الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
العربية
المؤلف | عاصم محمد الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
سلوا أفئدة الشباب عن أفضل لاعب في العالم، سلوهم عن الفنان الشهير الذي غير جنسه من ذكر إلى أنثى، سلوهم عن أشهر عازف قيثارة، عن أحسن طبل أو مزمار، عن ملكات جمال الدنيا، عن أطيب أنواع السيجار، عن أسماءٍ لم تعرف اسم الله القهار، ثم سلوا كلَّ الشباب على الرصيف، غبيَّهم وذا العقل الحصيف!! سلوهم عن أمين هذه الأمة، عن سيدها الغطريف، وصاحب المجد المنيف، سلوهم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، تعالى الله عن الشبيه وعن الشريك وعن الكفء والنظير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
التخلية قبل التحلية، نظفوا قلوبكم من تصدُّر التافهين، ثم حلوها بالمصلحين، في زمن غثائية القدوات، لا شيء أحوجُ لنا من الهجوم، أقوى وسيلة للدفاع هي الهجوم، هجم العالم علينا طويلاً بأصنامه وأعلامه وأزلامه، حتى غدونا كالميت بين يدي مغسله، في كل يوم يبعث العالم كله رائحة العفن من خلال متصدريه، ونحن نستحيي أن نبعثَ للعالم رائحة الزكاء وعبق السناء عبر قدواتنا، ونقول له: أولئك قدْواتي فجئني بمثلهم، أيها العالم الذي سقانا الهوانَ، ثم ملِّك بيننا الغربانَ!!
عيَّشنا العالمُ حقبًا عجافًا مع ثلة من الساقطين، حتى استمرأْنا الرقادَ على أسرّة الوهن، ومخدع الخلود إلى الهاوية.
أجيبوني ماذا قدمت الحضارات المخالفة لنا من قدوات!! لا أقصد قدواتِ الإبداع المادي، فلعن الله الذكاء والإبداع مع الكفر، وأمة الإسلام هي ربييةُ كلِّ إبداع، وما قصرت في الإبداع المادي والحضاري إلا حين قصرت في الإبداع الروحي، الإبداعِ الذي يسمو بصاحبه إلى ملكوت السموات والأرض.
لطالما عشعشت رؤوسُنا من تقديس أئمة يدعون إلى النار، فمتى نستفيق على ذكرى أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون!!
سلوا أفئدة الشباب عن أفضل لاعب في العالم، سلوهم عن الفنان الشهير الذي غير جنسه من ذكر إلى أنثى، سلوهم عن أشهر عازف قيثارة، عن أحسن طبل أو مزمار، عن ملكات جمال الدنيا، عن أطيب أنواع السيجار، عن أسماءٍ لم تعرف اسم الله القهار، ثم سلوا كلَّ الشباب على الرصيف، غبيَّهم وذا العقل الحصيف!! سلوهم عن أمين هذه الأمة، عن سيدها الغطريف، وصاحب المجد المنيف، سلوهم عنه:
فما لجوابهم ركز ولكن | بإطراق الرؤوس على الذقون |
حين يشوينا العالمُ اليوم بخياناته، وغدراته وفجراته، ويعصر خمر الفجور ونقض المواثيق، نحب أن نقول له: احفل بخياناتك -أيها العالم-، فسوف يكون حديثنا اليوم عن أمين هذه الأمة، سوف يكون حديثنا عنه، لنستريح بذكرى أماناته وأمانه. أزكمَ أنوفَنا حديثُ الخيانة، وقد آن أن تُعطِّر ما أفسد الناس بعدك بالخيانة -أيها الأمين العظيم-.
خياناتٌ مع الله، وخياناتٌ مع البشر، بل حتى مع الحيوان والنبات!! عطروا أسماعكم بأخبار هذا العظيم، فحديثنا ما كان عن لبنى ولا سلمى ولا ليلى، ولا عن قصة الحب التي سلفت، ولا عن:
فارس الأحلام حين تحققت أحلامه | من بعد نقض الوعد والإخلاف |
نقول لكل الأمم: اقذفوا بكل مشاهيركم وقدواتكم وأذكيائكم وصُنَّاعكم، فإن لنا موعدًا مع رجل قال عنه النبي -عليه الصلاة والسلام-: هو أمين هذه الأمة!
