الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
خلق الله الرحمَ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها، ومَن وصَله الرحيمُ وصلَه كلُّ خير ولم يقطَعه أحد، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ وعاشَ في كَمَد، (وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) الحج:18.
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقّ التقوى، فبتقوى الله تُستجلَبُ النّعم، وبالبُعد عنها تحلّ النقَم.
أيّها المسلمون، يهدِف الإسلام إلى بناءِ مجتمعٍ إسلاميّ متراحمٍ متعاطِف، تسودُه المحبّةُ والإخاء، ويهيمِن عليه حبّ الخيرِ والعَطاء.
والأسرةُ وحدة المجتمع، تسعَد بتقوى الله ورعايةِ الرّحِم، اهتمّ الإسلامُ بتوثيق عُراها وتثبيتِ بنيانها، فجاء الأمر برعايةِ حقّها بعدَ توحيد الله وبرّ الوالدين، قال جلّ وعلا: (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَـانًا وَبِذِى الْقُرْبَى) [النساء:36]. وقُرِنَت مع إفراد الله بالعبادةِ والصّلاة والزّكاة، عن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبِرني بعملٍ يدخلني الجنّة، قال: ((تعبد الله ولا تشرِك به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتؤتي الزكاةَ، وتصِلُ الرّحم)) متفق عليه.
أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها، قال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى) [البقرة:83]، ودَعا إلى صِلتها نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم في مَطلع نبوّته، قال عمرو بن عبَسَة: قدمتُ مكّةَ أوّلَ بعثةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخلتُ عليه فقلت: ما أنت؟ قال: ((نبيّ))، قلت: وما نبيّ؟ قال: ((أرسَلَني الله))، قلت: بِمَ أرسلك؟ قال: ((بصلةِ الأرحام وكسرِ الأوثان وأن يُوحَّد الله)) رواه الحاكم
وسأل هرقل أبا سفيان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما يقول لكم؟ قال: يقول: ((اعبُدوا الله وحدَه ولا تشركوا به شيئًا))، ويأمرنا بالصّلاة والصِّدق والعَفاف والصّلَة. متفق عليه.
وأمَر بها عليه الصلاة والسلام أوّلَ مقدمِه إلى المدينة، قال عبد الله بن سلام: لمّا قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ انجفلَ الناس إليه ـ أي: ذهَبوا إليه ـ فكان أوّل شيء سمعتُه تكلَّم به أن قال: ((يا أيّها الناس، أفشوا السّلام، وأطعِموا الطّعام، وصِلوا الأرحامَ، وصَلّوا بالليل والنّاس نِيام، تدخلوا الجنّة بسلام)) رواه الترمذيّ وابن ماجه. وهي وصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال أبو ذر: "أوصاني خليلِي بصِلة الرّحم وإن أدبَرت". رواه الطبراني.
صِلة ذوي القربَى أمارةٌ على الإيمان، ((من كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحِمَه)) متفق عليه. وقد ذمّ الله كفّارَ قريش على قطيعةِ رحمِهم فقال عنهم: (لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً) [التوبة:10].
القيامُ بها برٌّ بالوالدَين وإن كانوا أمواتًا، جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل بقيَ من برّ أبويَّ شيءٌ أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الدعاءُ لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدِهما مِن بعدهما، وصِلة رحمِك التي لا رحمَ لك إلاّ من قِبَلهما)) رواه أبو داود.
خلق الله الرحمَ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها، ومَن وصَله الرحيمُ وصلَه كلُّ خير ولم يقطَعه أحد، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ وعاشَ في كَمَد، (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) [الحج:18] .
والله يُبقي أثرَ واصلِ الرّحم طويلاً، فلا يضمحِلّ سريعًا كما يضمحِلّ أثر قاطعِ الرّحم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((قال الله للرّحم: أما ترضينَ أن أصلَ من وصلك وأن أقطعَ من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) متفق عليه، ((والرحمُ معلّقة بالعرش تقول: مَن وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)).
صلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا، لمّا نزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ) [العلق:1] رجع بها ترجِف بوادرُه حتّى دخل على خديجةَ فقال: ((زمِّلوني))، فأخبرَها الخبَر، وقال: ((قد خشيتُ على نفسِي))، فقالت له: كلاّ والله، لا يخزيكَ الله أبدًا؛ إنّك لتصلُ الرّحم، وتحمِل الكَلّ، وتكسِب المعدومَ، وتَقري الضّيف. رواه البخاري.
