الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
فليحرِص المسلم المقيم والحاج على الدعاء في هذا اليوم العظيم؛ اغتنامًا لفضله ورجاءً للإجابة والقبول، وليدع لنفسه ووالديه وأهله وللإسلام والمسلمين، وإذا صام المقيم هذا اليوم ودعا عند الإفطار فما أقرب الإجابة، وما أحرى القبول؛ فإن دعاء الصائم مستجاب...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، أحمده -سبحانه- وأشكره هدانا؛ (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 161]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -تعالى-؛ فإن تقواه -جل وعلا- هي خير زاد, يقول الله -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة: 197].
عباد الله: إن الليالي والأيام، والشهور والأعوام، تمضي وتنقضي سريعُا، فهي محط الآجال، ومقادير الأعمال، وقد فاضل الله -تبارك وتعالى- بينها، فجعل منها مواسم للخيرات، وأزمنة للطاعات، تزداد فيها الحسنات، وتكفر فيها السيئات، ومن تلك الأزمنة العظيمة القدر, الكثيرة الأجر؛ يوم عرفة، وقد تضافرت النصوص من الكتاب والسنة على فضله وبركته وعظيم أثره للحجاج خاصة، ولأهل الأمصار عامة.
يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، وفيه ركن الحج الأعظم, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحج عرفة"(متفق عليه)، فالوقوف بعرفة هو أهمُ وأعظم أعمال الحج على الإطلاق، ولم يجمع العلماء على أمرٍ يفوت الحج بفواته سوى الوقوف بعرفة.
يوم عرفة من الأيام الفاضلة والعظيمة؛ لأنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها، وهو يوم عيد لأهل الموقف، ويستحب صيامه لأهل الأمصار، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على هذه الأمة، فلا يحتاجون إلى دين غيره؛ ولهذا جعله الله -تعالى- خاتمة الأديان، لا يقبل من أحد دينًا سواه, عن عمرَ -رضي الله عنه- أن رجلًا من اليهود قال: يا أميرَ المؤمنين! آيةٌ في كتابكم تقرؤونها, لو علينا -معشر اليهود- نزلت؛ لا تخذنا ذلك اليوم عيدًا!، قال: "أي آيةٍ؟", قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3]، قال عمرُ: "عرَفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة"(رواه البخاري ومسلم).
وهذا الرجلُ الذي سأل عمر -رضي الله عنه- هو كعبُ الأحبار؛ كما جاء في رواية الطبري، وفيها -أيضًا- نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟"(رواه مسلم)، قال ابنُ عبد البر: "وهذا يدل على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران، والله أعلم" ا.هـ.
وفي الحديث الذي رواه أحمدُ وابنُ خزيمة وصححه الألباني عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا".
فهذه الأحاديث تدل على فضل يوم عرفة، وأنه من الأيام الفاضلة التي تجاب فيها الدعوات وتقال العثرات، فعلى المسلم أن يحرصَ على العمل الصالح، لا سيما في هذا اليوم العظيم من ذكرٍ ودعاءٍ, وقراءةٍ وصلاةٍ وصدقةٍ؛ لعله أن يحظى من الله -تعالى- بالمغفرة والعتق من النار، فقد ذكر ابنُ رجب -رحمه الله- في اللطائف أن العتقَ من النار عام لجميع المسلمين.
عباد الله: ينبغي الحرص على صيام يوم عرفة؛ فقد خصَّه النبي بمزيد عناية من بين أيام العشر، وبين ما رُتب على صيامه من الفضل العظيم، فقد ورد عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- سُئلَ عن صوم يوم عرفة، فقال: "يُكفِّر السنة الماضية والسنة القابلة"(رواه مسلم).
وهذا يدل على أن صيامه يُكفر ذنوب سنة قبله وذنوب سنةٍ بعده، ويُقصد بذلك تكفير الصغائر من الأعمال السيئة دون الكبائر من الذنوب، وذلك التكفير مشروطٌ بترك الكبائر, قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)[النساء: 31].