وإذا تحـدث أحمدٌ عن صحبه | فلتـخرس الفصحاء والبلغاءُ |
وليخفض الناس الرؤوس فإنما | من صحب أحمد تخجل الأسماءُ |
أمين هذه الأمة، ومزكيه أمين من في الأرض.
سند الفخار معنعنٌ ما فيه من | خرم ولا قطع ولا آفات |
أبو عبيدة عامرُ بن الجراحَ..
وإذا ذكـرتُ أبـا عبيدة | ساخت الألقاب والأسماء |
رجل نفاخر نفسه في نفسه | وبنفسه تتفاخر الأعضاء |
دعوني قبل ذكر حياته أذكر يوم مماته، حين عزى معاذ -رضي الله تعالى- عنه الصحابة والأمة باستشهاد هذا الأمين، لا جرم إن الشهيدَ حياتُه بمماتُه!!
أَخرج الحاكم في المستدرك وغيره: قال: لما طُعن أبو عبيدة -رضي الله عنه- بالطاعون في الشام، قال أبو عبيدة: "يا معاذُ: صلِّ بالناس، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة، فقام معاذ في الناس فقال: "يا أيّها الناس: توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً؛ فإنه لا يلقاه امرؤ تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أَن يغفر له". ثم قال: "إنكم -أيها الناس- قد فُجِعتم برجل -والله- ما أَزعم أَني رأيت من عباد الله عبداً قطُّ أَقل غِمْراً، ولا أبرأ صدراً، ولا أَبعد غائلة، ولا أَشد حباً للعاقبة، ولا أَنصح للعامة منه، فترحَّموا عليه ثم أَصْحِروا للصلاة عليه، فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً، فوالله لا يلي عليكم مثله أبدًا".
فاجتمع الناس وأُخرج أَبو عبيدة -رضي الله عنه- وتقدَّم معاذ -رضي الله عنه- فصلّى عليه، حتى إذا أُتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحَّاك بن قيس، فلما وضعوا أبا عبيدة في لحده وخرجوا فشنّوا عليه التراب، فقال معاذ بن جبل: "يا أبا عبيدة: لأثنِيَنَّ عليك ولا أقول باطلاً، إني أَخاف أَن يلحقني بها من الله مَقْتٌ إن كنت سأكذب: كنتَ -والله يا أبا عبيدة- كنت والله -ما علمتُ- من الذاكرين الله كثيراً، كنتَ -يا أبا عبيدة- من الذين يمشون على الأَرض هَوْناً وإِذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، كنت -يا أبا عبيدة- من الذين إِذا أَنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً، كنت والله -يا أبا عبيدة- من المُخبتين، المتواضعين، كنت والله -يا أبا عبيدة والله- من الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويُبغضون الخائنين المتكبرين".
يتيم كأن سماء الله قد قذفت | به أمينًا على أرض الخيانة والغدر |
إليه تناهى العز من كل وجهة | يصير له أنى يصيُر يصيرُ |
أبو عبيدة عامرُ بنُ الجرّاح، أجهلتموه؟! هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه: "إن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح".
أجهلتموه؟! وجهلتم لمَ نُصِّب أمينًا على هذه الأمة؟! أيقال عنه: من هو؟! هذا الذي أرسله النبي في غزوة جعله أميرًا على جيش فيه أبو بكر وعمر. أجهلتم هذا الصحابيَّ الجليل وهو أولُ من لُقب بأمير الأمراء؟! أهذا الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين؟! أجل، هو هو.
وليس قولك:
من هذا بضائره | العرب تعرف من أنكرت والعجم |
هو القوي الأمين، بالله أسمعت هذه المقالة من قبل من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين يثني على أبي عبيدة!! أسمعت منه حين قال عنه، وعمر يجود بأنفاسه الأخيرة ويقول: أبو عبيدة!! أبو عبيدة!! "والله لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيًا لاستخلفته من بعدي، فإن سألني ربي عنه قلت: استخلفت أمين الله، وأمين رسوله".
رجـل المكارم والعلا رجل | وما إن مثله بين المفاخر ثاني |
إن فاخرت شم الجبال بطولها | فلنا الجبال بصبغة الإنسان |
بل أخرج الطبراني، وابن عساكر، وغيرهما، أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال في مرض وفاته: "إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن ووددت أني لم أفعلهن"، فذكر الحديث، ثم قال فيه: "وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت هذا الأمر في عنق أحد الرجلين: أبي عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطاب".
