الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
وما علينا -جميعًا- إلَّا أن نكون يدًا واحدةً في تشييع تلكم الجائحة خارجَ واقعنا إلى غيرِ رجعةٍ -بإذن الله-، ولن يكون ذلك إلا بشعورنا جميعًا بالمسؤولية؛ فلن يعود عملٌ متكاملٌ بعدَ الله إلا بتعاوُنِنا ووعينا، ولا تعليمٌ منضبِط إلا باللقاح، ولا عودةٌ لتجارة ناجعة، ولا معيشة مستقرة دونَ هذا الشعور الواعي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله البَرِّ الرحيمِ، غافرِ الذَّنب وقابلِ التَّوب، شديد العقاب ذي الطَّوْل، لا إلهَ إلَّا هو إليه المصير، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدى، له الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يُرجَع الأمر كلُّه، له الحمد كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، له الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا، وله الحمد على كل حال، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله، النبي الخاتم، إمام المرسَلين، وقائد الغُرّ المحجَّلين، المبعوث رحمةً للعالمينَ، خير مَنْ دعا إلى الله، وصلَّى له وصام، جعَلَنا على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالكٌ، فصلوات الله عليه، وعلى آل بيته الطيبينَ الطاهرينَ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرّ الميامين، ومَنْ سار على طريقهم، واتَّبَع هداهم إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فلا وصيةَ أعظم في البذل، من الوصية بتقوى الله -جل شأنه-؛ فهي للمؤمن زمامٌ، وعن الهوى خطامٌ، بها الاستقامةُ في الدنيا، والنجاةُ في الأُخرى برحمة أرحم الراحمينَ، فلا خابَ مَنِ اتَّقاه، ولا خَسِرَ مَنْ سلَك سبيلَه؛ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[الْقَمَرِ: 54-55].
أيها الناس: إن من سُنن الله على عباده أفرادًا وجماعاتٍ، أن يُرِيَهم آياتِه في الآفاق وفي أنفسهم، ويبتليهم بالْمِحَن والإِحَن، وشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات؛ تمحيصًا منه وامتحانًا، ليَمِيزَ الصابرَ من الساخط، والعاملَ من القاعد، فمَنْ صبَر فيها رَبِحَ، وعَلِمَ أن كلًّا من عند الله، وأنه رُبَّ ضارةٍ نافعةٌ، ورُبَّ مِنَحٍ في طياتِ مِحَنٍ، ومَنْ سَخِطَ فيها فله السخطُ والخيبةُ في الحال والمآل، فإنَّ من علامات التوفيق في المحن الخروجَ منها بحالٍ أحسنَ مِنَ التي قبلَها، من الإيمان بالله، والوعي والإدراك والاتعاظ، وإن مِنْ تلكم الابتلاءات -عبادَ اللهِ- ما حلَّ بعالَمنا اليومَ من هذه الجائحة الصحية، التي جرحت بمخالبها جسدَ العالَم أجمع، فكان لها خلالَ عامين متتاليين انعكاساتٌ سلبيةٌ في الصحة والاقتصاد، والتعليم وسَير الحياة العامّ، لقد أربكت تلكم الجائحة العالَم بأَسْره، على ما فيه من قوة ومنَعة وتمكين.
وإننا إبَّان ترقُّب أفولها -بإذن أرحم الراحمين- لَينبغي لنا ألَّا نَهِن بعد الجهود التي بُذلت في رفعها، وألَّا نستخفَّ بمتحوِّراتها المتجدِّدة، التي تُباغِت العالَمَ حينًا تلوَ آخَرَ، بل يجب علينا أن نستصحب فيها التوكلَ على الله مع فعل الأسباب؛ إذ هما أُسَّان رئيسان في أبجديات مكافحتها؛ فإن التوكل على الله -جل شأنه- لا يَحجُب الأخذَ بالأسباب المشروعة، وإنَّ الأخذ بالأسباب المشروعة لا يخدش التوكلَ، بل إنه ضربٌ من ضروب طاعة الله، التي أمَر باتخاذها، مع الإيمان بأنها ليست مستقلةً بنفسها، وإنما مُسبِّبها هو اللهُ جلَّت قدرتُه، وهي والتوكُّل -عبادَ اللهِ- كجناحَي الطائرِ للاستقرار في جو الرضا بالله، والعمل والارتقاء، فلا أخذَ بالأسباب دون توكُّل، ولا توكُّل دونَ أخذٍ بالأسباب، والموفَّق مَنْ أحسَن الجمعَ بينَهما؛ لأنَّ الأخذَ بالأسباب دونَ توكُّل غرورٌ ماحقٌ، والتوكلُ دونَ الأخذ بالأسباب قصورٌ ظاهرٌ.
