البحث

عبارات مقترحة:

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

البذل ورعاية أسر السجناء

العربية

المؤلف مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الصيام - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. اهتمام النبي الكريم بإصلاح حال الفقراء .
  2. بيان ثواب الإنفاق والترغيب فيه وبخاصة في رمضان .
  3. مسابقة الصحابة والسلف في الإنفاق .
  4. عدم قصر الشريعة البذل على المال .
  5. حاجة أسر السجناء للبذل .
  6. تخلُّفُ بَذْلِنَا عن الغرب رغم ترغيب الإسلام .

اقتباس

إن الذي فرض حق هؤلاء وأوجب عطاءهم الخالق الذي أتينا هنا في هذا اليوم نرجو خيره، ونخاف عذابه، ونتعرض لنفحاته وهباته؛ أفلا نتعرض لنفحاته بالبذل والإحسان إلى خلقه، ومَن أمَرَنا بإعطائهم؟ إنه يجب أن نعلم أن الفقراء وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ في الشريعة كُرَمَاءُ على الله تعالى، وَشُرَفَاءُ في كتابه، وعند كلِّ وليٍّ مؤمن وعَى كلام الله تعالى ..

 

 

 

 

أيها المسلمون: أمَا إنه ما اصطفت أقدامُكم في الصلوات، ولا أتيتم إلى بيوت الله تعالى حين دعا داعيه ونادى مناديه تاركين دنياكم خلف ظهوركم، منقطعين عن شغلكم، ولا فاضت منكم الدموع، ولا وجفت منكم القلوب، إلا رجاءً لما عند الله تعالى من جنة عرضها السموات والأرض، وخوفاً من عقابه وناره، وكلنا يؤمل ذلك، ويرجوه، ويبغي إليه كل سبيل. 

عباد الله: ألا وإن من أقرب الطرق إلى ما تطلبون، وأرضاها لربكم الذي ترجون، وأمنعها لكم من عذابه الذي تخافون، هو الإحسان إلى كل محتاج، والعطف على كل يتيم ومسكين، وذلك لا يحتاج إلى صف قدم وانتظار وقيام، بل إنما يحتاج عزيمة صادقة، وقلب صادق سخيٍّ.

وإننا في زمانٍ -مع كثرة بذخه، وتعاظُمِ ترفه، وتكاثر أمواله- تكاثر فقراؤه، واتسع عدد المعوزين، وتعمَّق الفقر واليُتْمُ والمسكنة في الناس، وهذا دليل على فساد القلوب وقسوتها؛ بينما في الشريعة الإسلامية المعادلة تختلف تماما، حيث مع كثرة الغنى يقل الفقر، ومع تعدد الموارد يتقاصر العوَزُ وأهلهُ، إذ الغني عليه حقٌّ للفقراء، ليس فقط في زكاته، بل عند احتياجهم وشدة مسغبتهم.

عباد الله: إن مشاهدَ الفقر تتكرَّر، ومظاهر المسغبة لا تنتهي، تنطق بالمأساة، وتفيض بالعطف والرحمة؛ انظر إلى جرير بن عبد اللّه البجليّ -رضي اللّه عنه- وهو يخبرك بمشهد من مشاهد الفقر الأليم حدث أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: كنّا عند رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- في صدر النّهار، قال: فجاءه قوم حفاة، عراة مجتابي النّمار ثياب صوف أو العباء، متقلّدي السّيوف، عامّتهم من مُضَرَ، بل كلّهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- لما رأى بهم من الفاقة.

لقد كانت مظاهرهم تنطق بالفقر المدقع، والمسغبة الشديدة؛ فهل قابلها النبيُّ بالإعراض والتجاهل؟ لقد تمعَّر وجهُه غضباً! كيف تكون هذه الحال هي حالهم ولا يتبادر أهل الإسلام بإعطائهم؟ فدخل ثمّ خرج، فأمر بلالاً فأذَّن وأقام، فصلّى، ثمّ خطب، فقال: "(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى آخر الآية. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]. والآية الّتي في الحشر: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) [الحشر:18]"، ثم حثهم على الصدقة: "تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه، من صاع تمره" حتّى قال: "ولو بشقّ تمرة".

قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّةٍ كادت كفُّه تعجز عنها، بل قد عجزت؛ قال: ثمّ تتابع النّاس حتّى رأيت كومين من طعام وثياب، حتّى رأيت وجه رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- يتهلّل كأنّه مذهبة، فقال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسَنَة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنّة سيّئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

إنه مشهد كم نحن بحاجة إلى استحضاره! ونحن نرى مشاهد الفقراء والمعوزين من خلال ملابسهم، ونحالة أجسامهم، وتجعُّد وجوههم، واحتمالهم للمشاقِّ من أجل لقمة العيش! ألَا إِنَّنا في شهر الجود، جود الرب علينا بالرحمة والتوفيق وما لا يحصى، وجود النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- إذ كان أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ فإنّ رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الرّيح المرسلة.

لذا فإن حديثنا اليوم هو عن جود المسلم بالإنفاق والعطاء لإخوانه، فنحن في شهر رمضان، ولا نكاد نفارق القرآن، فالجود يتدفق في المؤمن حين يتلو كتاب الله تعالى حقاً، ويقيم الصلاة صدقاً، فتصبح كفه ندية، ونفسه سخية؛ لأنه في تجارة مع ربه رابحة لن تبور، يُوفَّى أجره فيها. لا! بل لَيَزِيدَنَّهُ ربُّهُ فوق أجره، وَلَيُضاعِفَنَّ له فضله. الله أكبر! (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:29-30].

ونحن لا أكثر منا قراءة للقرآن في شهر كشهر رمضان، ولا أعظم تحقيقاً للصلاة في شهر مثل هذا الشهر، فلعل العزائم تشتد إلى البذل، وتقوم إلى العطاء أفضل من ذي قبل، فأول ما نذكره في هذا الباب أن يعلم المسلم أن رعايته لحقِّ إخوانه واجب شرعي لا مجرد فضل تطوعي، كتبه الله تعالى في الكتاب، وأرسل به الرسول.

إن الذي فرض حق هؤلاء وأوجب عطاءهم الخالق الذي أتينا هنا في هذا اليوم نرجو خيره، ونخاف عذابه، ونتعرض لنفحاته وهباته؛ أفلا نتعرض لنفحاته بالبذل والإحسان إلى خلقه، ومَن أمَرَنا بإعطائهم؟ إنه يجب أن نعلم أن الفقراء وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ في الشريعة كُرَمَاءُ على الله تعالى، وَشُرَفَاءُ في كتابه، وعند كلِّ وليٍّ مؤمن وعَى كلام الله تعالى.

لقد جعل الله الصدقة والعطاء والبذل سبباً من أسباب الفلاح، وشارة من شارات التقوى، وميسما من مياسم الهدى، وأهْله ممن انتفع بكتاب الله تعالى واهتدى؛ قال تعالى: (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:2-5]؛ فهي أصل من أصول الإيمان، وَدِينٌ مَتينٌ، من أدَّاها ووفَّاها فقد آن له أن يكون وجِلَ القلب، عظيم الانتفاع بالكتاب إذا تُلي، صادق التوكل على ربه.

إنها عبادة جليلة جعلها الله تعالى دليلا على ما في القلب من العبوديات العالية من اليقين بالله، والتوكل عليه، وإيثاره؛ لقد شهدت لأصحابها بالإيمان الحق، فهم المؤمنون حقا، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:2-4]. فيا له من جزاء جليل لمن جاد بالقليل!.

وجعل تعالى الفقراء سُلَّماً للأغنياء يرقون بهم إلى الجنة، وحصناً منيعاً لهم من جهنم، فعن عديّ بن حاتم -رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "ثمّ ليقفنَّ أحدُكُم بين يدي اللّه ليس بينه وبينه حجاب ولا تَرجمان يترجم له، ثمّ ليقولنّ له: ألم أوتك مالا؟ فليقولنّ: بلى. ثمّ ليقولنّ: ألم أرسل إليك رسولا؟ فليقولنّ: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلّا النّار، ثمّ ينظر عن شماله فلا يرى إلّا النّار. فليتّقينّ أحدُكم النّارَ ولو بِشِقِّ تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيّبة".

بم تُقْتَحَمُ العقبة؟ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد:11-16]. قال شبيب بن شيبة -رحمه اللّه تعالى-: كنّا بطريق مكّة وبين أيدينا سفرة لنا ببغداد في يوم قايظ، فوقف علينا أعرابيّ ومعه جارية له زنجيّة، فقال: يا قوم! أفيكم أحد يقرأ كلام اللّه حتّى يكتب لي كتابا؟ قال: قلنا أصب من غدائنا حتّى نكتب لك ما تريد، قال: إنّي صائم. فعجبنا من صومه في تلك البرّيّة!.

