المحيط
كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...
العربية
المؤلف | يحيى جبران جباري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
أصبح الزواج مناسبة للتباهي، والوقوع في الآثام والنواهي، فلا يكاد يصل طالب العفاف والستر إلى مبتغاه، إلا بعد ديون تقصم ظهره، وتشلّ يداه وقدماه، مهر جائر، وطلبات تذهب البصائر، وشرط بعد شرط قاهر، فلا تكاد ترى بعدها إلا متقدِّم مهموم وحائر..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل من الذكور والإناث أزواجًا، أحمده سبحانه وأشكره عدد ما زار بيته معتمر وحاج، وأستعينه وأستهديه وأستغفره، يعين على كل احتياج، ويهدي من طلب هديه وكان له محتاج، وغافر الذنب لمن تاب واعتدل بعد اعوجاج، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد ضعيف لعفو ربه ورحمته محتاج، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله؛ بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح للأمة، وهدى الله به الناس، فرادى وأفواجًا، صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الى يوم ينطفئ فيه كل سراج .
ثم أما بعد: فأوصيكم إخوة الدين ونفسي المقصرة بتقوى الله رب العالمين، والخوف منه والعمل بما أنزله في كتابه، وما أمر به خير المرسلين، والحذر من أهواء النفوس ونزغات الشياطين، فما متاع الحياة الدنيا إلا كبد على الفانين، والآخرة هي دار البقاء والراحة والسعادة للمتقين؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1].
أيها المسلمون: يقول ربكم -جل وعلا-: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21]؛ فلا سكن في الحياة ولا عفة للجنسيين، ولا مودة صافية خالية من اللؤم وفعل الإثم، بين الذكر والأنثى ما لم يكونا متزوجين، هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يكاد ينفك رجل سوي وامرأة سوية، إلا وكلاهما يفكر في حياة زوجية، وعيشة عفيفة رضية، يقول سيد البشرية -عليه صلوات وسلام- رب البرية: "تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الامم يوم القيامة"، وقال: "أيها الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء".
وقد تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوَّج بناته؛ لتقتدي به أمته، ويسير الكل على نهجه، وبالفعل ها هي الأمة كلها تسير على هذا، فكل رجل يسعى لبلوغ مقصده والحصول على حليلة تحتويه وتضمه، والنساء كذلك، كل أنثى ترغب في حليل لها، تستظل بظله، وتهنأ بالدفء تحت جنبه.
عن أبي ذر -رضي الله عنه-: أن ناسًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"(رواه مسلم 1674).
يقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وفي بضع أحدكم صدقة" هو بضم الباء، ويطلق على الجماع، ويطلق على الفرج نفسه. وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات؛ فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله -تعالى- به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة، ومنعهما جميعًا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهَمّ به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة" انتهى كلامه رحمه الله (شرح مسلم).
وهذا أيها الأحبة: ما عليه السلف الصالح، والخلف الفالح من هذه الأمة، إلا أننا اليوم -والله المستعان- نرى خروجًا عن هذا المقصد العظيم، فقد أصبح الزواج مناسبة للتباهي، والوقوع في الآثام والنواهي، فلا يكاد يصل طالب العفاف والستر إلى مبتغاه، إلا بعد ديون تقصم ظهره، وتشلّ يداه وقدماه، مهر جائر، وطلبات تذهب البصائر، وشرط بعد شرط قاهر، فلا تكاد ترى بعدها إلا متقدِّم مهموم وحائر، وهاهم دونكم شباب اليوم، سلوهم، واطلبوا منهم أن يخرجوا لكم خافي الضمائر، نعوذ بالله من كل فعل سافر.
وإذا تيسَّر له التقدم، أقيمت حفلة للخطوبة، واستؤجرت استراحة للمَلَكة، وأقيمت لها حفلة، ودُعِي لها كل أسرة، وجُعل لها وليمة، ثم إذا قرب حفل الزواج، استُدعيت المحنية، ثم يعقبها بيوم وليلة، ذهاب إلى مشغل الزينة، واستئجار لثوب الزفاف وملحقاته، بتلك القيمة، وقد كان قبل ذلك اشتراط من العروس أو أمها، لقاعة، سعرها يقارب مهر عروس جديدة، ويحجز للنساء مطربة، تأتي تنعق، يدفع لها الفريسة أموالاً كثيرة.
وفي قسم الرجال، تحضر فرقة، يتراقص على آلاتهم شاب وشيبة، وتزين للزفاف سيارة، وتستأجر في أفخم فندق غرفة للدخلة، ثم يعقب ذلك ليلة لها حفلة، إما في استراحة أو في بيت أم العروسة، ثم يعقب ذلك سفرة، ليتم الإجهاز على ما بقي من مال، استدانه عريس من قلة.
وسأخبركم في الموعظة التالية بالنتيجة، نعوذ بالله من ضعف الرجال وقلة الحيلة، اعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13]، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني واياكم بما فيهما من البينات والعظات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله بيده مفاتيح كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، أحمده سبحانه وأشكره الملك الحق، لا نحصي ثناء عليه، وأشهد أن لا إله الا الله منه المبتدأ والمعاد إليه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وشفيع الخلق يوم الوقوف بين يديه، صلوات ربي وسلامه عليه.
وبعد يا كل من نعم الله تترى عليه: اتق الله، فمن اتقى الله فاز برضى الله في الدنيا، ونجى يوم العرض عليه.
عباد الله: إن ما أسلفت على الأسماع حقيقة، أعيشه وتعيشونه، وله تتمة، يرجع الزوجان، إلى منزلهم المستأجر، والذي فرشه الزوج بالدَّيْن، يبدأ المهنئون والمباركون بالقدوم، وصديقات الزوجات عليها يتوافدون، يكثر من الزوجة الطلب، ولا يستطيع أن يوفي بذلك الزوج؛ لأن الراتب لأهل الديون ذهب، وقد باعوا في وقت الرضى، ما كانت تملكه العروس من ذهب، يبدأ الخلاف، ويشتد بينهما الغضب، تذهب الزوجة إلى بيت أهلها، ويكابر الزوج على أن يذهب إليها، يزيد الهجر، فتتقدم الزوجة إلى المحكمة بطلب، فتكون النتيجة: الطلاق.
وما أظنني بالغت في شيء مما قلت، وكلكم علم السبب، فاتقوا الله أيها الأولياء، في بناتكم وفي شباب المسلمين، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، وتذكروا بأن "أيسرهن مؤونة أكثرهن بركة"، ودعوا عنكم التقليد الأعمى وطاعة النساء، فـ"ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، ها أنا، أتيتكم بواقع، سردته في وعظ جامع، فاجعلوا لكم من خشية الله وخوفه مانع، وإلا فضياع الجيل من شباب وشابات واقع، ما له من دافع.
ثم الصلاة والسلام على من آتاه ربي الجوامع، وعلى آله وأصحابه ومن كان له تابع.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.