وصيام عرفة إنما يُستحب لغير الحاج، وأما الحاج فلا يسنُّ له صيام هذا اليوم، وفطره أفضل تأسيًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد وقف بعرفة مفطرًا، فعن أم الفضل بنت الحارث -رضي الله عنها-: أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ, "فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ"(رواه البخاري ومسلم)؛ ولأن المفطر أقوى على الدعاء من الصائم، لا سيما في شدة الحر.
وللدعاء يوم عرفة مزية على غيره؛ فإن النبي قال -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"(رواه مالك والترمذي، وانظر الصحيحة للألباني)؛ قال ابنُ عبد البر: "وفيه من الفقه: أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره... وفي الحديث -أيضًا-: دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وفيه -أيضًا-: أن أفضل الذكر لا إله إلا الله" ا.هـ.
فليحرِص المسلم المقيم والحاج على الدعاء في هذا اليوم العظيم؛ اغتنامًا لفضله ورجاءً للإجابة والقبول، وليدع لنفسه ووالديه وأهله وللإسلام والمسلمين، وإذا صام المقيم هذا اليوم ودعا عند الإفطار فما أقرب الإجابة، وما أحرى القبول؛ فإن دعاء الصائم مستجاب، وعلى المسلم أن يُكثرَ من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق؛ فإنها أصل دين الإسلام الذي اختاره الله لهذه الأمة، وأكمله في هذا اليوم العظيم.
عباد الله: مما يشرع في صبيحة يوم عرفة عامة التكبير والتحميد والتهليل، والتكبير ينقسم إلى قسمين: التكبير المقيد الذي يكون عقب الصلوات المفروضة، ويبدأ من فجر يوم عرفة, قال ابن حجر -رحمه الله-: "ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث، وأصح ما ورد عن الصحابة قول علي وابن مسعود -رضي الله عنهم-: أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى، أما الحاج فيبدأ من حين يرمي جمرة العقبة".
وأما التكبير المطلق فهو الذي يكون في عموم الأوقات، ويبدأ من أول ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق, حيث كان الصحابيان الجليلان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنها- يخرجان إلى السوق، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، والمقصود تذكير الناس؛ ليكبروا فرادى لا جماعة، فالمسلم يكبر ويذكِّر غيره، وينشر هذه السنة بين الناس في يوم عرفة، ويوم النحر، وسائر أيام التشريق.
فدونكم -عباد الله- هذه الفضائلَ والأعمال فاغتنموها، وإياكم والتواني والكسل، وبادروا بالتوبة قبل حلول الأجل، وعليكم بإحسان العمل؛ فإن لله -جل وعلا- نفحاتٍ في أيامه، فلنهتبل الفرصة ولنستكثر من الحسنات، علَّ الله -جل وعلا- أن يعفوَ عن زلاتنا وسيئاتنا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا.
وبعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى.
عباد الله: على صعيد عرفات يحصل ذاك الاجتماع الكبير, اجتماعٌ اختلفت فيه الألوان، وتعدَدت الأجناس، وتنوَعت الألسنة، ولكن توحَدت فيه القلوب والمقاصد، فكل يرجو رحمة الله، ويطلب رضاه، ويسأله من فضله العظيم.
فبادر -أخي المسلم- إلى اغتنام هذه الأيام الفاضلة المباركة بالأعمال الصالحة وكثرة الاجتهاد؛ فإنه ليس لما بقي من عمرك ثمنٌ، وتب إلى الله من تضييع الأوقات، واعلم أن الحرص على العمل الصالح في هذه الأيام المباركة هو في الحقيقة مسارعةٌ إلى الخير، ودليل على التقوى, قال -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32].
اللهم سلِّم الحجاج والمعتمرين، وأعنهم على أداء مناسكهم، واحفظهم من شر كل ذي شر، اللهم ردَّهم إلى ديارهم سالمين غانمين بالأجر والثواب موفورين.