التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | فهد بن عبدالله الصالح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المهلكات |
إنها قصة قارون مع دعوة موسى -عليه السلام-، إنها قصة الطغيان المنكرة وقصة الكبر الهائج التي لا يخلو منها مجتمع في أية مكان أو زمان، (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76]، ذلكم هو تشخيص الحالة التي يعيشها ذلك الإنسان الذي كان من حيث النسب واحدًا من أقارب موسى ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم -أيها المسلمون- ونفسي بتقوى الله؛ فبالتقوى تنفرج الأزمات، ويرزق الله المتقين من حيث لا يحتسبون.
أيها المؤمنون: إن من محاسن التنزيل العظيم والقرآن الكريم الوعظ بالقصة المشتملة على العظة والعبرة، والقرآن لا يحكي القصص للتسلية وتزجية الأوقات، ولا يسردها تسجيلاً للتاريخ ورصدًا للوقائع، ولكنه يقصها لتقرع بمواعظها قلوب المؤمنين، ولتكون تربية لهم، ولترسخ في نفوسهم المعاني الإيمانية، والأخلاق الربانية، وفي قصص القرآن تتجلى حقائق الصراع بين أهل الحق والباطل، وأخبار الأنبياء وما أصابهم وأصاب أتباعهم من الأذى واللأواء والشدة والبأساء، ثم إن الله تعالى نصرهم وأعزهم، وجعل العاقبة الحسنة لهم، ففيها للدعاة تزكية وتصبير وتثبيت: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
في قصص القرآن العزيز بيان لغرائز الإنسان وما جبل عليه من الطبائع، فيها بيان لنزعات الطغيان بسبب المال والجاه والسلطان: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
أيها المصلون: بين أيدينا اليوم واقعة قرآنية، عجيب خبرها، خطير أمرها، متكررة نظائرها وصورها، إنها قصة قارون مع دعوة موسى -عليه السلام-، إنها قصة الطغيان المنكرة وقصة الكبر الهائج التي لا يخلو منها مجتمع في أية مكان أو زمان، (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76]، ذلكم هو تشخيص الحالة التي يعيشها ذلك الإنسان الذي كان من حيث النسب واحدًا من أقارب موسى ولكن الطغيان شط به وألقاه في معسكر فرعون، وكانت فتنته في المال، وكانت حقيقة مصيبته هي الطغيان: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7]، نتيجة لطغيانه يرى أنه استغنى عن ربه وعن رحمته ولطفه، وحينئذ يرديه ظنه.
ولقد تكرر في كتاب الله -عز وجل- عرض صور الأغنياء البطرين غليظي الأكباد الذين غرتهم قوتهم وكثرتهم وأموالهم وثرواتهم، ومن عادة هذا الصنف أن يسارعوا قبل غيرهم في تكذيب رسل الله ودعاة الحق؛ وذلك لما يفعله الترف فيهم من بطر النعمة والانغماس في الملذات والشهوات والشعور بالقوة والاستغناء،إنهم يقاومون الدعوة خوفاً على نفوذهم وحفاظاً على الحرية غير المنضبطة التي يعيشونها، إنهم يرفضون الدعوة خوفًا على التميز الاجتماعي الذي قد يفقدونه مع دخولهم في دين أو دعوة ترى أن الناس سواسية: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء: 111]، والترف -أيها المؤمنون- يغلظ القلوب، ويفقدها الحساسية، يفسد الفطرة ويغشيها فلا ترى دلائل الهداية فتستكبر على الهدى وتصر على الباطل ولا تنفتح للنور؛ إن الله تعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ: 34، 35].
إنهم لسيطرة حياة البطر على نفوسهم تغيب عنهم سنة الله في المكر والاستدراج التي يخوف بها عباده، فيستبعدون نقمة الله وعذابه، فيزيدهم هذا الشعور إعراضًا ونكرانًا؛ ولذلك كله حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته من سطوة المال والجاه بالنفس وخطورتهما على الدين فقال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه"، ومشكلة هؤلاء المصابين بداء البطر أنهم إذا ذكروا بالنعمة التي بين أيديهم يقول أحدهم مقالاً أو حالاً: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78]، إن لم يقلها بلسانه كما قالها التاجر الطاغية قارون قالها بقلبه فيظن أنه حاز تلك التجارة بمهارته وذكائه وفطنته وحسن تدبيره، ولا ترى نفسه المريضة غيره من الأذكياء الكادحين الذين قدرت عليهم أرزاقهم.
وشتان بين هذه المقالة الجاحدة والتعليل الكافر وبين ما قاله سليمان -عليه السلام- وقد أوتي خيرًا مما أوتي قارون، لقد قال: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]
شتان ما بين مقالة قارون وقولة ذي القرنين العابد الشاكر: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98].
