البحث

عبارات مقترحة:

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

خواطر حول النصر والهزيمة

العربية

المؤلف سعيد بن عبد الباري بن عوض
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. سنن الله في الكون .
  2. أسباب النصر .
  3. حِكَم وفوائد من هزيمة المسلمين في أحد .
  4. هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر؟ .

اقتباس

إننا -مع الأسف- نكثر الكلام بدون حاجة لذلك، لكننا نعيش وضعًا قد أصبح الكلام فيه بضاعتنا التي لا نستغني عنها، إننا بحاجة -والله- إلى تأمل وتدبُّر أكثر من الكلام! ولو أننا تأملنا في كتاب الله وسنة رسوله، ثم تأملنا في حالنا، لعرفنا الداء والدواء، ولما احتجنا إلى تلك الإطالة التي لا داعي لها ..

 

 

 

 

أوجد الله هذا الكون، وجعل له سننًا كونية ثابتة لا تتغير، وقوانين لا تتبدل، ولهذه السنن أسباب، مَن أخذ بها تحققت له نتائجها، وحصل على ثمراتها، ومن لم يأخذ بأسبابها خسر النتائج ولم يجن الثمار. "مَن جَدَّ وَجَدَ، ومن زَرَعَ حصد"، مثل معروف يشير إلى سنة كونية أودعها الله في هذا الكون. 

وبنظرة عميقة سريعة إلى حال أمة الإسلام، ووضعها التقني وما يسمى بالتكنولوجيا، مقارنة مع كثير من دول الكفر، نرى أن هذه السنة الكونية واضحة جلية، فقد حصل القوم على تقدم هائل في مجالات التصنيع والإنتاج بما لا يمكن مقارنته مع وضع المسلمين، والسبب هو تحقيق هذه السنة الكونية. هذا في أمر من أمور الدنيا، ودعونا من أمر الدنيا الآن، وإنما ضربت مثلاً أريد به تقريب المعنى.

ومن السنن الكونية التي قررها الله تعالى في كتابه في مواضع عديدة أن العزة والنصر لعباده المؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]، ويقول -جل في علاه-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47]، وقال سبحانه: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر:51]، وغيرها كثير. وهذه قضية مسلَّمة لا يجوز لمسلم أن يكون عنده فيها أدنى شك، وإن حصل ذلك فإنه الكفر. أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

لكن هناك أسئلة تلح على النفس تطرح مع هذا الكلام؛ ليحصل الفهم الصحيح لهذه القضية، وحتى لا تشوبها شائبة: ما أسباب النصر؟ هل يعني ذلك أن المؤمنون في نصر دائم ولا يمكن أن يهزموا؟ هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر على أعدائها؟.
 

معاشر المؤمنين، الإجابات على هذه الأسئلة محور الحل لمشكلة من مشاكل الأمة، وكبرى قضاياها التي تعاني بسببها هذه الأمة الأمريَّن. إن من الواجب على الأمة اليوم، جماعات وأفرادًا، دراسة هذه الأسئلة وبحثها بحثًا يراد منه التوصل إلى حل لأزماتها ومصائبها التي أصيبت بها، وتخرج بحل عملي يسارع في انتشال الأمة من الغرق.

أيها المسلمون، إننا -مع الأسف- نكثر الكلام بدون حاجة لذلك، لكننا نعيش وضعًا قد أصبح الكلام فيه بضاعتنا التي لا نستغني عنها، إننا بحاجة -والله- إلى تأمُّلٍ وتدبُّرٍ أكثر من الكلام، ولو أننا تأملنا في كتاب الله وسنة رسوله، ثم تأملنا في حالنا، لعرفنا الداء والدواء، ولما احتجنا إلى تلك الإطالة التي لا داعي لها.

فنحن اليوم نكثر الكلام ونطيل، وكان بالإمكان أن يختصر الكلام بكلمات جامعة نافعة يتدبرها الناس، ويخرجون بنتائج عظيمة، ولعل بعض من يطيل يفعل ذلك لأن ذلك هو الذي يروج عند كثير من أفراد هذه الأمة.