وقد ذكَر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن بعض السلف قولهم: "بأن التفاتَ القلب إلى الأسباب قدحٌ في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا قدح في العقل، والإعراض عن الأسباب قدح في الشرع"، ولا عجب في ذلكم عباد الله؛ فغن الله -جل شأنه- قد قرَن معجزاتِ الأنبياء بالعمل أخذًا بالأسباب، فقد قال لنوح -عليه السلام-: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)[هُودٍ: 37]، وقال لموسى -عليه السلام-: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ)[الشُّعَرَاءِ: 63]، وقال له أيضا: (أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)[النَّمْلِ: 12]، وقال لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)[الْمَائِدَةِ: 67].
ولقد مكَّن اللهُ ذا القرنين وآتاه من كل شيء سببًا، ولم يكن ذلك مانِعَه من فعل الأسباب؛ حيث قال: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)[الْكَهْفِ: 95].
إن الأخذ بالأسباب من لوازم العيش في هذه الحياة دِينًا ودُنْيا، وإن التهاون فيها قعودٌ مُرْدٍ وتوكُّلٌ خداجٌ، وقد روى مسلم في صحيحه أن ربيعة الأسلمي رضي الله -تعالى- عنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- مرافقته في الجنة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أو غير ذلك؟ قال ربيعة: هو ذاك. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فأعني على نفسك بكثرة السجود"، فانظروا يا -رعاكم الله- كيف طلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل السبب مع أن دعاءه مستجاب، وقد ابن أبي الدنيا عن معاوية بن قرة قال: "لقي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ناسا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون. قال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله -عز وجل-.
ولقد أحسن مَنْ قال:
تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ | وَلَا تَرْغَبَنْ فِي الْعَجْزِ يَوْمًا عَنِ الطَّلَبْ |
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى لِمَرْيَمٍ | وَهُزِّيَ إِلَيْكِ الْجِزْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبْ |
وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا | جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ |
إذا تقرَّر ذلكم -عبادَ اللهِ- فإنَّ مِنْ أهمِّ ما تُرفَع به تلكم الجائحةُ الجاثمةُ بعدَ الله -تعالى- فعل الأسباب تجاهَها، وإنَّ من أنجعِ الأسبابِ لذلكم الرفع فعلَ سبب التداوي؛ بأخذ اللقاح المختصّ بها، كيف لا وقد أقرَّه خبراءُ العالَم المختصُّون، وتبنَّتْه المنظماتُ الصحيةُ العالميةُ والمحليةُ، واعتمدته الدولُ والحكوماتُ التي يتعذَّر أمامَها الترددُ أو التشكيكُ فيها؛ فلأجل ذلكم يتعيَّن على الناس جميعًا في هذه المرحلة رفعُ سقف الوعي، وإحسانُ التعامل مع الأزمة، والخروج منها بأقلِّ الأضرار؛ لأجل أن يُدرِكوا بأنَّ تتبُّع الشائعات المشكِّكة، والإرجاف المروِّع، والتخذيل المثبِّط هو أكبر مُعوِّقات إنهاء الجائحة الفاتكة، إنها شائعات يُشكِّك بها مُشِيعُوها في لقاحات الجائحة دونَ بصيرة، وإنما دافعُهم في ذلك الانقيادُ للتهويش، والاستسلام للتشويش، والتأثر بالتهويل، ما جعَل المترددينَ في أخذ تلكم اللقاحات يَبنُونَ تردُّدَهم على خيوط تلك الإشاعات التي هي أَوْهَى مِنْ بيتِ العنكبوتِ، لا خطامَ لها ولا زمامَ، فَهُمْ بذلك يعطِّلون إتمامَ رفع الجائحة بالأسباب التي هيَّأها اللهُ لعباده، فضلًا منه ورحمة.