فلمّا فرغنا من غدائنا دعونا به فقلنا: ما تريد؟ فقال: أيّها الرّجل! إنّ الدّنيا قد كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، فإنّي أردت أن أعتق جاريتي هذه لوجه اللّه، وليوم العقبة، أتدري ما يوم العقبة؟ قوله -عزّ وجلّ-: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ) [البلد:11-13]. فاكتب ما أقول لك ولا تزيدنّ عليّ حرفا، هذه فلانة خادم فلان قد أعتقها لوجه اللّه، وليوم العقبة. قال شبيب: فقدمت البصرة فأتيت بغداد، فحدّثت بهذا الحديث المهديّ، قال: مائة نسمة تعتق على عهدة الأعرابيّ".

والفقراء تُنال بهم الجنة، بل هم أقرب طرق الجنة: (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:133-134]

وبالإحسان إليهم تطفئ غضب الرب عليك، والصّدقة تطفئ الخطيئة، ويتنزل خير ربك إليك بها، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أنفِقْ يُنْفَقْ عليك"، ويخلف لك مالك: (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]، "اللّهمّ أعط منفقا خلفا"؛ والصدقة تزكو بها نفسك، ويرق بها قلبك، (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة:103]. فما أعظم شأنهم عند الله تعالى!.

بهذا الإحسان والبذل الندي من رزق الله تعالى ينجو العبد من شدة هول ذلك اليوم الذي لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ وَلا شَفاعَةٌ: (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [إبراهيم:31]، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة:254].

لقد كان المجتمع الأول يتسابق ويتساءل مهموما بالإنفاق والبذل، وقد ذكر الله تعالى لنا من ذلك نبأ عجيباً فقال: (يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة:215]، (وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة:219].

إن كل إحسانٍ وعطاء لن يذهب منك سُدىً، بل إن الله تعالى سيُنَمِّيهِ لك، ويرعاه بيده، حتى تراه أعظم ما يكون، بل إن نفقتك لتقع في يد ربك يأخذها بيمينه. يا الله! عن أبي هريرة -رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "ما تصدَّقَ أحدٌ بصدقة من طيّب -ولا يقبل اللّه إلّا الطّيّب- إلّا أخذها الرّحمن بيمينه، وإن كانت تمرة. فتربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل؛ كما يربِّي أحدُكم فلوّه أو فصيله".

إن هذا الإحسان إنما هو لنفسك، وأينا لا يود الإحسان إلى نفسه؟ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُم) [البقرة:272]، (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) [التغابن:16]. إن هناك أقواماً لا يكاد يفترون عن البذل، ففي الليل، حين يغط الناس مناما وراحة وسكنا، يقوم هؤلاء في جنح الظلام، تاركين لذيذ المنام، يتسللون إلى بيوت الفقراء والمحتاجين يعطونهم ما يحتاجون.

وحين ينتشر الناس في النهار لكسب المعاش والابتغاء من فضل الله ينتشر هؤلاء للبحث عن الفقراء، يعطونهم في خفاء، لا تدركهم الأبصار، حتى في ضياء النهار: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274]، (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:262]. عطاءٌ يكسبك الأجر الوافر من الله تعالى الغني، عطاء يذهب به الله عنك الخوف والحزن.

إن هذا العطاء والإنفاق يقي الحسرات، وأنفع الصالحات التي يتمنى المرء حين السكرات أن يُرَدَّ ليعملها: (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [المنافقون:10-11]. فابذل قبل حلول الأجل، وانقطاع العمل، وَتَصَرُّم الأمل.

إنك تُلقِي في الأرض حبَّةً واحدة تخرجها من كيس الشعير لكي تخرج لك سبعاً وأضعافاً منها -وأنت في ذلك على ظنٍ–، أفلا تُلقي من مالِك شيئاً في سِجِلِّ حسَناتِك، وميزان طاعتك؛ لتجد الله -سبحانه وتعالى- قد ضاعفه لك سبعمائة مرة أو تزيد؟! (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]. عن أبي مسعود الأنصاريّ -رضي اللّه عنه- قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل اللّه. فقال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلّها مخطومة".

