البحث

عبارات مقترحة:

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

فقام النبي يجر رداءه

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. فضل العلم وقدر العلماء .
  2. علماء الشريعة وغيرهم أخشى الناس لله تعالى .
  3. الآيات الكونية تتضح في هذا الزمان ما لم تتضح في غيره .
  4. تقليل البعض من ظاهرة الكسوف والخسوف .
  5. آداب لمن رأى الكسوف واستحباب الصلاة .
  6. المعرضون عن الشريعة علمهم سطحي .
  7. التفكر في الليل والنهار .
  8. تغيير القوانين الكونية لانتهاك محارم الله .

اقتباس

فَانظُرُوا -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِلى حَالِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللهِ، أَعلَمِ الخَلقِ بِاللهِ وَأَخشَاهُم لَهُ وَأَتقَاهُم لِمَولاهُ، كَيفَ فَزِعَ وَخَافَ وَخَشِيَ أَن تَكُونَ السَّاعَةُ؟! وَكَيفَ مَشَى غَيرَ مُصلِحٍ ثَوبَهُ ولا مُهتَمٍّ بِشَأنِهِ؟! ثُمَّ كَيفَ بَادَرَ إِلى الصَّلاةِ مُسرِعًا حَتى إِنَّهُ لِشِدَّةِ سُرعَتِهِ وَاهتِمَامِهِ بِذَلِكَ أَرَادَ أَن يَأخُذَ رِدَاءَهُ فَأَخَذَ دِرعَ بَعضِ أَهلِ البَيتِ سَهوًا وَذُهُولاً، وَلم يَعلَمْ بِذَلِكَ لاشتِغَالِ قَلبِهِ بِأَمرِ الكُسُوفِ ..

 

 

 

 

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: فَضلُ العِلمِ مَعرُوفٌ، وَقَدرُ العُلَمَاءِ ظَاهِرٌ، لا يَجحَدُهُ إِلاَّ جَاهِلٌ أَو مُكَابِرٌ، قَالَ سُبحَانَهُ: (قَلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ) [الزمر: 9]، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ".

وَهَذَا الفَضلُ وَإِن كَانَ مَقصُودًا بِهِ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ في المَقَامِ الأَوَّلِ، وَالمَدحُ فِيهِ يَتَنَاوَلُهُم بِالدَّرَجَةِ الأُولى، فَإِنَّ لأَصحَابِ العِلمِ عَامَّةً مِن ذَلِكُمُ الفَضلِ وَالمَدحِ نَصِيبًا، وَلا سِيَّمَا مَن قَادَهُ عِلمُهُ مِنهُم لِخَشيَةِ رَبِّهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: (إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر: 28].

فَالعُلَمَاءُ هُم أَخشَى النَّاسِ للهِ وَأَتقَاهُم لَهُ، وَأَهلُ الخَشيَةِ هُمُ العُلَمَاءُ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ العُلَمَاءَ يَطَّلِعُونَ مِن بَدِيعِ صُنعِ اللهِ في الكُونِ عَلَى مَا لا يَطَّلِعُ عَلَيهِ غَيرُهُم، وَيَرَونَ مِن سُنَنِهِ المُحكَمَةِ وَآيَاتِهِ البَاهِرَةِ في الحَيَاةِ مَا لا يَرَاهُ سِوَاهُم، سَوَاءٌ مِن ذَلِكَ مَا كَانَ في الأَنفُسِ أَو في الآفَاقِ، ممَّا هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ مِن عِندِ اللهِ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ، وَأَنَّ وَرَاءَ هَذَا الكُونِ خَالِقًا عَظِيمًا أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ، خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى، قَالَ سُبحَانَهُ: (سَنُرِيهِم آيَاتِنَا في الآفَاقِ وَفي أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53].

قَالَ الشَّيخُ ابنُ سَعدِيٍّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَقَد فَعَلَ تَعَالى؛ فَإِنَّهُ أَرَى عِبَادَهُ مِنَ الآيَاتِ مَا بِهِ تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ، وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ المُوَفِّقُ لِلإِيمَانِ مَن شَاءَ، وَالخَاذِلُ لِمَن يَشَاءُ".

وَصَدَقَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الآيَاتِ قَدِ اتَّضَحَت في عَصرِنَا هَذَا بِمَا أُوتِيَ النَّاسُ مِن أَجهِزَةٍ وتِقنِيَاتٍ بِمَا لم تَتَّضِحْ بِمِثلِهِ مِن قَبلُ، لَكِنَّ أَفرَادًا مِمَّن يُسَمَّونَ بِالعُلَمَاءِ، مِمَّن دَرَسُوا العُلُومَ العَصرِيَّةَ وَتَبَحَّرُوا فِيهَا بِمَعزِلٍ عَن تَفَهُّمِ كِتَابِ اللهِ، وَبعِيدًا عَنِ التَّفَقُّهِ في سُنَّةِ رَسُولِهِ، خُذِلُوا وَلم يُوَفَّقُوا، وَأَخفَقُوا في الاختِبَارِ وَلم يَنجَحُوا؛ إِذْ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ الدُّنيَوِيِّ القَلِيلِ، وَاستَكثَرُوا مَا أُوتُوا مِنهُ مِن قَدرٍ ضَّئِيلٍ، وَحَسِبُوا لِضِيقِ أُفُقِهِم أَنَّهُم عَلَى شَيءٍ، فَجَعَلُوا يَتَبَجَّحُونَ وَيَتَفَيهَقُونَ، وَيَتَجَاهَلُونَ الحَقَائِقَ الوَاضِحَاتِ، وَيُحَاوِلُونَ طَمسَ الحِجَجِ البَيِّنَاتِ، بَلْ وَيُعَارِضُونَ مَا جَاءَ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِن تَفسِيرٍ لِلظَّوَاهِرِ الكَونِيَّةِ، وَيَعُدُّونَهُ لِجَهلِهِم بِاللهِ مِنِ اعتِقَادَاتِ المَاضِي البَائِدَةِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ حَرِيِّينَ أَن يُلقَمُوا حَجَرًا وَأَن تُكَمَّمَ أَفوَاهُهُم، وَأَن يُضرَبَ بِكَلامِهِم عُرضَ الحَائِطِ وَتُسَفَّهَ آراؤُهُم، لا أَن يُفسَحَ لَهُمُ المَجَالُ في صُحُفِ المُسلِمِينَ النَّاطِقَةِ بِأَلسِنَتِهِم، وَتُسَوَّدَ بِهُرَائِهِمُ وَمُغَالَطَاتِهِمُ الصَّفَحَاتُ، وَلَكِنَّهَا السَّنَوَاتُ الخَدَّاعَةُ الَّتي أَخبَرَ بِهَا مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، حَيثُ قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- فِيمَا صَحَّ عَنهُ: "إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنطِقُ فِيهَا الرُّوَيبِضَةُ"، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيبِضَةُ؟! قَالَ: "المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ".

وَفي يَومِ الخَمِيسِ نَشَرَت إِحدَى جَرَائِدِنَا المَحَلِّيَّةِ وَعَلَى لِسَانِ أَحَدِ المَنسُوبِينَ إِلى عِلمِ الفَلَكِ في بِلادِنَا كَلامًا مَفَادُهُ التَّقلِيلُ مِن شَأنِ ظَاهِرَةِ الخُسُوفِ وَالكُسُوفِ، حَيثُ وَصَفَ خُسُوفَ لَيلَةِ البَارِحَةِ بِالمُتَوَاضِعِ، وَأَنَّهُ لا يَلفِتُ الأَنظَارَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الخُسُوفَ وَالكُسُوفَ حَدَثَانِ سَمَاوِيَّانِ مَعرُوفَانِ مُنذُ القَدَمِ... وَكَانَ النَّاسُ في المَاضِي يَعتَقِدُونَ أَشيَاءَ لا أَسَاسَ لها مِنَ الصِّحَّةِ، فَكَانُوا يَنسِبُونَ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ لِغَضَبِ الرَّبِّ... إِلى آخِرِ مَا جَاءَ في تَصرِيحِهِ الهَزِيلِ مِن بَعضِ الحَقَائِقِ العِلمِيَّةِ الصَّادِقَةِ، مَمزُوجَةً بِمُغَالَطَاتٍ شَرعِيَّةٍ فَادِحَةٍ.

فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ سُبحَانَهُ، مَا أَحلَمَهُ عَلَى خَلقِهِ وَمَا أَرحَمَهُ بِهِم وَمَا أَكرَمَهُ!! وَمَا أَجرَأَهُم عَلَى القَولِ عَلَيهِ بِلا عِلمٍ، وَأَسرَعَهُم إِلى تَكذِيبِ رُسُلِهِ!!

رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: إِنَّ الشَّمسَ خَسَفَت عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَبَعَثَ مُنَادِيًا: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى أَربَعَ رَكَعَاتٍ في رَكعَتَينِ وَأَربَعِ سَجَدَاتٍ. قَالَت عَائِشَةُ: "مَا رَكَعتُ رُكُوعًا قَطُّ وَلا سَجَدتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطوَلَ مِنهُ".

