلادِ المسلمينَ، والتي لا تزيدُ المسلمينَ إلا إيماناً وتضحيةً في سبيلِ الدِّفاعِ عن الوطنِ والدِّينِ، جاءتْ القوةُ الناعمةُ والتي هي أخطرُ وأعظمُ في استعمارِ عقولِ المسلمينَ.. يطمعونَ في أن يكونَ الاستعمارُ الجديدُ على أيدي شَبابٍ مُسلمٍ تربَّى على إسلامٍ يُناسبُ الغربَ، يفصلُ..
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي جَعلَ القرآنَ نوراً للمهتدينَ، ومَناراً للمسترشدينَ، وسَبيلاً قَاصداً للمستبصرينَ، وبابًا لصلاحِ الدُّنيا والدينِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، كلامُه أصدقُ قِيلاً، وأَحسنُ حديثاً، وأهدى سبيلاً، وأقومُ دَليلاً.
وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورَسولُه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ، أَنزلَ عَليهِ الكتابَ ولم يجعلْ له عِوجاً، يُبشِّرُ المؤمنينَ، ويُنذرُ الكَافرينَ، ويَشفي بآياتِه الصُّدورَ، ويُنير بضيائه الدُّروبَ، ويَعظُ به العِبادَ، ويَدعوهم به إلى صِراطٍ مُستقيمٍ.
أما بَعدُ: بعدَ هزائمِ الحَملاتِ الصليبيةِ المتكررةِ، والتي كانَ آخرُها هزيمتَهم في المنصورةِ، والتي أُسرَ فيها لويس التاسع ملكُ فرنسا فترةً من الزمنِ حتى افتداه قومُه، وفُكَّ أَسرُه، ثُمَّ رجعَ إلى قومِه بوجهةِ نَظرٍ جديدةٍ؛ حيثُ قالَ لهم: "إذا أَردتم أن تَهزموا المسلمينَ، فلا تُقاتلوهم بالسِّلاحِ فقد هُزمتُم أَمامَهم في مَعركةِ السِّلاحِ، ولكن حَاربوهم في عَقيدتِهم؛ فهي مَكمنُ القوةِ فِيهم"، ومنذُ ذلكَ اليوم بدأَ الغزو الفكريُّ بدلاً من العَسكريِّ.
فبعدَ قوةِ الحديدِ والنَّارِ في استعمارِ بلادِ المسلمينَ، والتي لا تزيدُ المسلمينَ إلا إيماناً وتضحيةً في سبيلِ الدِّفاعِ عن الوطنِ والدِّينِ، جاءتْ القوةُ الناعمةُ والتي هي أخطرُ وأعظمُ في استعمارِ عقولِ المسلمينَ، واسمعوا إلى ما يقولُه زويمر، وهو من أكبرِ المستشرقينَ والمبشرينَ في زَمانِه: "يَهدفُ الغَربُ من خِلالِ عملياتِ الغزوِّ الفكريِّ إلي إخراجِ أجيالٍ مُسلمةٍ تَكونُ هي طَليعةُ الفَتحِ الاستعماريِّ في المَمالكِ الإسلاميةِ"؟
وهذا يعني باختصارٍ أنهم يطمعونَ في أن يكونَ الاستعمارُ الجديدُ على أيدي شَبابٍ مُسلمٍ تربَّى على إسلامٍ يُناسبُ الغربَ، يفصلُ الدِّينَ عن الدُّنيا، ولا يعرفُ ولاءً لمؤمنٍ ولا براءً من كافرٍ، مشغولٌ بالتَّفاهاتِ، منغمسٌ في الشَّهواتِ، ليسَ له عزةٌ إسلاميةٌ، ولا هويةٌ وطنيةٌ، وإنما هي الليبراليةُ العلمانيةُ.
والحقيقيةُ -أيَّها الأحبةُ- أنهم سعوا سعياً حثيثاً في تنفيذِ مُخططاتِهم ليلاً ونهاراً، سِرّاً وجِهاراً، على مستوى كبيرٍ من التنظيمِ المدعومِ من الدولِ المُجرمةِ، والقنواتِ الآثمةِ، ومراكزِ الأبحاثِ المتقدمةِ، فبثُّوا الشُّبهاتِ، في كلّ المجالاتِ، حتى حقّقوا -للأسفِ- كثيراً من الأهدافِ المنشودةِ، ووصلوا إلى بعضِ الغاياتِ المرصودةِ.
والسؤالُ الأهمُّ: كيفَ يستطيعُ المسلمونَ مواجهةَ كيدِ الغزوِّ الفكريِّ والذي أصبحَ يصلُ إلى الجميعِ؟
اسمعوا إلى وصيةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلم- لأمتِهِ في أكبرِ جمعٍ في زمانِهِ، يومَ عرفةَ في حجةِ الوداعِ، حينَ خطبَ فيهم، وقالَ لهم: "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ"، وصدقَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، إنَّه القرآنُ كتابُ اللهِ، ولذلكَ جاءَ في كثيرٍ من تصريحاتِ الأعداءِ التحذيرَ من القرآنِ؛ لأنه يُفسدُ عليهم مكائدَ الشَّيطانِ، يَقولُ غلادستون رئيسُ وزراءِ بريطانيا سابقًا: "ما دامَ هذا القرآنُ موجودًا في أيدي المسلمينَ، فلن تستطيعَ أوروبا السيطرةَ على الشَّرقِ، ولا أن تكونَ هي نفسُها في أمانٍ".