أمَرَ الله بالرّأفة بهم كما نرأَف بالمِسكين، قال عزّ وجلّ: (وَءاتِ ذَا الْقُرْبَىا حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء:26] . حقُّهم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والفقراء، قال سبحانَه: (يَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَـامَىا وَالْمَسَـاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة:215] . السخاءُ عليهم ثوابٌ مضاعفٌ من ربِّ العالمين، قال عليه الصّلاة والسّلام: ((الصدقةُ على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقةٌ وصِلة)) رواه الترمذي.
وأوّلُ مَن يُعطَى مِن الصدقة هم الأقربون مِن ذوي المَسكنَة، تصدّق أبو طلحة رضي الله عنه ببستانِه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((أرَى أن تجعلَها في الأقربين))، فقسمَها أبو طلحة على أقاربِه وبني عمّه. متفق عليه. يقول عليّ رضي الله عنه: (لأن أصِل أخًا مِن إخواني بدِرهم أحبّ إليّ من أن أتصدّق بعشرين درهمًا).
الباذلُ لها سخيُّ النّفس كريم الشّيَم، يقول الشعبيّ رحمه الله: "ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه".
الجارُ من ذوي الأرحام أخصُّ بالرّعاية والعنايةِ مِن غيره، قال سبحانه: (وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَىا وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّـاحِبِ بِالجَنْبِ) [النساء:36].
دعوتُهم وتوجيهُهم وإرشادهم ونُصحهم ألزمُ من غيرِهم، قال جلّ وعلا: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]. وإكرامُ ذوي القراباتِ مأمور به على أن لا يكونَ في التّقديم بخسٌ لأحدٍ أو هضمٌ لآخرين، قال سبحانه: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا) [الأنعام:152] .
في صلةِ الرّحم ثمراتٌ هي أسُسٌ في بِناء الحياة؛ محبّة الأهل، بَسط الرّزق، بركةُ العُمر، يقول صلى الله عليه وسلم: ((صِلة الرّحم محبّةٌ في الأهل، مثراة في المالِ، منسَأَة في الأثر)) رواه أحمد، وعند البخاريّ ومسلم: ((من أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسَأ له في أثَره فليصِل رحمَه))، قال ابن التّين: "صلةُ الرّحم تكون سببًا للتوفيقِ والطاعة والصيانة عن المعصيةِ، فيبقى بعدَه الذكرُ الجميل فكأنّه لم يمُت".
صِلتُها عبادةٌ جليلة مِن أخصِّ العبادات، يقول عمرو بن دينار: "ما مِن خطوة بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خطوةٍ إلى ذي الرّحم". ثوابُها معجَّل في الدنيا ونعيمٌ مدَّخرَ في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أُطِيع الله فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم)) رواه البيهقيّ.
والقائمُ بحقوقِ ذوي القربَى موعودٌ بالجنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أهلُ الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مُقسط، ورجلٌ رحيم رقيقُ القلب بكلّ ذي قُربى ومسلم، ورجلٌ غنيّ عفيف متصدِّق)) رواه مسلم.
بصلتِهم تقوَى المودَّة وتزيدُ المحبَّة وتتوثَّق عُرى القرابةِ وتزول العداوة والشّحناء، فيها التعارفُ والتواصلُ والشعور بالسّعادة.
صِلة الرّحم والإحسان للأقربين طرقُها ميسَّرة وأبوابها متعدِّدة، فمِن بشاشةٍ عند اللّقاء ولينٍ في المُعاملة، إلى طيبٍ في القول وطلاقةٍ في الوجه، زياراتٌ وصِلات، مشاركةٌ في الأفراح ومواساةٌ في الأتراح، وإحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، نصحُهم والنّصح لهم، مساندةُ مكروبِهم وعيادة مريضهم، الصفحُ عن عثراتهم، وترك مضارّتهم. ولا يكن أهلُك أشقى الخلقِ بك، والمعنى الجامِع لذلك كلّه إيصالُ ما أمكَن من الخير، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرّ.
صلةُ الرّحم أمارةٌ على كَرَم النّفس وسَعَة الأفُق وطيبِ المنبَتِ وحُسن الوَفاء، ولهذا قيل: مَن لم يصلح لأهلِه لم يصلح لك، ومَن لم يذبّ عنهم لم يذبَّ عنك. يقدِم عليها أولو التّذكرة وأصحاب البصيرة، (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىا إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألْبَـابِ) [الرعد:19].