أمة الإسلام، إن التأمل في كتاب ربنا تبارك وتعالى يجيب على التساؤل الأول الذي طرحناه، وهو السؤال عن أسباب النصر، فعند القراءة في كتاب الله نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أجاب على هذا التساؤل بإجابة مختصرة شافية كافية، يقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].

إنها -عباد الله- كلمات يسيرات تبين لنا أسباب النصر بما يمكن لو أردنا نحن الإجابة عليه لتكلمنا بما لا يتسع له مقام خطبة الجمعة، أما القرآن فقد بين القضية أفضل بيان وأوضحه، شرط النصر أن تنصروا الله، وما نصرة الله عز وجل؟ إنها إقامة شرعه، وتطبيق دينه واقعًا على الأرض، يحياه الناس عملاً وقولاً واعتقادًا. إنها العمل بكتاب الله وسنة رسوله ونشرهما بين الناس، ولو أبغضك من أبغضك، ولو كره الكافرون الذين يهاجموننا ويتهموننا بشتى التهم، لأننا نعمل بكتاب الله وسنة رسوله .

وإن شئت -أخي الكريم- فاقلب السؤال الذي نناقشه الآن وقل: ما أسباب الهزيمة؟ لتسمع جوابًا شافيًا كافيًا من رسول الله فيما رواه أبو داود من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، يذكر فيه أن ترك دين الله، وترك نشره، وحب الدنيا، والتعلق بها، هو سبب الهزيمة؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". فهذا جواب آخر من رسول الله بلا إطالة ولا إكثار.

وأما التساؤل الثاني حول حصول الهزيمة للمؤمنين في بعض معاركهم ضد الكفر، فمن تأمل في كتاب الله وسنة رسوله وجد الإجابة واضحة جلية، فقد ذكر الله في كتابه قصص بني إسرائيل، وأنهم قتلوا بعض أنبيائهم، وأشار تبارك وتعالى إلى هزيمة المسلمين في معركة أحد، وبين أسبابها والحكمة منها في مجموعة من الآيات ذكرها سبحانه في سورة آل عمران.

وقد هزم المسلمون في معارك عدة أمام الكافرين، وليس ذلك بمستغرب وإن استغربه كثير من المسلمين. وهذا ما حصل للمؤمنين يوم أن هزموا في أحد فتعجبوا كيف يهزمون وهم المؤمنون؟! بل كيف يحدث ذلك ورسول الله يقاتل معهم؟! فعلى المسلمين أن يعلموا أنهم قد يهزمون في بعض معاركهم ضد الكافرين، ولذلك أسبابه؛ كحصول المعصية من المؤمنين، فتكون العقوبة هزيمتهم في تلك المعركة.

كما أنه يجب على المسلمين أن يفهموا أن الله -جل وعلا- لم يخبر بأن المسلمين سينتصرون في كل معركة يخوضونها، وإن كان قد وعد المؤمنين بالنصر، وإنما المراد بذلك النصر النهائي، والعاقبة لا تكون إلا للمؤمنين، كما أشار تبارك وتعالى لذلك في غير آية، قال تعالى: (وقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]، وقال سبحانه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران:140].

عباد الله، لقد هزم المسلمون في أحد، فهل كانت تلك النهاية؟! كلا، بل كانت الخاتمة للمؤمنين، وجاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. لقد هزم المسلمون في أحد هزيمة شمِت فيهم بسببها الأعداء، فلما حصل ما حصل جعل عبد الله بن أبي بن سلول والمنافقون يشمتون ويسرون بما أصاب المسلمين, ويظهرون أقبح القول، فيقول ابن أبي لابنه عبد الله وهو جريح قد بات يكوي جراحه بالنار: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي، عصاني محمد وأطاع الوِلْدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله تعالى لرسوله وللمسلمين خير.

وأظهر اليهود القول السيئ, فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك؛ ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه. وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله أصحابهم، ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون: لو كان مَن قتل منكم عندنا ما قتل.

وسمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن فمشى إلى رسول الله ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين، فقال: "يا عمر، إن الله تعالى مظهر دينه ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم"، فقال عمر: فهؤلاء المنافقون؟ قال: "أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟)) قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذًا من السيف، فقد بان لنا أمرهم، وأبدى الله تعالى أضغانهم عن هذه النكبة، فقال: "إني نهيت عن قتل من قال: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله يا بن الخطاب، إن قريشًا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن". وهكذا شمت أعداء الإسلام بهزيمة المسلمين، لكن النهاية كانت للمؤمنين، وأعز الله دينه، وأعلى كلمته.

إن الهزيمة -عباد الله- قد تكون نعمة، والمحنة قد تكون منحة، وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت، وربما صحت الأجساد بالعلل. فقد كان في هزيمة المسلمين في أُحُد حكم وفوائد، منها -مثلاً- اتخاذ الشهداء من المسلمين، وبيان سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع.

ومنها أن الهزيمة من أعلام وأدلة الرسل، كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال, يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال هرقل: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.

ومن فوائد الهزيمة كذلك أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، ومنها تطهيرهم وتنقيتهم من معاصيهم، وغير ذلك كثير مما ذكر العلماء.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى كل ذلك في سورة آل عمران، وجاءت تلك الآيات لتثبيت المعايير الإيمانية في مفهوم القدَر، ومفهوم الحياة والموت، ومفهوم النصر والهزيمة، والربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق. فهل الهزيمة تعني الخسارة؟ وهل الموت يعني الخسارة؟ كلا والله، فقد مات من الصحابة في معركة أحد سبعون رجلاً، فهل خسروا؟ بل ربحوا -والله-جنة عرضها السماوات والأرض! واتخذهم الله شهداء عنده، أحياء غير أموات، عند ربهم يرزقون.

ولقد قتل المؤمنون في الأخدود وأحرقوا، فهل خسروا؟ ولقد قتل الغلام المؤمن، كما في حديث الغلام المؤمن والساحر، بطريقة كان هو الذي دلَّ الملِكَ عليها بعد أن عجز عن قتله، فهل خسر؟! بل ربح أولئك جميعا رضوانَ الله والدار الآخرة.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:
 

 

 

 

ويبقى -إخوة الإيمان- التساؤل الثالث يحتاج إلى إجابة، وهو: هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر على أعدائها؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى تفصيل طويل، ولا أريد ذلك، لكن ربما يكون من المفيد لنا جميعًا أن نقسم هذا السؤال الضخم إلى أسئلة صغيرة، يكون من السهل علينا جميعًا الإجابة عليها.

معاشرَ المؤمنين: يقول تعالى: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) [محمد:7]، هل نصرنا الله بإقامة شرعه وتطبيقه على أنفسنا، فالتزمنا بأوامر ربنا، واتبعنا سنة نبينا؟ لا شك أننا جميعًا نعرف الإجابة على هذا السؤال؛ لأن كل واحد منا أدرى بنفسه من غيره.

ويقول تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]، فهل نحن صالحون بحيث تنطبق علينا هذه الآية فيورثنا الله الأرض؟.

ويقول تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:41]، فهل أقمنا الصلاة، وأدينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر؟ أم أن الكثير منا قد ضيع الصلاة، وتحايل على الزكاة، ورأى المنكرات فسكت، ولم يأمر بالمعروف حتى أقرب الناس إليه؟!.

وهكذا، في قائمة أسئلة معروفة الإجابات تظهر لنا الإجابة على ذلك السؤال الكبير، ويتبين منها أن الأمة اليوم بحاجة إلى عودة إلى ربها، وتوبة صادقة؛ ليتحقق لها موعود الله بالنصر.

ومع ذلك كله نقول: إننا على ثقة بأن الأمة الإسلامية اليوم -وإن هزمت في كثير من الميادين- فإن الغلبة لها، والعزة، والنصر، والتمكين؛ وعدًا من الله، والله لا يخلف الميعاد.