العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | مراد كرامة سعيد باخريصة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
اتفقت الشرائع السماوية والعقول السوية على وجوب المحافظة على الضروريات الخمس، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وأعظمها بعد حفظ الدين حفظ النفس؛ فإن الشريعة الإسلامية اعتنت عناية فائقة بحفظ النفس، وشرعت الأحكام لذلك، فحرم الله -سبحانه وتعالى- قتل النفس بغير حق، وحرم الانتحار، ونهى عن الإشارة إلى المسلم بالسلاح ..
اتفقت الشرائع السماوية والعقول السوية على وجوب المحافظة على الضروريات الخمس، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وأعظمها بعد حفظ الدين حفظ النفس؛ فإن الشريعة الإسلامية اعتنت عناية فائقة بحفظ النفس، وشرعت الأحكام لذلك، فحرم الله -سبحانه وتعالى- قتل النفس بغير حق، وحرم الانتحار، ونهى عن الإشارة إلى المسلم بالسلاح، وحذّر من الحرب الكلامية التي تفضي للعداوة والتقاتل.
لقد حمى الله النفس وأكد على تحريمها، وقرن بين الشرك وبين القتل فقال -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله: وما هن؟! قال: "الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق".
لقد رتب الله -سبحانه وتعالى- على قتل النفس عقوبات أليمة في الدنيا والآخرة؛ أما عقوبات الآخرة فقد ذكرها الله في قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93]، وأما عقوبة الدنيا فهي القصاص: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة: 45]، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 179]، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا". رواه البخاري. ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم".
إن حفظ الأنفس وحمايتها ضرورة دينية، وفطرة سوية، ومصلحة شرعية، وطبيعة بشرية، وغريزة إنسانية؛ فدماء المسلمين عند الله مكرَّمة محرمة مصونة محترمة، لا يجوز لأحد -كائنًا من كان- أن يسفكها أو ينتهكها إلا بحق شرعي.
إن قتل النفس المعصومة عدوان آثم، وجرم غاشم، وجريمة شنعاء، وفعلة نكراء، ترتعد لها الفرائص وتنخلع لها القلوب: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32]، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يجيء المقتول متعلقًا بقاتله يوم القيامة، آخذًا رأسه بيده، فيقول: يا رب: سل هذا فيم قتلني!!"، قال: "فيقول: قتلته لتكون العزة لك". هذا في القتل بحق، فيقول: "فإنها لي. ويجئ آخر متعلقًا بقاتله فيقول: رب: سل هذا فيم قتلني!!"، قال: "فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له، بؤ بإثمه"، قال: "فيهوي في النار سبعين خريفًا". رواه النسائي وصححه الألباني.
عباد الله: إن جريمة القتل هي أول جريمة ارتكبت على وجه الأرض في عهد آدم -عليه السلام- عندما قتل قابيل هابيل: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة: 30، 31]؛ ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمه؛ لأنه كان أولَ من سن القتل". متفق عليه.
إن مما يحزن النفس حقًّا ويملأ القلب أسفًا هذه الأيام ما نسمعه بين اليوم والآخر من مجازر وقتل واعتداء، راح ضحيته عشرات القتلى ومئات المصابين والجرحى، في حوادث عديدة في عدد من المحافظات.
