التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبد الله الهذيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
كم من الناس من إذا كنت معه أرسل اللسان بالتسبيح والتحميد والتهليل، وأرسل النظر تفكرًا في الآيات الأفقية والنفسية، ومعّر الوجه أمام تلك المنكرات التي يُغزى بها العباد، حتى إذا غادرت إلى حيث لا تعلم حاله، إما في داره وقد أوثق رتاجها، أو مسافرًا إلى بلدٍ صار كالغريب فيها، فلا أهل ولا معارف يطلعون على حاله، فهناك يتبدل ذلك اللسان الذاكر مزمارًا يردد ألحان الشياطين ..
أخرج ابن ماجه في سننه بسند صحيح عن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله -عز وجل- هباءً منثورًا". قال ثوبان: يا رسول الله: صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: "أما إنهم من إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".
أيها الأحبة في الله: أولئك القوم، الذي يحسبون لمراقبة الناس ألف حساب، ويزنون الأعمال عند سمعهم ونظرهم أدق ما تكون، فإذا انصرفت عنهم أعين الناس، وبعدت عنهم أسماعهم، وجدوا عند ذلك مجالاً فسيحًا إلى أن ترسل الأبصار إلى الحرام، وتبطش الأيدي في الحرام، وتتحرك الأقدام إلى الحرام.
فغاب عنهم في تلك الحال أنهم ما خلوا إلا عمن لا يملك لهم جزاءً ولا حسابًا، ولا يملك لهم نفعًا ولا ضرًا، ونسوا أن الذي يملك الجزاء والحساب، وبيده النفع والضر يسمع كلامهم، ويرى مكانهم، ويعلم منهم مسارعتهم في مخالفته يوم أن غابت عنهم الأبصار التي عظموها، وهان عليهم نظر الواحد الأحد إليهم.
أيها الأحبة في الله: كم من الناس من إذا كنت معه أرسل اللسان بالتسبيح والتحميد والتهليل، وأرسل النظر تفكرًا في الآيات الأفقية والنفسية، ومعّر الوجه أمام تلك المنكرات التي يُغزى بها العباد، حتى إذا غادرت إلى حيث لا تعلم حاله، إما في داره وقد أوثق رتاجها، أو مسافرًا إلى بلدٍ صار كالغريب فيها، فلا أهل ولا معارف يطلعون على حاله، فهناك يتبدل ذلك اللسان الذاكر مزمارًا يردد ألحان الشياطين، وتكون تلك العيون هدفًا يستقبل كل سهم مسموم، ويستحيل ذلك الوجه باسمًا أمام المنكرات التي كان متمعّرًا منها.
وتصبح تلك الحسنات التي كان يبديها في خبر (كان)، فلا تحرك فيه نفسًا، ولا تعظ فيه قلبًا، ولا تثبت له قدمًا؛ لأنها ما بنيت إلا على شفا جرف هار، فعلت أمام الأنظار كالدخان، وسرعان ما ينجلي.
فكان الجزاء غدًا من جنس العمل، أن يرى تلك الحسنات التي بذل الجهد فيها جبالاً لا تثقل له ميزانًا حين تكون هباءً منثورًا.
أيها الأحبة في الله: والله لن يجني أولئك الذي يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله إلا الهم والضيق والتعب في دنياهم، وسرعان ما تنشر فضائحهم على فلتات ألسنتهم، وصفحات وجوههم، فيفوتهم كل ما بذلوه من الجهود. وتلك حال أسلافهم كما أخبر الله تعالى عنها: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَـانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاء لارَيْنَـاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـالَكُمْ) [محمد: 29ـ30].
فكل ذلك الاستخفاء من أنظار البشر لن يبلغوا منه مناهم ومرامهم، حين ينكشف الغطاء عن حقيقة أقوالهم وأفعالهم.
وما ذلك بأشد مما يستيقنونه غدًا في آخرتهم، يوم لا يملكون إلا أن ينادوا بالويل أمام الغبن الذي ظهر لهم، يوم يرون تلك الحسنات التي بذلوا فيها جهودهم، تفلت من بين أيديهم، وقد كانوا يستطيعون أن تقرّ بها أعينهم، وتثقل بها موازينهم.
أيها الأحبة في الله: تلك سبيل للمنافقين وأشباههم، فمن يرضى أن يسعى فيها؟! وتلك بضاعتهم، فمن يرضى أن يستامها؟! وتلك منازلهم فمن يرضى أن يحط فيها رحاله؟!