والأغنياء في كل زمان ومكان يعيشون بواحد من قلبين: إما قلب قارون بجشعه وطغيانه وبطره، وإما بقلب صالح يشعر بما شعر به سليمان وذو القرنين ويقر بفضل الله ومنته ويعمل به في طاعته، وإذا رأيت المجتمعات أو أفرادها يمارسون المحرمات باسم الترفية عن النفس، ويمارسون الظلم بدعوى التميز، ويمارسون المعاصي باسم الحرية، فتلك هي مواقف الطغيان وحقيقة الجحود، وتلك هي التعبير العملي عن رفض الدعوة والنصيحة والأمن من مكر الله، بل تلك هي نذر الهلاك ومؤشرات العقوبة.
ويمضي السياق القرآني العظيم قدمًا في سرد خبر المتجبر المختال الطاغية قارون: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79]، قال ابن كثير -رحمنا الله وإياه-: "ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس وخدم وحشم، فلما رآها الذين يعظمون زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله".
تلك هي الفتنة التي تتعرض لها المجتمعات والأمم حينما ترى الدنيا وقد فتحت ذراعيها لكل متكبر جبار، وتبهر زينة الأرض بعض القلوب الذين يريدون الحياة الدنيا ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها، لا يرون شقاء صاحبها بكفره وإعراضه ولا يتذكرون مآله، ولكن هناك صنف من الناس لا تخدعهم المظاهر ولا تضللهم الأشكال، إنهم الذين أوتوا العلم، أهل العلم والفهم والتقوى والورع، إنهم أهل الفقه الصحيح الذي يزنون به الأمور ويقيمون به الحياة حق التقويم، أولئك لهم موقف آخر ورأي مختلف، حينما رأوا الناس وقد سال لعابهم إلى ما في يدي قارون حينما رأوا ضعاف العقول يتمنون لو عاشوا عيشة الكفار ونعموا بما ينعمون صاحوا في المخدوعين: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص: 82]، ففتنة الحياة وزينتها ومظاهرها تسلب الألباب، ولا عاصم منها إلا العلم وتذكر ما عند الله.
ولخطورة النظر إلى زخارف الدنيا على وجه الإعجاب حظره الإسلام ونهى عنه؛ قال الله تعالى محذرًا نبيه من مغبة تتبع المترفين بالنظر في متاعهم: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها منهي عنه"، ولعل تلك الحكمة كانت خلف مقولة عمر: "لا تدخلوا بيوت الأغنياء؛ فإنها مسخطة للرزق". ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء.
قارون هذا الذي كانت مفاتح خزائنه تنوء بالعصبة، ذمَّه الله في أكثر من موضع، ثم انظروا إلى نهايته البئيسة، انظروا هوانه على الله، انظروا كيف غابت تلك المراكب الفارهة والقصور الباذخة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص: 81]، فلما كان طالباً للهو غيبه الله في الأرض.
فلا إله إلا الله، ما أعظم الله، وما أشد نقمته، وما أهون الدنيا وأسرعها إلى الزوال، ما أحقر المكذبين وما أضعفهم!! (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ).
ساعة نزول سخط الله صمت ضجيج الطغاة وخمدت أنفاسهم، وساحت شخوصهم وممالكهم في الأرض، عاد تلك التي ملأت الأرض عربدة وفخرًا وقالت: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت: 15] ذهبت بريح عاتية.
وثمود التي نحتت حضارتها في الجبال والأودية خمدت بصيحة، وفرعون الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) [النازعات: 24] هلك بالماء.
(وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 39، 40]
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وبعد: إن القرآن العظيم حينما يعرض قصة قارون ويسجل أقواله ويصف طريقته في التعامل مع نصيحة الناصحين ووعظ الواعظين، ثم يبين كيف انقسم الناس إلى قسمين أمام هذه الظاهرة، ثم يعرض النتيجة المروعة والخاتمة البئيسة، إن القرآن وهو يسوق ذلك كله ليصف حالات كثيرة لا زالت تقع ويتكرر وقوعها، وسواء كان ذلك التاجر الطاغية فردًا أم مجتمعًا أم أمة، فإن الفلسفة واحدة، والموقف من الدعاة واحد، وإن النتائج تأتي متشابهة، انظروا إلى عامة الناس المخلوبة قلوبهم بزينة الدنيا وهم يَبدون في هذه القصة خفافًا سطحيين رأوا قارون فقالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79]، هكذا دون تأمل ولا نظر فيما خلف الأمور، فلما حلّت به عقوبة الله تغيرت نظرتهم وتبدلت كلماتهم: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص: 82].
أما أهل الوعي فلم يتفاجؤوا بشيء؛ لقد علموا سلفًا بما أودع الله قلوبهم من العلم واليقين بما تؤول إليه عاقبة البطرين الأشرين، إنهم لا يفاجَؤون بهلاك طاغية أو زوال أمة متجبرة كافرة، لقد علّمهم النظر في سنن الله أن ظاهرة الطغيان ظاهرة مؤقتة ولها مراحلها التي تمر بها سريعًا، ثم يحدث السقوط والزوال الذي يكون في الأغلب مدويًا ومفاجئًا، وهنا تبرز قيمة العلم والوعي والثقافة الذي يمنح صاحبه ملكة يفرق بها بين الأمور، ويزن الأمور والمواقف بميزان الشرع والعقل.