العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
وقد جمع الله على قوم شعيب -عليه السلام- أنواعًا من العقوبات، وصنوفًا من المَثُلات، وأشكالاً من البليَّات، وذلك لما اتصفوا به من قُبح الصفات، حيث أذاقهم الله ثلاثًا من العقوبات: سلط عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحةً عظيمةً أخمدت الأصوات، وظُلَّةً أَرسل عليهم منها شَرَرًا من سائر أرجائها والجهات.
الخطبة الأولى:
ذكر الله في كتابه الكريم جملةً من قصص أنبيائه -عليهم السلام-، بلغ عددهم خمسةً وعشرين رسولاً، وهناك جم غفير لم يذكرْهم الله قال -سبحانه-: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)[النِّسَاء: 164].
والقَصَص القرآني يمتاز عن غيره من القصص أن فيه بلاغة وإتقانًا، فيذكر الله -عز وجل- القصةَ بأساليبَ وأحداثٍ متنوعة، بطول من غيرِ ملل، أو إيجازٍ غيرِ مُخِلّ.
وقَصَصُ القرآنِ الكريمِ هي أحسنُ القصص، قال -سبحانه-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)[يُوسُف: 3]، وفيه تسلية لقلب النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هُود: 120].
ومن القصَصِ القرآني قصةُ نبي الله شعيبٌ -عليه السلام-؛ الذي بعثه الله -عز وجل- إلى قومه خاصة، وكذا الرسل -عليهم السلام- عدا نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو إلى الناس عامة، وهم في أطراف الشام من جهة الحجاز، وكان شعيبٌ -عليه السلام- خطيبَ الأنبياءِ في زمنه وما قبله، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وكذا وظيفة الأنبياء -عليهم السلام- هو إخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد.
وقومُه -أهلُ مدين- يقومون بأعمال مشينة -يقطعون السبيل، ويُخيفون المارة، ويعبدون الأَيْكة وهو الشجر الملتف- وهم أسوأ الناس معاملة -يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما-، فدعاهم إلى عبادة الله وحده بقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ)[الأعراف:85-86].
أي: تأخذون العشور من أموال المارة (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا)؛ حيث نهاهم عن قطع الطريق الحسية والمعنوية، ثم ذَكَّرهم نِعم الله عليهم بقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[الأعرَاف: 86].
ثم وجهّهم بقوله: (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)[هُود: 86]، أي: أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير الحرام، إلا أن هذه النصائحَ قُوبلت بالسخرية بقولهم: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ)[هُود: 87].
ثم نسب التوفيقَ والسدادَ لله: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هُود: 88]، فإن العمل إذا لم يكن موفقًا ومسددًا فقد جانب الصواب، وقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أسألك الهدى والسداد"(رواه مسلم).
بعد ذلك ذكّر قومَه حالَ الأمم السابقة ورهَّبَهم بمصيرهم: (وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)[هُود: 89]، أي: أنهم ليسوا ببعيدين في الزمان والمكان ولا الصفات.
ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)[هُود: 90]، وهذا حال الأنبياء -عليهم السلام- لا يريدون لأقوامهم إلا الخيرَ في الدنيا، والسلامةَ في الآخرة من عذاب الله.
كما قال مَلَكُ الجبال لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- "يا محمد! إن الله قد سمع قولَ قومِك لك، وأنا مَلك الجبال، وقد بعثني ربُّك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا"(متفق عليه).
ووصل بهم العتوُّ والسخريةُ بشعيب -عليه السلام- أنهم قالوا: (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)[هُود: 91]، أي: لا نفهمه، ولا نعقله، لأنا لا نحبه ولا نريده، وليس لنا هِمَّةٌ إليه ولا إقبالٌ عليه، كما قال كفار قريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)[فُصّلَت: 5].
وبلغ بهم التكبر أن قالوا: (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَال يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ)[هُود: 91-92]، أي: أنكم تخافون قبيلتي وعشيرتي ولا تخافون عذاب الله، ثم توعدهم بعد بذلك بالعذاب (ويَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)[هُود: 93].
وفقنا الله لأداء العمل الصالح، وحفظنا بحفظه، وتولانا برعايته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
لما طغى أصحابُ مدين في الكفر والعناد، نعاهم شعيب -عليه السلام- بقوله: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ)[الأعرَاف: 93]، حيث قام -عليه السلام- بأداء ما أمره الله به من البلاغ التام، والنصحِ الكامل، والحرصِ على هدايتهم بكل ما يستطيع أداءه من سبل، والله -سبحانه- الهادي، ولن أحزن بعدها على أعمال القوم الكافرين.
وقد جمع الله على قوم شعيب -عليه السلام- أنواعًا من العقوبات، وصنوفًا من المَثُلات، وأشكالاً من البليَّات، وذلك لما اتصفوا به من قُبح الصفات، حيث أذاقهم الله ثلاثًا من العقوبات: سلط عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحةً عظيمةً أخمدت الأصوات، وظُلَّةً أَرسل عليهم منها شَرَرًا من سائر أرجائها والجهات.
فحين أرجفوا نبيهم وتوعدوه بالإخراج من قريتهم قال -تعالى-: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ)[هُود: 67]، فقابل الإرجاف بالرجفة، والإخافة بالخِيفة؛ وأخذتهم الصيحة لاستهزائهم بنبيهم وتنقصهم له حيث قالوا: (أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)[هُود: 87].
فناسب أن يذكر الصيحة، التي هي كالزجر عن تعاطي الكلام القبيح؛ وأخذهم عذابُ يومِ الظلة إجابةً لما طلبوا، وتقريبًا إلى ما إليه رغبوا، فإنهم قالوا: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[الشُّعَرَاء: 187].
فأصابهم حر شديد، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام، فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل، ولا دخولُهم في أسرابهم، فهربوا من مَحلَّتهم إلى البرية، فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله عليهم ترميهم بشرر، وشهب، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة من السماء، قال -سبحانه-: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ)[الأعرَاف: 92].
وكان الله قد نجَّى شعيبًا ومن معه من المؤمنين، قال -سبحانه-: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)[هُود: 94]، وهكذا حال الأنبياء والرسل وأتباعِهم، فالله حافظهم في الدنيا، ومُعلٍ منزلتَهم في الآخرة.
رزقنا الله لزوم صراطه المستقيم، واقتفاء أثرِ رسول رب العالمين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.