وَفِيهِمَا عَن أَبي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمسُ فَقَامَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَزِعًا يَخشَى أَن تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى المَسجِدَ فَصَلَّى بِأَطوَلِ قِيَامٍ وَرَكُوعٍ وَسَجُودٍ، مَا رَأَيتُهُ قَطُّ يَفعَلُهُ، وَقَالَ: "هَذِهِ الآيَاتُ الَّتي يُرسِلُ اللهُ لا تَكُونُ لِمَوتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بها عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيتُم شَيئًا مِن ذَلِكَ فَافزَعُوا إِلى ذِكرِهِ وَدُعَائِهِ وَاستِغفَارِهِ".

وَعَن أَسمَاءَ بِنتِ أَبي بَكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَت: "لَقَد أَمَرَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِالعِتَاقَةِ في كُسُوفِ الشَّمسِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ .

وَفي بَعضِ رِوَايَاتِ الكُسُوفِ في المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: ثُمَّ انصَرَفَ وَقَدِ انجَلَتِ الشَّمسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنى عَلَيهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمسَ وَالقَمرَ آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللهِ، لا يَخسِفَانِ لِمَوتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيتُم ذَلِكَ فَادعُوا اللهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا". ثُمَّ قَالَ: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ: وَاللهِ مَا مِن أَحَدٍ أَغيَرُ مِنَ اللهِ أَن يَزنِيَ عَبدُهُ أَو تَزنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ: وَاللهِ لَو تَعلَمُونَ مَا أَعلَمُ لَضَحِكتُم قَلِيلاً وَلَبَكَيتُم كَثِيرًا".

وَفي البُخَارِيِّ عَن أَبي بَكرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَانكَسَفَتِ الشَّمسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ المَسجِدَ، فَدَخَلنَا فَصَلَّى بِنَا رَكعَتَينِ حَتَّى انجَلَتِ الشَّمسُ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ لا يَنكَسِفَانِ لِمَوتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادعُوا حَتَّى يُكشَفَ مَا بِكُم".

وَعِندَ مُسلِمٍ عَن أَسمَاءَ بِنتِ أَبي بَكرٍ قَالَت: "كَسَفَتِ الشَّمسُ عَلَى عَهدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَفَزِعَ فَأَخطَأَ بِدِرعٍ حَتَّى أُدرِكَ بِرِدَائِهِ بَعدَ ذَلِكَ". قَالَت: "فَقَضَيتُ حَاجَتي ثُمَّ جِئتُ وَدَخَلتُ المَسجِدَ، فَرَأَيتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَائِمًا فَقُمتُ مَعَه..." الحَدِيثَ.

فَانظُرُوا -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِلى حَالِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللهِ، أَعلَمِ الخَلقِ بِاللهِ وَأَخشَاهُم لَهُ وَأَتقَاهُم لِمَولاهُ، كَيفَ فَزِعَ وَخَافَ وَخَشِيَ أَن تَكُونَ السَّاعَةُ؟! وَكَيفَ مَشَى غَيرَ مُصلِحٍ ثَوبَهُ ولا مُهتَمٍّ بِشَأنِهِ؟! ثُمَّ كَيفَ بَادَرَ إِلى الصَّلاةِ مُسرِعًا حَتى إِنَّهُ لِشِدَّةِ سُرعَتِهِ وَاهتِمَامِهِ بِذَلِكَ أَرَادَ أَن يَأخُذَ رِدَاءَهُ فَأَخَذَ دِرعَ بَعضِ أَهلِ البَيتِ سَهوًا وَذُهُولاً، وَلم يَعلَمْ بِذَلِكَ لاشتِغَالِ قَلبِهِ بِأَمرِ الكُسُوفِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَهلُ البَيتِ أَنَّهُ تَرَكَ رِدَاءَهُ لَحِقُوهُ بِهِ، ثُمَّ تَأَمَّلُوا بِأَيِّ شَيءٍ أَمَرَ وَإِلى أَيِّ تَصَرُّفٍ وَجَّهَ؟!

لَقَد أَمَرَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- بِالصَّلاةِ وَالدُّعَاءِ، وَوَجَّهَ إِلى الصَّدَقَةِ وَالعِتَاقَةِ، فَمَا مَعنى كُلِّ ذَلِكَ وَمَا مُؤَدَّاهُ؟! أَلا يَعني خَوفَهُ مِنَ العَذَابِ وَخشيَتَهُ غَضَبَ اللهِ؟! أَلا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَمرَ مُحتَاجٌ مِنَ العِبَادِ إِلى التَّضَرُّعِ وَالتَّقَرُّبِ إِلى اللهِ؟! أَلا فَمَا أَجهَلَ هَؤُلاءِ المُنتَسِبِينَ إِلى العِلمِ وَمَا أضحَلَ تَفكِيرَهُم!