عباد الله: إن صدود الناس عن الإنفاق ورعاية المحتاجين مهلكة محققة، وقاصمة بينة، يلقي العبد بنفسه فيها: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195]، والله تعالى قد توعد من بخِل بماله وأمسكه، مع شدة إخوانه إليه، وحاجة الدين له، أن يتركه الله تعالى ونفسه محروما من الأجر والخير والبقاء، ويستبدل به قوما آخرين: (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد:38]، وعتب على من أمسك فقال: (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد:10].

إنَّ من تأمل آيات الكتاب وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد أنَّ الله تعالى يريد أن يجعل المجتمع مجتمعاً باذلاً، لا أن يكون البذل خاصا بالأفراد؛ بل كل المجتمع مشغولا بالبذل، كل يد في المجتمع، من يد الرجال إلى يد النساء إلى يد الخدم والموالي يد معطاءة، يد ندية، يد سخية، يد جود؛ فمن ذلك ما روت عائشة -رضي اللّه عنها- قالت: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا".

ولذا قد يسَّرَت الشريعة باب البذل فلم تقصره على المال، بل كل معروف هو صدقة وإحسان؛ عن أبي ذرّ الغفاريّ -رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "تبسُّمُكَ في وَجْهِ أخيك صدقة، وأمْرُكَ بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرّجل في أرض الضّلال لك صدقة، وبصرك للرّجل الرّديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشّوكة والعظم عن الطّريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة".

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

ولقد كان المجتمع الأول كذلك كله باذلاً معطاء جواداً، عن عمر بن الخطّاب -رضي اللّه عنه- أنّه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرّة، فقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرّاح، ثمّ تلّه ساعة في البيت حتّى تنظر ما يصنع. فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله اللّه ورحمه. ثمّ قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتّى أنفدها.

فرجع الغلام وأخبره، فوجده قد أعدَّ مثلها إلى معاذ بن جبل، فقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل ثمّ تله في البيت حتّى تنظر ما يصنع. فذهب بها إليه. فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في بعض حاجتك. فقال: رحمه اللّه ووصله. تعالي يا جارية: اذهبي إلى بيت فلان بكذا، واذهبي إلى بيت فلان بكذا. فاطّلعت امرأة معاذ، فقالت: نحن واللّه مساكين! فأَعْطِنَا. ولم يبق في الخرقة إلّا ديناران، فنحا بهما إليها. ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، وسرّ بذلك، وقال: إنّهم إخوة بعضهم من بعض. فرضِي الله عنهم.

عباد الله: إن آية واحدة من هذه الآيات كافية في تحريك العزائم إلى البذل والسخاء، ولكن؛ ماذا دهانا؟ آياتٌ -وليس آية- تُتلى وتقرأ ويذكَّر بها وكأننا غير مخاطَبين بها، ولا معنيين بها؛ لقد كانت الآية تتلى على الرجل من الصحابة فينخلع من ماله، بل ومن أحبه لديه، ها هو أبو طلحة، أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب.

قال أنس: فلمّا أنزلت هذه الآية: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]، قام أبو طلحة إلى رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- فقال: يا رسول اللّه! إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنّها صدقة للّه أرجو برّها وذخرها عند اللّه، فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه. قال: فقال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "بَخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح؛ وقد سمعتُ ما قلتَ، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين". فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول اللّه. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه.

عباد الله: ألا إنَّ ممن يستحق منا هذا البذل والعطاء أُسَرٌ غُيِّبَ عائلُهم في السجن، ولم يبق لهم سوى إحسان المحسنين إليهم، فَحَرِيٌّ بِنَا أن يكون منا إليهم إحسان وعطف وحنان.

عباد الله: إنه، مع كل هذا الآيات والأحاديث التي تحث وتلزم بالإنفاق في شريعتنا، نرى أن الكفار الصليبين واليهوديين سبقونا في البذل عددا وكماً سبقا بعيدا، لقد بلغ مجموع التبرعات الخيرية الغربية في عام واحد 175 بليون -لا مليار- 175 بليون دولار، بينما بلغ حجم الإنفاق عندنا على العطور في المملكة والخليج نحو 15 مليار ريال، بينما تعاني المؤسسات الخيرية من عجز بين في ميزانيتها وتغطية أعمالها التطوعية. فإنا لله وإنا إليه راجعون...