تخيلوا عندما يُحاولُ الغربُ إغراقَ المسلمينَ في مَلذاتِ الدُّنيا من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ولَعِبٍ وترفيهٍ وسياحةٍ وفي كلِّ ما يتنعَّمُ بهِ الجسدُ دونَ الرُّوحِ، ثُمَّ يقرأُ المسلمُ بقلبِه هذه الآيةَ: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس:24]، لا إلهَ إلا اللهُ، بل يأتيكَ وصفُ الكفَّارِ على هذه الحالةِ في أبشعِ صورةٍ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)[محمد:12]، فلا تكنْ مثلَهم.
عندما يحاول الكفارُ إبعادَ الدِّينِ عن أيِّ شيءٍ، فتسمعُ قولَه -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام:162]، قد اختلطَ الدِّينُ باللَّحمِ والدَّمِ، فكيفَ نستطيعُ الانفكاكَ عنهُ طرفةَ عينٍ؟
عندما تأتي دعوةُ الإلحادِ لتُناقشَ المعقولَ، فيأتي القرآنُ ليُحاورَ العقولَ، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ)[الطور:35-36]، فحيثُ لا هذا ولا هذا، فالخيارُ الثالثُ أنَّ هناكَ خالقٌ عظيمٌ هو اللهُ –تعالى-، وعندما يأتي القرآنُ بالحقائقِ العلميةِ في جميعِ الميادينِ، التي وقفَ أمامَها العلماءُ في كلِّ التَّخصُّصاتِ فقالوا جميعاً: لا تفسيرَ لهذه الاكتشافاتِ العلميةِ إلا أنَّ هناكَ خالقٌ عليمٌ، على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وصدقَ اللهُ -تعالى-: (سَنُرِيهِمْ آياتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فصلت:53].
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعْصَى الإِلَهُ | أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ؟! |
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ | تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ |
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي أَنزلَ على عَبدِه الكتابَ ولم يَجعلْ له عِوجاً، بالعدلِ قَائماً، وللإيمانِ نَاصراً وداعماً، وللكفرِ محارباً ودَاحراً، فيه خبرُ الأولينَ، ونبأُ الآخرينَ، وحِكمةُ النبيينَ، وهِداياتُ المرسلينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد: عندما يأتي الغزو الفكريُّ بالشَّهواتِ، فقد جاء القرآنُ بالوقايةِ والاحتياطات: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النور:30]، وجاءَ بالبديلِ في الدُّنيا: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21]، والعِوضِ في الآخرةِ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:14-15].
وأما أمواجُ الغربِ العاتيةُ في التفريقِ بينَ المسلمينَ، فينبغي أن تتحطمَ على صخرةِ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10].
وأما تفكيكُ الأسرةِ فهو عن طريقِ المرأةِ، يقولُ نفرٌ من المبشرينَ: "بما أن الأثرَ الذي تُحدثُه الأمُّ في أطفالِها ذكوراً وإناثاً حتى السنةَ العاشرةَ من عُمرِهم بالغَ الأهميةِ، وبما أنَّ النساءَ هنَّ العنصرُ المحافظُ في الدفاعِ عن العقيدةِ، فإننا نَعتقدُ أن الهيئاتِ التبشيريةَ يجبُ أن تُؤكدَ جَانبَ العملِ بينَ النساءِ المسلماتِ"، فسعوا جاهدينَ لإخراجِ المرأةِ من بيتِها، والتَّهوينِ من أمرِ حجابِها، وفرضِ الاختلاطِ بينَ الجنسينِ.
ولو تدبَّرتْ المرأةُ كتابَ ربِّها لرأتْ أن عِزَّها في بيتِها، ونجاحَها في حيائها، وفلاحَها في سِترِها، وشرفَها في طاعةِ زوجِها، ومجدَها في برِّ أبنائها، وواللهِ إنَّ المرأةَ الغربيةَ تتمنى أن تعيشَ في المُلكِ الذي تعيشُه، وأن اللهَ حَفظَ حُقوقَها، وأنزلَ سورةَ النِّساءِ للدفاعِ عنها من ظلمِ الجاهليةِ، فيا أيُّتها الأمُّ، ويا أيُّتها الأختُّ، ويا أيُّتها الزوجةُ، ويا أيُّتها البنتُ، اسمعوها واضحةً مُختصرةً: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)[الأحزاب:33].
اللهم مَنْ أرادَنا وأرادَ أمنَنا وإيمانَنا وعلماءَنا وولاةَ أمرِنا وشبابَنا ونساءَنا بسوءٍ فأشغله بنفسِه واجعلْ كيدَه في نحرِه يا قويُ يا عزيزُ.
اللهم احفظ علينا دينَنا وأمنَنا واستقرارَنا وارزقنا شكرَ نعمِك علينا.
اللهم آمنَّا في أوطانِنا وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا واجعلهم هداةً مهتدينَ، واجعل ولايتَنا فيمَنْ خافَك واتقاك واتبعَ رضاك يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أصلح أحوالَ المسلمينَ حكاماً ومحكومينَ، اللهمَّ اجمع كلمتَهم على الحقِّ وردَّهم إلى دينِك رداً جميلاً يا أرحمَ الراحمينَ.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النارِ.