التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المنجيات |
فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله كربه بالتوحيد، فلا يُلْقي في الكُرَب الِعظَام إلا الشرك، ولا ينجّي منها إلا التوحيد، فهو مفزعُ الخليقة وملجؤها، وحصنها وغِياثها...
الخطبة الأولى:
لما أُهبط آدم -عليه السلام- إلى الأرض لقي مُعاناةَ الحياة وشدّتَها، بعد نَعيم الجنة وراحتِها، فأصبح الإنسان يعيش في هذه الدنيا مكابدًا، قال -سبحانه وتعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)[البَلَد: 4]، فتارة يسعد، وتارة يحزن، وتارة يرتفع، وتارة يضع، والدنيا لا تصفو لأحد في تقلباتها.
وتفريج الهموم، وتنفيسُ الكروب بِيَدِ علاَّمِ الغيوب -سبحانه-، فقد نجّا نوحًا -عليه السلام- ومن آمن معه من عذاب عظيم لم يشهد التأريخ له مثيلاً، قال -سبحانه-: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرَبِ الْعَظِيمِ)[الأنبيَاء: 76]، وكذا موسى -عليه السلام-: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)[الصَّافات: 114-115].
ونجّا خليلَ الله ِإبراهيم -عليه السلام- من النار حين أُلقى فيها، فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، فجعلها الله بردًا وسلامًا عليه، ونبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لاقى شدائدَ وصعابًا عديدة، في مكة وعند الهجرة وبعدها.
وتفريج الكروب التي يَقْدِر عليها البشر من شيم الرجال الأوفياء، كما وصفت خديجة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نزل الوحي عليه أول مرة فقالت له: "كلا، واللهِ، لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، إلى أن قالت: وتعين على نوائب الحق"(متفق عليه)، وهذه من صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أمته في حياته.
وقد دل القرآن الكريمُ، والسنةُ النبويةُ على أسبابٍ تعين على تفريج الكروب -بعد إذن الله بها-:
أولاها وأهمها: توحيد الله، وتعلقُ القلبِ به في الشدة والرخاء، لذا صيغ الدعواتِ وذِكْرِ الله هي صيغ توحيدٍ لله -عز وجل-، قال -سبحانه- عن نوح: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)[الصَّافات: 75]، وقال -سبحانه- خطابًا لأهل مكة: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)[الأنعَام: 64]، والله -عز وجل- اختص بذلك وحده: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)[النَّمل: 62].
وقد وقع كثير من المشركين في سؤال الأموات، وهم رميم، قد أكل الدودُ لحومَهم، وأصبحت عظامُهم نخرةً، قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية -رحمه الله-: "الاستغاثة في تفريج الكربة لا تجوز ذلك من ميت، ولا غائب، ولا من حي حاضر إلا فيما يقدر عليه خاصة".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فينجيهم من كُرَب الدنيا وشدائدِها (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[العَنكبوت: 65].
وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدِها، ولذلك فزع إليه يونسُ فنجاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباعُ الرسل فَنَجوا به مما عُذِّب به المشركون في الدنيا وما أُعدّ لهم في الآخرة، ولما فَزِع إليه فرعونُ عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يُقبل، هذه سنة الله في عباده.
فما دُفِعَت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله كربه بالتوحيد، فلا يُلْقي في الكُرَب الِعظَام إلا الشرك، ولا ينجّي منها إلا التوحيد، فهو مفزعُ الخليقة وملجؤها، وحصنها وغِياثها".
ثانيها: أداء الصلاة، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حزبه أمر -أي: أهمَّه- صلَّى"(رواه أبو داود)، فالصلاة مزيلة للهموم والغموم، وقد وصى المولى بها، قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البَقَرَة: 153].
وفي حديث خسوف الشمس قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله يريهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة"(رواه البخاري).
السبب الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشرّه، حُلْوِهِ ومُرِّه، فالمؤمن يتلقى الآلام والأوجاع بثباتِ قلب، وصبرٍ جميل، محتسبًا الأجر والثواب من الله، عملاً بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"(رواه مسلم).
السبب الرابع: المداومة على ذكر الله -عز وجل-، قال -سبحانه- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[الحِجر: 97-98]؛ لِمَا في ذكر الله من طمأنينةٍ للقلب، وراحةٍ للنفس، (أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرّعد: 28].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر قال: "لا إله إلا الله رب العرش الكريم"(رواه مسلم)، ويقول: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"(رواه الترمذي)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم"(متفق عليه).
السبب الخامس: دعاء الله والتضرعُ إليه، فالكرب الذي لاقاه نوح -عليه السلام- هو الخوف الحاصل من الغرق، أو أنه تكذيبُ قومِه وأذاهم، وكانت نجاته ومن معه بدعاء ربه حين دعا فقال: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)[الصَّافات: 75-76]، وكانت نجاته ومن معه بدعاء ربه حين دعا فقال: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ)[القَمَر: 10-11].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو عند الكرب يقول: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم"(رواه البخاري).
وفي قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرةُ توسّلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة في الدعاء، فقال بعضهم لبعض: "انظروا أعمالاً عملتموها صالحةً لله، فادعوا الله -تعالى- بها، لعل الله يفرجها عنكم"(رواه البخاري)، فاستجاب الله لهم، ونجّاهم من كربتهم.
اللهم اشرح صدورنا، ويسر أمورنا، وفرج همومنا، ونفس كروبنا.
الخطبة الثانية:
من أسباب تفريج الكربات: السعي في مصالح المسلمين وتفريجِ كرباتهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"(أخرجه مسلم).
وورد عند أحمد: "مَن فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة"، قال ابن رجب -رحمه الله-: "الكربة: هي الشدة العظيمة التي تُوقع صاحبَها في الكرب، وتنفيسها أن يُخفَّف عنه منها، مأخوذ من تنفُّس الخِناق، كأنه يُرخِي له الخناقَ حتى يأخذَ نَفَسًا، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيل عنه الكربة، فتفرج عنه كربته، ويزول همّه وغمّه، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج".
وتفريج الكربة تارة ببذل المال إن كانت كربته من حاجة، أو بذلِ جاهه في طلبه له من غيره، أو قرضِه، وإن كانت كربته من ظُلمِ ظالم له فرَّجها بالسعي في رفعها عنه أو تخفيفِها، وإن كانت كربةَ مرضٍ أصابه أعانه على الدواء إن كان لديه أو طبيبٍ ينفعه، وبالجملة فتفريج الكرب باب واسع، فإنه يشمل إزالةَ كلِّ ما ينزل بالعبد أو تخفيفُه.
ويدخل فيها أيضًا ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَن سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر، أو يضع له"(رواه مسلم).
فالصدقة والبر والإحسان سببٌ في تفريج الكربات، فمن جاد على عباد الله جادَ الله عليه.
فرج الله هَمَّ المهمومين، ونفَّس كرب المكروبين، ورزقهم الصبر، وأعظم لهم الأجر.