إنَّ الانقيادَ وراء الشائعات يضرُّ ولا ينفعُ، ويؤخِّر ولا يُقدِّم، ويَفرِط منظومةَ الوعي فيتطاير خرزُها، ولاتَ ساعة نَظْم مُحكَم؛ فإنه ما دخلَتِ الشائعاتُ في مجتمع إلا شانَتْه، ولا نُزِعَتْ منه إلا زانَتْه، ولو لم يكن من أضرارها إلا التشكيك في الجهود والدراسات المعتمَدة لَكَفَى، وإِنْ تعجَبُوا -عبادَ اللهِ- فعجبٌ أولئك المشكِّكون في اللِّقاحات، كيف يَقدَحُون في إجماع عالميّ على نفعها، ويزداد العجبُ حينَ لا نرى لأولئك المشكِّكين تحوُّطات في لقاحات الأدواء الأخرى، كما نراه لهم في التحوُّط للقاحات هذه الجائحة، فإننا نجدُهم يأخذون من الأدوية ذات الآثار السلبية دونَ سؤال أو احتياط، وربما أخذوا ولا يبالون لقاحات ليست في درجة لقاحات الجائحة من حيث المصداقية والاعتماد؛ فَهُمْ يَعْمَوْنَ عن كثيرٍ من إهمالهم وممارَساتهم الخاطئة في الغذاء والصحة وغيرها، ويتنطَّعون في لقاح الجائحة، لا يُبصِرون الجبلَ الماثلَ أمامَ أعينهم، ويُحدِقون بأبصارهم للقَذاة في العين، فحالُ مثل هؤلاء كحالِ مَنْ يتساهل في الدماء، ويسأل عن قَتْل البعوض في الحَرَم، عافانا اللهُ وإياكم من العجز والكسل والأهواء والأدواء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسَلين.
وبعدُ: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ- واعلموا أننا -بحمد الله- نرى بوادر انحسار تلكم الجائحة باديًا على الأبواب، إن مضى الناسُ على فِعْل ما يجب، وما علينا -جميعًا- إلَّا أن نكون يدًا واحدةً في تشييع تلكم الجائحة خارجَ واقعنا إلى غيرِ رجعةٍ -بإذن الله-، ولن يكون ذلك إلا بشعورنا جميعًا بالمسؤولية؛ فلن يعود عملٌ متكاملٌ بعدَ الله إلا بتعاوُنِنا ووعينا، ولا تعليمٌ منضبِط إلا باللقاح، ولا عودةٌ لتجارة ناجعة، ولا معيشة مستقرة دونَ هذا الشعور الواعي؛ فالله الله في أنفسكم عباد الله وفي مجتمعاتكم، فإن كل واحد منا يعد لبنة من لبنات بنيان مجتمع مرصوص، فحذارِ أن تهتز أركانُه بإهمالكم، وإياكم والاغترارَ ببوادِر انحسارِ الجائحةِ وقُربِ الوصولِ، من خلال إهمال الاحترازات المصاحِبة، واتقاء أسباب انتشارها حتى تطؤوا خطَّ النهاية بأقدامكم؛ لئلَّا نرجعَ إلى الوراء خطواتٍ كثيرةً بتفريطنا قبل التمام، واغترارنا برؤية النهايات قبلَ بلوغها.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر فإنَّ مَنْ قلَّب بصرَه يمنةً ويسرةً، أدرَك حقيقةَ ما منَّ اللهُ به علينا في بلدنا الطيِّب مِنِ امتيازٍ بارزٍ في مدافَعة هذه الجائحة، وتلك نعمةٌ تَستوجِب الشكرَ لله أولًا على هذا التوفيق؛ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النَّحْلِ: 53]، ثم الشكر بعد فضل المنعِم موصولٌ لكل مَنْ له يدٌ في مدافعتها؛ ممثَّلةً في قيادة هذه البلاد وفَّقَها اللهُ، وفي وزاراتها ومؤسساتها، ومتطَوِّعيها أفرادًا كانوا أو جماعاتٍ، فإنه لا يَشكُر اللهَ مَنْ لا يَشكُر الناسَ، وفي الحديث الصحيح: "وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ".
هذا وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلم ما تصنعون.