لَقَدِ انتَكَسَت عُقُولُهُم الصَّغِيرَةُ وَزَلَّت بِهِمُ الأَفهَامُ القَاصِرَةُ! فَتَهَاوَنُوا بِمَا اهتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ، وَتَعَامَلُوا بِبُرُودَةِ قُلُوبٍ مَعَ مَا فَزِعَ لَهُ نَبيُّ اللهِ، فَصَدَقَ فِيهِم قَولُ الحَقِّ سُبحَانَهُ: (وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ * يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَافِلُونَ) [الروم: 6، 7].

إِنَّ هَؤُلاءِ المُتَحَذلِقِينَ وَلَو بَدَا في الظَّاهِرِ أَنَّهُم عُلَمَاءُ وَأَنَّهُم يَعرِفُونَ الكَثِيرَ، فَإِنَّهُم مَعَ ذَلِكَ لا يَعلَمُونَ، ذَلِكَ أَنَّ عِلمَهُم سَطحِيٌّ، يَتَعَلَّقُ بِظَوَاهِرِ الحَيَاةِ المَشهُودَةِ بِالأَعيُنِ، وَلَكِنَّهُم لا يَتَعَمَّقُونَ في سُنَنِهَا الثَّابِتَةِ وَقَوَانِينِهَا الأَصِيلَةِ، وَلا يُدرِكُونَ نَوَامِيسَهَا الكُبرَى وَارتِبَاطَاتِهَا الوَثِيقَةَ: (يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا)، ثُمَّ لا يَتجَاوَزُونَ هَذَا الظَّاهِرَ وَلا يَرَونَ بِبَصِيرَتِهِم مَا وَرَاءَهُ مِنَ الحِكَمِ البَالِغَةِ، وَلا يَنفُذُونَ بِعُقُولِهِم إِلى مَا خَلفَهُ مِنَ الأَسرَارِ البَاهِرَةِ، وَظَاهِرُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَإِنْ بَدَا لِلنَّاسِ وَاسِعًا شَاِملاً، فَإِنَّهُ مَحدُودٌ صَغِيرٌ حَقِيرٌ، وَالحَيَاةُ المُشَاهَدَةُ كُلُّهَا بِنَاطِقِهَا وَسَاكِتِهَا وَصَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا وَقَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ممَّا يَرَى النَّاسُ، إِنَّمَا هِيَ طَرَفٌ صَغِيرٌ مِن ذَلِكُمُ الوُجُودِ الهَائِلِ وَالكُونِ الوَاسِعِ.

وَالَّذِي لا يَتَّصِلُ قَلبُهُ بِضَمِيرِ ذَلِكَ الوُجُودِ، وَلا يَتَّصِلُ حِسُّهُ بِالنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ الَّتي تُصَرِّفُهُ بِأَمرِ اللهِ وَحِكمَتِهِ، يَظَلُّ يَنظُرُ وَكَأَنَّهُ لا يَرَى، وَيَبقَى مُبصِرًا الشَّكلَ الظَّاهِرَ مَشغُولاً بِالحَرَكَةِ الدَّائِرَةِ، وَلَكِنَّهُ لا يُدرِكُ الحِكَمَ اللَّطِيفَةَ، وَلا يَعِيشُ بِهَا وَلا مَعَهَا. وَهَكَذَا فَإِنَّ مَن أَعرَضَ عَنِ القُرآنِ وَتَجَاهَلَ آيَاتِهِ، لم يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِن أَن يَتَّخِذَهُ الشَّيطَانُ مَطِيَّةً لِضَلالاتِهِ: (وَاتْلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذِي آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بها وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِلْ عَلَيهِ يَلهَثْ أَو تَترُكْهُ يَلهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً القَومُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُم كَانُوا يَظلِمُونَ * مَن يَهدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِي وَمَن يُضلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ * وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ * وَللهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ في أَسمَائِهِ سَيُجزَونَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ) [الأعراف: 175 - 180].