إن التلاعب بالنار وإطلاق الرصاص وإراقة الدماء تلاعب قذر سوف يجر البلاد والعباد إلى فتنة سوداء مظلمة تحرق الأخضر واليابس، وتدخل البلاد في أزمات وانزلاقات صعبة، وتفتح باب الانتقامات والعداوات والثارات على مصراعيه، فلابد من غلق هذا الباب وتطهير المجتمع من هؤلاء السفهاء والبلاطجة والمجرمين، الذين يعملون على إشعال الفتن وإثارة النزاعات، وأن يُعلموهم أن الشعب ليس حقلاً للتجارب ولا ساحة لتصفية الحسابات السياسية والقبلية والحزبية؛ لأن الأمور إذا استمرت على هذه الطريقة يُخرج هؤلاء سفهاءهم ليعتدوا على أولئك، ويُخرج أولئك سفهاءهم ليعتدوا على هؤلاء، ويكذب كل فريق على الآخر في إعلامه، وكلٌّ منهما يُخرج إلى الشارع أصحابه وأنصاره، فإن النتيجة هي مزيد من الأحقاد والعداوات والدماء والأشلاء والفتن التي لا تعد ولا تحصى، خاصة وأن عوامل الفتنة في أيامنا هذه كثيرة، ومثيرات الفتن متعددة، والشيطان حاضر وحريص على إشعال الحرائق، والسلاح متوفر ومنتشر، وسيكون لهذه الاعتداءات آثار سلبية كبيرة، وتبعات سيئة خطيرة، وفوضى عارمة لا تبقي ولا تذر.
إن التصرفات الطائشة التي يقوم بها هؤلاء البلاطجة من قتل للأنفس البريئة، وإزهاق للأرواح المسالمة، تصرفات شاذة تثير الفتنة وتستفز المشاعر وتلهب العواطف، ولها شؤم كبير وضرر خطير لن يجني هؤلاء من ورائه إلا الشر الذي سيكونون وقوده، وأول من يحترق بناره وضرره.
وليعلم هؤلاء البلاطجة أن أوامر قادتهم لن تعذرهم أمام الله، ولن تعفيهم من تحمل إثم كل نفس قتلوها أو أصابوها؛ يقول الله -جل جلاله وعز كماله-: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة: 166، 167]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب: 67، 68].
الخطبة الثانية:
إن محاكمة المجرمين الذين قاموا بهذه المجازر الفظيعة والمذابح الرهيبة في صنعاء وعدن فريضة شرعية، وضرورة إنسانية؛ لأنهم سفكوا الدماء البريئة، وقتلوا الأنفس المعصومة، واستحلوا الدم الحرام، وقاموا بأعمال لا تقوم بها إلا نفسيات حاقدة مجرمة تربت وتدربت على أيدي الصليبيين والمتصهينين والسفاحين.
لقد قُتل في هذه المذبحة العشرات، وجرح وأصيب المئات، واستخدم فيها الرصاص والقناصة والقنابل اليدوية والغازات السامة، واهتز الناس جميعهم من هول الجريمة وفداحة الحادثة، وعرفوا أن هذا السلوك الإجرامي والقتل الانتقامي لا يصدر إلا من نفسيات وعقليات عدوانية لا تسلك سلوك البشر، ولها قلوب قاسية أشد قسوة من الحجر؛ إذ لا يقوم بهذه المذابح البشعة والأعمال الخبيثة التي يندى لها الجبين وتتقطع لها الأفئدة، إلا من فقد معاني الإنسانية وتلذذ بإراقة الدماء وباع نفسه للشيطان.
لقد وصلت الأزمة في البلاد إلى هاوية سحيقة وفجوة عميقة، وتلبدت سماء البلد بغمام أسود لا يُرجى منه ماء غدق، وإنما يخشى منه أن يُمطر بلاءً محدقًا وشرًّا مهلكًا.
لقد دخلت البلاد فعلاً في وضع خطير، ومنزلق مخيف، وأحداث دامية، ومنعطفات مأساوية، ستجعل البلد -إن لم يتداركه الله برحمته- عرضة للتمزق والتناحر والاقتتال الداخلي وربما التدخل الخارجي، وهذا يتطلب منا يقظة وتوبة وتضرعًا وإدراكًا؛ فنحن نعيش في مرحلة استثنائية مطلوب منا أن نتعلم فقهها، وأن نفهم أحكامها، وأن نتقي الله في أنفسنا، ونتقي الله في ديننا ومنهجنا، نتقي الله في شرع ربنا، نتقي الله في مستقبلنا، نتقي الله في إخواننا، نتقي الله في أولادنا، نتقي الله في مصالحنا العامة والخاصة؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي...".