ومن العجب أن يسمع أحد العاصين في الخفاء بتلك الحال، فيريد الهروب منها فيجمع داءً على داء، ويتخلص من الرمد بالعمى، ويستجير من الرمضاء بالنار، فتراه يجعل عصيانه جهارًا نهارًا، يحسب أنه بذلك نجا من الوعيد، وسلم من ذلك الغبن.
فإن تعجب، فاعجب لذلك الفهم القاصر، وكأنّ بتحذير الشريعة من تلك الحال، دعوةً إلى أن يجهر بالمعصية، وتظهر المنكرات! ولكنّه الهوى، قاتل الله الهوى.
أيها الأحبة في الله: إن الحديث عن أولئك الذي يغتنمون الخفاء للمعصية والفحشاء، حديثُ تحذير من حالهم، ودعوةٌ إلى مراقبة الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؛ إذ بها تستقيم النفوس، وتطيب الحياة، ويصبح الناس مصابيح هدىً في سرٍّ وفي إعلان.
ومتى فقدت مراقبة الله تعالى في النفوس، فإن ذلك نذيرُ فسادٍ ظاهرٍ في البر والبحر.
فيا أيها العبد الموحّد: أناشدك بإيمانك بربك -عز وجل-، وبأنه يعلم السر وأخفى، وبأنه يعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وبأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وبأنه يرى ويسمع كل ما في الكون من سرّ ومن إعلان.
ولكل صوت منـه سمــع حاضـر
فبذلك الإيمان الذي توقنه في قلبك، أناشدك أن تراقب ربك -عز وجل- في سرك وإعلانك، في ليلك ونهارك، في حضرك وسفرك، فبذلك نجاتك وسعادتك.
وإن دعتك النفس إلى ريبة في جنح الظلام، وغياب الأنظار، فلا تُجِبْها إلا في حال لا يراك فيها ربك!! وأنى لك هذا؟! وهو -سبحانه وتعالى- لا تخفى عليه خافية، وهو الذي يستوي علمه بحالك، سواء في خروجك وضح النهار، أم حين تستغشي ثيابك في ظلمة الليل البهيم الأليل، كما قال سبحانه وتعالى: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [هود:5].
فإياك أن يلتفت اهتمامك إلى نظر فلان أو فلان، أو سمع فلان أو فلان، ويكون ذلك هو داعيك إلى خير أو شر؛ ولكن لتكن مراقبتك لربك أصلاً في حركاتك وسكناتك، وتقدمك وتأخرك، فإنه -سبحانه وتعالى- هو الذي بيده جزاؤك وحسابك، ونفعك وضرك.
أما البشر فلا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، فكيف يملكون ذلك لغيرهم؟!
فإذا خلوت بريــبة في ظلمـة
ثم انظر إلى ما بين يديك غدًا في الآخرة، أي منزلة تحب أن تنزلها؟! وأي مستقر تحب أن تنزل فيه رحالك؟! يوم أن ينادى في الناس: ليتبع كلٌّ ما كان يعبد، وما كان يصرف إليه عمله.
تُرى، أتبغي غير سبيل الفرار إلى الله؟! لا والله، لا أراك تبغي به بدلاً. إذًا فهذه السبيل بيضاء ليلها كنهارها، فهل أنت من السالكين؟!
ثم تأمل في حال أولئك الذي يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويوم يبقى كثير من الناس يعالجون شدة الشمس، وآلام الموقف.
ترى فَمَن يتنعم بظل ربه، ذاك الذي أنفق نفقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، فما سعى لأن يراه الناس، وأن يعلموا مقدار ما أنفقه، بل حسبه أن يعلمه ربه -عز وجل-؛ إذ إليه المقصد بذلك العمل.
وترى منهم ذاك الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال، فلم يدفعه غياب العيون، وظلام الليل إلى تلك الدعوة المنكرة؛ لأنه يحمل قلبًا امتلأ إيمانًا بربه، فكانت لا تغيب عنه مراقبته له، فصدع في وجه اللذة الحاضرة، ونزعات الهوى، وتزيين الشيطان وفتنة المرأة قائلاً: إني أخاف الله.
وترى منهم ذاك الذي ذكر الله خاليًا، فلم تسمعه أذن، ولم تره عينٌ من الخلق، ففاضت عيناه محبة وشوقًا، ورغبة ورهبة، فكفاها ما تجده من أنسٍ بذكر ربها -عز وجل-، في حين يبقى كثير من الناس في تثاقل من ذكر ربهم، وترسل ألسنتهم الحديث تلو الحديث في ذكر حبيب وصديق.
فكن -أيها المؤمن- دائم المراقبة لربك -عز وجل-، لتفوز بالزلفى إليه، فكفى به حسيبًا ووكيلاً، وكفى به وليًا ونصيرًا.
الخطبة الثانية:
لم ترد.