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

أَمَّا بَعدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا * وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2، 3].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: يَنسَى النَّاسُ لِطُولِ مَا اعتَادُوا مِن مُرُورِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ جِدَّتَهُمَا المُتَكَرِّرَةَ، وَلا يَرُوعُهُم مَطلَعُ الشَّمسُ وَلا مَغِيبُهَا إِلاَّ قَلِيلاً، وَلا يَهُزُّهُم طُلُوعُ النَّهَارِ وَإِقبَاُل اللَّيلِ إِلاَّ نَادِرًا، وَلا يَتَدَبَّرُونَ مَا في تَوَالِيهِمَا مِن رَحمَةٍ بهم وَإِنقَاذٍ لهم مِنَ البِلَى وَالدَّمَارِ أَوِ التَّعَطُّلِ وَالبَوَارِ، وَمعَ هَذَا تَرَاهُم يَشتَاقُونَ إِلى الصُّبحِ حِينَ يَطُولُ بهمُ اللَّيلُ قَلِيلاً في أَيَّامِ الشِّتَاءِ، فَكَيفَ لَو فَقَدُوا الضِّيَاءَ بِشَكلٍ دَائِمٍ؟! ثُمَّ هُم يَحنُّونَ إِلى اللَّيلِ حِينَ يَطُولُ النَّهَارُ عَلَيهِم بِضعَ سَاعَاتٍ في الصَّيفِ، وَيَجِدُونَ في ظَلامِ اللَّيلِ وَسُكُونِهِ المَلجَأَ وَالقَرَارَ بَعدَ تَعَبِ العَمَلِ في النَّهَارِ، فَكَيفَ بِهِم لَو ظَلَّ النَّهَارُ عَلَيهِم سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ؟!

أَلا إِنَّ كُلَّ شَيءٍ في هَذَا الكَونِ بِقَدَرٍ، وَكُلَّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ بِتَدبِيرٍ مُحكَمٍ، وَكُلَّ شَيءٍ عِندَهُ تَعَالى بِمَقدَارٍ، وَمِن ثَمَّ تَأتي آيَاتُ القُرآنِ الكَرِيمِ لِتَوقِظَ القُلُوبَ مِن رَقدَةِ الإِلفِ وَالعَادَةِ، وَتُنقِذَ الأَنظَارَ مِنَ السَّهوِ وَالغَفلَةِ عَمَّا في الكَونِ مِن مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ، لِيَتَفَكَّرَ الإِنسَانُ الضَّعِيفُ فِيمَا سَخَّرَهُ اللهُ لَهُ بِقُدرَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيُقِرَّ بِعَجزِهِ عَن إِعَادَتِهِ لِطَبِيعَتِهِ فِيمَا لَوِ اختَلَّ أَوِ اختَلَفَ، فَيَرجِعَ بِذَلِكَ إِلى رَبِّهِ كُلَّمَا ابتَعَدَ عَنهُ، قَالَ سُبحَانَهُ: (قُلْ أَرَأَيتُم إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيتُم إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبصِرُونَ * وَمِن رَحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ) [القصص: 71 - 73].

إِنَّهَا آيَاتٌ مُدَبَّرَةٌ، وَمَخلُوقَاتٌ مُسخَّرَةٌ بِأَمرِ اللهِ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِي اللَّيلَ النَّهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمرِهِ أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِين) [الأعراف: 54]، (الشَّمسُ وَالقَمَرُ بِحُسبَانٍ)  ، (وَالشَّمسُ تَجرِى لِمُستَقَرّ لَهَا ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمسُ يَنبَغي لَهَا أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحُونَ) [يس: 38-14].

وَإِنَّ هَذِهِ الآيَاتِ المُسَخَّرَةَ، وَتِلكَ المَخلُوقَاتِ المُسَيَّرَةَ، لَتَتَغَيَّرُ عَن نِظَامِهَا وَتَخرَجُ عَمَّا أَلِفَهَا النَّاسُ عَلَيهِ إِذَا انتَهَكُوا مَحَارِمَهُ سُبحَانَهُ وَتَجَرَّؤُوا عَلَى مَعصِيَتِهِ، كُلَّ ذَلِكَ بِأَمرِ الجَبَّارِ سُبحَانَهُ وَتَقدِيرِهِ، إِنذَارًا لِلعِبَادِ وَتَخوِيفًا لَهُم كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (وَمَا نُرسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخوِيفًا) [الإسراء: 59].

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَلْنُرِ اللهَ مِن أَنفُسِنَا خَيرًا، فَإِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ، وَمَعَ هَذَا فَرَحمَتُهُ وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ: "يَبسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ حَتى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِهَا"، فَـ(تُوبُوا إِلى اللهِ تَوبَةً نَصُوحًا) [التحريم: 8]، (وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ) [النور: 31]، مُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ، وَاعبَدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.