أيّها المسلمون، إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا، لقد فعل إخوة يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم، قال: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ)[ يوسف:92].
غُضَّ عن الهفواتِ، واعفُ عن الزّلاّت، وأقِلِ العثرات، تجنِ الودَّ والإخاء واللينَ والصفاء، وتتحقَّق فيك الشهامةُ والوفاء. داوِم على صِلة الرّحم ولو قطعوا، وبادِر بالمغفرة وإن أخطؤوا، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين، ولا تجعَل عِتابَك لهم في قطعِ رحمِك منهم، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء، وجانب الشحَّ فإنّه من أسباب القطيعة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إيّاكم والشّحَّ؛ فإنّ الشحّ أهلك من كان قبلكم؛ أمرهم بالبُخل فبخلوا، وأمرهم بالظّلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا)) متفق عليه.
إنّ مقابلةَ الإحسانِ بالإحسان مكافأةٌ ومجازاة، ولكن الواصلَ من يَتفضَّل على صاحبِه، ولا يُتَفضّل عليه، قال عليه الصلاة والسلام: ((ليسَ الواصل بالمكافئ، ولكنّ الواصلَ مَن إذا قطعَت رحمُه وصَلها)) رواه البخاري.
قيل لعبد الله بن مُحَيريز: ما حقّ الرّحم؟ قال: "تُستَقبَل إذا أقبَلت، وتُتْبَع إذا أدبَرت"، وجاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إنّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنّما تسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمتَ على ذلك)) رواه مسلم.
وكلّ رحِم آتيةٌ يومَ القيامةِ أمامَ صاحبها، تشهَد له بصلةٍ إن كانَ وصلها، وعليه بقطيعةٍ إن كان قطعَها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأُوْلُواْ الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىا بِبَعْضٍ فِي كِتَـابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ) [الأنفال:75].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الروابطُ تزداد وُثوقًا بالرّحم، وقريبُك لا يَمَلّك على القرب ولا ينسَاك في البُعد، عِزّهُ عزٌّ لك، وذلّه ذلٌّ لك، ومعاداة الأقاربِ شرّ وبلاء، الرّابح فيها خاسِر، والمنتصِر مهزوم.
وقطيعة الرّحم مِن كبائر الذّنوب، متوَعَّد صاحبُها باللّعنةِ والثبور، قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىا أَبْصَـارَهُمْ) [محمد:22، 23]. التدابرُ بين ذوِي القربَى مؤذِنٌ بزوالِ النِّعمة وسوءِ العاقبةِ وتعجيل العقوبة، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنّةَ قاطع)) رواه البخاري، قال ابن حجَر: "القاطعُ للرّحم منقطِعٌ مِن رحمة الله".
عقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن ذنبٍ أجدر أن يعجِّل الله لصاحبِه العقوبةَ في الدّنيا مع ما يدَّخره له في الآخرة من البغي ـ أي: الظلم ـ وقطيعة الرحم)) رواه الترمذي. وهي سببٌ للذلّة والصّغار والضّعفِ والتفرّق، مجلبة للهمّ والغمّ.
قاطعُ الرّحم لا يثبُت على مؤاخاة، ولا يُرجَى منه وفاء، ولا صدقٌ في الإخاء، يشعر بقطيعةِ الله له، ملاحَقٌ بنظرات الاحتِقار مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل. لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (أحرِّج على كلِّ قاطعِ رحمٍ لَمَا قام من عندنا)، وكان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا في حلقةٍ بعدَ الصبح فقال: (أنشد الله قاطعَ رحمٍ لَمَا قام عنَّا فإنّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا؛ وإنّ أبوابَ السماء مُرتَجَة ـ أي: مغلقة ـ دونَ قاطِع الرّحم). ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة، وليعفُ وليصفح، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى:40].
وإنّ لحسنِ الخُلُق تأثيرًا في الصّلة، والزَم جانبَ الأدَب مع ذوي القربَى، فإنّ مَن حفظ لسانَه أراح نفسَه. وللهديّة أثر في اجتلابِ المحبّة وإثباتِ المودّة وإذهاب الضغائن وتأليف القلوب، والرأيُ الذي يجمَع القلوبَ على المودّة كَفٌّ مبذول وبرّ جميل، وإذا أحسنتَ القولَ فأحسِن الفعل ليجتمعَ معك فصاحةُ اللّسان وثَمَرةُ الإحسان.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصّلاة والسّلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...