هذا القوي الأمين أسلم على يد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في الأيام الأولى للإسلام، قبل أن يدخل النبي -عليه الصلاة والسلام- دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف إلى جوار رسوله في غزوة بدر، وغزوة أحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القويّ الأمين بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذًا الدنيا وراء ظهره، مستقبلاً آخرته في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة. إنه القوي الأمين..
وبربكم يا عامرًا بقلوبنا | ما كان حبكم حديثًا يفترى |
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
لما مدَّ أبو عبيدة يده ليد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركًا -رضي الله عنه- تمام الإدراك ما تعنيه هذه الكلماتُ الثلاثُ (في سبيل الله)، وكان على أتم استعداد لأن يعطيَ في هذا السبيل كلَّ ما يتطلبه من بذل وتضحية.
ومنذ بسط يمينه مبايعًا رسول الله، وهو لا يرى في نفسه، وفي أيامه وفي حياته كلِّها سوى أمانة استودعها الله إياه لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه، ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة.
ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفّى به بقيةُ الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلاً لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه، وأهداه اليه، لينصِّبه أمينًا أمينًا.
لقد أحبّ رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- أبا عبيدة حبًا عظيمًا، ونحن والله نحبه، ونحن والله نحبه، ونحب من يحبُّه، ونرجو أن يتغمدنا الله بحبنا لأبي عبيدة، ونرجو أن يكون هذا المقام الذي نقومه لذكر جمائل أبي عبيدة وسيلة نتقرب بها إلى الله -عز وجل-، وأن يحشرنا مع أبي عبيدة ونبي أبي عبيدة وصحب أبي عبيدة، عن عبد الله بن شقيق -رحمه الله- قال: سألت عائشة: أي أصحاب رسول الله كان أحبَّ إليه؟! قالت: "أبو بكر"، قلت: ثم من؟! قالت: "ثم عمر"، قلت: ثم من؟! قالت: "ثم أبو عبيدة بنُ الجراح". روه الترمذي وصححه، وصححه الألباني.
لقد أحب رسولُ الهدى -عليه الصلاة والسلام- أمين الأمة أبا عبيدة كثيرًا، وآثره كثيرًا، حتى قال عنه -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي وثّقه ابن حجر: "ما من أحد من أصحابي إلا لو شئت لأخذت عليه في خُلُقه شيئًا، ليس أبا عبيدة بنَ الجراح".
مستمسكٌ وبحبل الله معتصمٌ | فاق الصحابة في خلق وفي خلقِ |
إن السمو إذا تناهى في فتى | فمحِلُّه في عامر الجراح |
ويومَ جاءه وفدُ نجران، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والإسلام، قال لهم رسول الله: "لأبعثن معكم رجلاً أمينًا، حقَّ أمين، حقَّ أمين، حقَّ أمين". وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله فتمنى كل واحد منهم لو كان هو الذي يقع عليه اختيارُ رسول الله، فتكون هذه الشهادةُ الصادقةُ من حظه ونصيبه، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ما أحببت الإمارة قط، حبّي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجّرًا، فلما صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بنَ الجرّاح، فدعاه، فقال: "اخرج معهم -يا أبا عبيدة-، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه". فذهب بها أبو عبيدة".
ولقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يغبط أبا عبيدة غبطة شديدة، ويحبه حبًا شديدًا، حتى قدمه في مجالسه وفي غزواته، وإنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه.
حتى استخلفه عمر على الجيوش الجرارة التي يقودها سيف الله المسلول خالد بن الوليد، فعزل عمرُ خالدًا، ثم ولى أبا عبيدة، كان عمر يعرف أبا عبيدة معرفة أكيدة، ويجله إجلالاً عظيمًا، وهو الذي قال عنه: "لو كان أبو عبيدة حيًا لاستخلفته من بعدي".
كان عمر يعرف الإنسان الحقيقي، وكان يعرف أن أفضل الاستثمار هو الاستثمار في الإنسان؛ لنُسْمِعَ الأجيالَ هذا الخبرَ من عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله تعالى عنه-، ولنعلم جميعًا أن خير المشاريع التي يمكن أن نُقيمها ليست في تنفيذ المشاريع الخيرية ولا في إنفاق الأموال في سبيل الله مع خيريتها العظيمة، إن خير المشاريع التي تبقى ولا تفنى، وهي الاستثمار الحقيقي، هو: في إعداد النشء الصالح ليكون مصلحًا، ينفع الله به الأمة من الناس.
روى الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي أن عمر قال يومًا لمن حوله: "تمنوا"، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدارَ مملوءةٌ ذهبًا فأنفقه في سبيل الله، ثم قال: "تمنوا"، فقال رجل: أتمنى لو أن هذه الدارَ مملوءةٌ لؤلؤًا أو زبرجدًا أو جوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق به، ثم قال عمر: "تمنوا"، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين!! قال عمر: "لكني أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح".
نعم الشهادة والمشهود والشهدا
إن السمو إذا تناهى في فتى | فمحله في عامر الجراح |
كان أجملَ ما في أبي عبيدة -وكلُّ خلاله شعت جمالاً، كنوَّارٍ عليه رداء طلِّ- كان أجملَ ما في أبي عبيدة تضحياته لدين الإسلام مع صمت وسمت؛ ما أكثر من يحدث الجلبات في مسيرته الدعوية أو الخيرية والعلمية، ومن يقولُ للناس: ها أنا ذا عُذيْقها المُرجَّبُ، وجُذَيْلُها المُحَكَّكُ، فاستفتوني أُفتكم، وما أكثر من يشارط الناس ألا ينفعهم إلا إذا أشهروه، وأظهروا معروفه، بئس هذا الناس!! إن الله غني عن عمل تُبتغى به وجوه الناس.
كأن أبا عبيدة -رضي الله تعالى عنه- سمع هذا الحديث فآلى على نفسه أن يمتثله: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْخَفِيَّ"، فكان عبدًا خفيًا تقيًا، ومع أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد أهداه صك الخلود الأبدي بأن بشّره بالجنة وكان من العشرة المبشرين، إلا أن كثيرًا من أبناء الإسلام لا يعرفون هذا الرجل ولا يذكرون فضله في الإسلام، ولا تضحياتِه العظمى.
أخرج البيهقي عن عروة بنِ الزبير -رضي الله عنهما- قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرو بنَ العاص -رضي الله عنه- إلى ذات السلاسل من مشارف الشام، فلمّا صار إلى هناك خاف عمرو بن العاص من كثرة عدوه، فبعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمده، فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر، وعمر من سراة المهاجرين -رضي الله عنهم أجمعين-، وأمَّر عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-، فلما قدموا على عمرو بن العاص قال عمرو: أنا أميركم وأنا أرسلتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أستمده بكم، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين. فقال عمرو: إنما أنتم مدد أُمددته. فلما رأى ذلك أبو عبيدة -وكان رجلاً حسن الخلق لين الشِّيمة تقيًا خفيًا- قال أبو عبيدة لعمرو بن العاص: تعلم -يا عمرو- أنَّ آخر ما عهد إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لي ولك أن قال: "إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا"، وإنك إن عصيتني لأطيعنَّك. فسلَّم أبو عبيدة الإِمارة لعمرو بن العاص.
وحاله: إليك إليك لا حبًا بمال ولا شرفٍ ولا جاهٍ ومُلْك.
ولو لم يكن في كفه غيرُ روحه | لجاد بها فليتق الله سائله |
وفي تلك رسالة إلى من يقتتلون لأجل حب رئاسة أو منصب، أو من يعرِّضون فريضة الجهاد في سبيل الله إلى شهواتهم ومغامراتهم، واختلافاتهم، لأجل لعاعة يسيرة، فيكون الاحتداد ظاهرًا، والتفرق بينًا، والثمن: سقوط الجهاد ومقاصده العظمى.
كان أبو عبيدة واثق الخطوة يعرف نفسه، وكان يعلم أن الإمارة والقيادة وسيلةٌ لتحقيق غايةٍ، لا غايةٌ لتحقيق وسيلة.
كانت جمائلُ عامر بن الجراح، جمائل عظيمة، ومزايا جليلة، كانت مفاخره جلى، ومحتده ضافٍ، ومنبعه من أفضل الرسل.
كان أبو عبيدة أهتم، أي: مكسور الثنيتين، ووالله إنه لهتْم أجمل من أسنان الذهب على لهاة فضة!!
وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصديق يصف لنا هذا المشهد بكلماته حيث يقول: "لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى دخلت في وجنته حلْقتان من المِغفر، أي من الدرع الذي في رأسه، أقبلت أسعى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنسانٌ قد أقبل من المشرق يطير طيرانًا شديدًا إلى رسول الله، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى إذا توافينا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو أبو عبيدة بنُ الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله -يا أبا بكر- أن تتركني فأنزع المغفر من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو بكر: فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّته إحدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه، ثم أخذ الحلقة الأخرى بالثنيَّة الأخرى فسقطت. فكان أبو عبيدة في الناس أهتم".
ما ضره، فلعلها سبقته إلى الجنة شاهدة له بالتضحيات الخضر والغفران.
كان أبو عبيدة هو أبا التضحيات، كان يفاصل في تضحياته، الإسلام أولاً، وتأتي البقية أخيرًا.
كان أهم أمر لديه، هو تحقيق مراد الله في أرضه، حتى ولو كان ذلك على حساب أقرب الأقربين، كانت تضحياته شهودًا له بالفدائية والعظمة والشكيمة والشيمة، يا له من رجل:
مِـنَ النَّفَرِ الْغُرِّ الَّذِينَ سُيُوفُهُمْ | لَهَا فِي حَوَاشِي كُلِّ دَاجِيَةٍ فَجْرُ |
إِذَا اسْتَلَّ مِنْهُمْ سَيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ | تَفَزَّعَتِ الأَفْلاكُ وَالْتَفَتَ الدَّهْرُ |
لهُـمْ عُمُـدٌ مَـرْفُوعَةٌ وَمَعَاقِلٌ | وَأَلْوِيَةٌ حُمْرٌ وَأَفْنِـيَةٌ خُضْـرُ |
وَنَارٌ لَهَا فِي كُلِّ شَرْقٍ وَمَغْرِبٍ | لِمُـدَّرِعِ الظَّلْـمَاءِ أَلْسِنَةٌ حُمْرُ |
تَمُدُّ يَداً نَحْوَ السَّـمَاءِ خَضِيبَةً | تُصَافِحُهَا الشِّعْرَى وَيَلْثِمُهَا الْغَفْرُ |
كان -رضي الله عنه- يفاصل أعداء الملة ولا يساوم ولو كان هذا العدوَّ أبوه؛ روى أهل السير أنه حين أنزل الله -عز وجل- قولَه: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)، قال أهل السير: إنها نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح، حين قتل أباه في معركة بدر الكبرى، وكان أبوه في صف المشركين، معلنًا عدم المساومة على دينه، حتى ولو كان أبوه، ولسان حال أبي عبيدة:
جئتني يوم البراز لا أرى | إلا إله الكون والله اشترى |
لو أن آساد العـرين تفزعت | لم يلـق غير ثباتنـا الميدان |
توحيدك الأعلى جعلنا نقشه | نورًا تضيء بصبحه الأزمان |
هذا الرجل الذي قتل أباه في معركة بدر لأنه كان مع المشركين، هو الذي آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين بلال بن رباح، ولسان حاله: "إنه أبي دونك".
أبي الإسلام لا أب لي سواه | إذا افتخروا بقيس أو تميم |
أبو عبيدة..
هو البحر في أحشائه الدر كامن | واسألوا الغواص عن صدفاته |
حياك الله -يا أبا عبيدة-، وحيا الله دينًا أنجبك، ورسولاً علّمك، وصحبًا كانوا معك. كل خبر عنه يمثل مدرسة حياتية، فبورك هذا الجبل وبوركت صخراته البيض، وبورك كل قاف على هدى أبي عبيدة ونبي أبي عبيدة.
ولسنا في هذا المقام إلا متطفلين على موائد جبل عظيم، ولسنا علم الله، لنفي له حقه، وما نحن وذاك وقد أوفاه له رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-، بل عسى الله أن يبعث الله منا من يجدد لهذه الأمة أبا عبيدة وأخلاق أبي عبيدة، فهذه الأمة عطشى قيم، عطشى أمانة، عطشى مروءات، عطشى شجاعة.
اللهم ارضَ عن أبي عبيدة، وارضَ عن صحب أبي عبيدة، وارض عنا بوقوفنا هذا المقام، اللهم ارض عنا وأرضنا وأرض بنا، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وانصرنا على القوم الكافرين، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين واجعلنا للمتقين إمامًا.
وقيض لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، وأئمة راشدين، يعز بهم أهل طاعتك ويهدى فيهم أهل معصيتك، إنك سميع الدعاء.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد.