البحث

عبارات مقترحة:

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

الرحمن

هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...

البر

البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...

لماذا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

العربية

المؤلف عدنان مصطفى خطاطبة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. عظمة النبي الكريم في كل شيء .
  2. مواقف بكى فيها النبي الكريم .
  3. دروس وعبر مستفادة من تلك المواقف .
  4. أهمية الاقتداء بالنبي الكريم في سائر أحواله .

اقتباس

دعونا -أيها المؤمنون- نراقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدَ الخلق، بقلوبٍ وجِلةٍ، وبصائرَ واعيةٍ، وأعيُنٍ ناظرةٍ، ونُفُوس مطمئنَّة؛ دعونا نراقبه وهو يبكي في مواقفَ مختلفةٍ, ثم لنتساءل بعد ذلك: ما الذي أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم لْنَعْتَبِرْ، ولْنتذكَّرْ، ولْنتفكَّرْ في ذلك كله ..

 

 

 

 

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله. 

وبعد: لماذا بكى رسول الله؟ لماذا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما ذكره الذاكرون؟ لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم خيرة خلق الله، سيد ولد آدم، كان عظيماً في كل شيء، كان آية في كل شيء، حياته آية، وموته عبرة؛ جهاده آية، وسِلمه عبرة؛ نومه آية، ويقظته عبرة؛ كلامه آية، وصمته عبرة؛ وضحكه آية، وبكاؤه عبرة؛ وعَبْرتُه عِبَر، ودمعته فِكَر.
 

نعم -أيها الإخوة- لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم عظيما في كل شيء، حتى في بكائه كان عظيما؛ فبكاء محمد صلى الله عليه وسلم ليس كبكاء أي أحد، ودموعه ليست كدموع أي أحد؛ ولذلك أيها المؤمنون بنبي الله صلى الله عليه وسلم دعونا في هذه الخطبة نفتح صفحة عزيزة نفيسة نادرة من صفحات قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم: إنها صفحة بكائه، صفحة مكتوب فيها: "مواقف بكى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم".

دعونا -أيها المؤمنون- نراقب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق بقلوبٍ وجِلةٍ، وبصائرَ واعيةٍ، وأعيُنٍ ناظرةٍ، ونُفُوس مطمئنَّة؛ دعونا نراقبه وهو يبكي في مواقفَ مختلفةٍ, ثم لنتساءل بعد ذلك: ما الذي أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم لْنَعْتَبِرْ، ولْنتذكَّرْ، ولْنتفكَّرْ في ذلك كلِّه.

أيها الأخوة المؤمنون: في الصحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم في قومه: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم:36]، وقول عيسى -عليه السلام- في قومه: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:118]، فرفع يديه وقال: "اللهم أمَّتي! أمَّتي! وبكى". فقال الله -عز وجل-: يا جبريل، اذهب إلى محمد– وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل -عليه السلام- فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.

محمد بن عبد الله، نبي الله، سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، يرفع يديه إلى ربه متذللا، داعيا، راجيا، مشفقا، باكيا، باكيا. لأجل من تبكي يا رسول الله؟ لأجل نفسه؟ لا. لأجل ولده؟ لا. لأجل زوجته؟ لا. لأجل ماله؟ لا. لأجل منصبه؟ لا. لأجل عشيرته؟ لا. إنما يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكرم خلق الله، إنما يبكي سيد الخلق لأجل أمته! لأجل مَن؟ لأجل أمته! يقول: اللهم أمتي أمتي! ويبكي، إنه بكاء الوفاء، إنه بكاء الوفاء لأمته.

ولماذا لا يبكي محمد صلى الله عليه وسلم لأجل أمته وهو الذي صنعها وربّاها، وهو الذي أحبها وتولاها, فهو القائل صلى الله عليه وسلم: "ليس آل فلان لي بأولياء، إنما ولِيِيَ صالح المؤمنين".

لماذا لا يبكي لأجل أمته، وهو الذي خبأ دعوته المستجابة لأجلها, فهو القائل: "ما من نبي إلا وله دعوة مستجابة قد دعا بها في حياته، وأنا ادَّخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".

وهذا هو شأن أتباعه الخلّص الأوفياء، قادة، وعلماء، وطلبة علم، ودعاة وعامة، أولئك الذين يحملون هم هذه الأمة في كل زمان ومكان، أولئك الذين يشفقون على هذه الأمة، أولئك الذين يتألمون لجراحها، أولئك الذين يحزنون لمصائبها، أولئك الذين تدمع أعينهم رحمة بها؛ ولذلك كان الإمام "محمد رشيد رضا" يبيت مهموما بعض لياليه لا يأتيه النوم, فتقول له أمه: يا بني، أقُتِلَ اليوم مسلم في الهند؟ أم جُرِح مسلم في فلسطين؟!.
 

ما أعظمه من مشهد! وما أصدقه من موقف! ومحمد صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل يمدّ يديه إلى مولاه في علاه، ودموعه تنهمر من عينيه، وتبلل وجهه الشريف، كلّ هذا همّ، وشفقة على أمته.

ولكن أناسا من أمته اليوم هم أسيادها وقادتها وحكامها لا يبكون لأجلها، ولكنهم، لكنهم يُبْكُونها: يُبْكُون رجالها، ونساءها، وأطفالها، وكهولها! لا يَبكون لأجلها، ولكنهم يطعنونها في كبدها، ويُفجرون دماءها، ويجرحونها في مشاعرها وشعائرها وأخلاقها وقيمها، يصبّون عليهم الحسرات والويلات، فرحين غير نادمين.

أسيادها اليوم لا يبكون لأجل أمة محمد، ولكنهم يُشقونها، ويظلمون أكابرها وعلماءها، ويهينون دعاتها الذين صنعوا مجدها التليد.

أسياد الأمة اليوم هم مَنْ يُبكيها؛ لأنها تريد أن تسير على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، على طريق العبودية والحرية والإنسانية واسترداد الحقوق، فتُلاقي ما تلاقي؛ لأنها تريد أن تلحق بركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فتقطّع أوصالها، ويحال بينها وبين ذلك.

فلا رحمة تُعرف بهذه الأمة، ولا شفقه تنشر لها، ولا دموع ولا حسرة ولا هَمّ من أجلها، إنما همهم المصالح والكراسي والمناصب والدراهم، ثم بعد ذلك يقول أسياد الأمة في هذا الزمان: فلتذهب الأمة إلى الجحيم!.

أين هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يبكي لأجل هذه الأمة، ولأجل سعادتها، وخوفا على مستقبلها، ورغبة في نجاتها؟ كان يبكي رحمة بها، وشفقة عليها.

لماذا بكى رسول الله؟ عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب, ثم أخذها جعفر فأصيب, ثم أخذها ابن رواحه". فقال أنس: وعيناه -أي رسول الله- تذرفان. نعم! وعيناه تذرفان.

وهكذا، في هذا المشهد الكبير، وأمام جمع من المسلمين يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذرف عيناه الدموع، دموع التأثر، ودموع الحزن، ودموع الأخوة، ودموع المشاعر الصادقة.

وهكذا، وفي مشهد مؤثر يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلّةً من أصحابه الشهداء الذين لم يقتلوا في سبيل الكراسي والدراهم، وإنما قتلوا في سبيل من وسع كرسيه السموات والأرض.
 

وحقُّهم أن يُبْكَوا، وحقّ كل من يذود عن حمى الإسلام أن يُبكَى، وحقّ كل مَنْ يدافع عن ديار الإسلام أن يُبكى، وحق كل من يحمل دعوة الإسلام أن يُبكَي.

ولنا العبرة فيما سلف، فلما مات سعد بن معاذ -رضي الله عنه- حامل لواء الإسلام ودعوته، بكاه كبار الصحابة, تقول عائشة رضي الله عنها: والله إنّي لفي بيتي وإنّي أستمع إلى بكائهم، وإنّي لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر.

وحقهم أنْ يُبكَوا؛ لأنه بموتهم ينقص العلم، ويقل الخير: لما مات عمر بن الخطاب بكاه صهيب بكاء مرّا, وقال: اليوم ذهب ثلثا الإسلام.

إنّ دموع محمدٍ صلى الله عليه وسلم العزيزة الكريمة، ما كانت لتذرف، ما كانت لتسيل من عينيه الكريمتين على رجال من أمته هم رويبضات، هم منافقون، هم متسلقون، هم جلادوها. نعم، ما كانت لتذرف إلا على رجال خُلَّص شرفاء، خدموا أمة الإسلام، وخدموا بلاد الإسلام، وذادوا عن حِمى الأمة، وطالبوا بحقوقها، وقاتلوا الكفَرة والظلَمة والمجرمين؛ لأجل حريتها.

ولكن أناسا من أمته اليوم لا يبكون على رحيل العلماء، ولا على الدعاة، ولا على القادة الصالحين؛ وإنما يبكون أسفا على هلاك فنان أو فنانة، مطرب أو مطربة ,آثم أو رويبضة! بل بعضهم يبكي على رحيل مستبِدٍّ غاشم، أو طاغيةٍ ظالم؛ ولكن رسول الله بكى على رحيل الدعاة، والمجاهدين، والعلماء، وحملة الدين من أمته.

لماذا بكى رسول الله؟ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-, قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علَيّ القرآن". قال: قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟ قال: "إنني أحبّ أن أسمعه من غيري". فقرأتُ عليه، حتى اذا بلغت: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء:41]، فقال لي: "أمسِك. حسبك". فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرفان دموعا.

ماذا يا أيها الأخوة؟ لماذا عيناه تذرفان دموعا؟ إنه بكاء الخشية لله -جلّ جلاله-، إنه بكاء الخشوع لكلام الله -جلّ ثناؤه-، وما لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يبكي في الموقف المهيب وهو يستمع إلى كلام الله، وهو الذي امتلأ قلبه حبّا لله، وخوفا من الله، وإجلالا لله، وتعظيما لله، وهيبة لله؟.

ما أعظمه من مشهد! وما أبهاها من لحظات! حينما تبكي -أيها العبد- خشيةً لله ربّ الكائنات، ما أعظمك أيها العبد، وما أزكاك، وما أطهرك، حينما تبكي خشوعا لآيات الله تتلى عليك!.

يقول بن عمير: صلى بنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صلاة الفجر, فافتتح سورة يوسف فقرأها، حتى اذا بلغ (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84] بكى -بكى رضي الله عنه- يقول الراوي: حتى سمعت نشيح عمر وأنا في آخر الصفوف، فبكى حتى انقطع فركع.
 

صلى عليك الله يا رسول الله، وأنت مَنْ أنت! ومع ذلك تنهمر عيونك دموعا حينما تستمع إلى آيات مولاك تتلى عليك؟!.
 

ولكن أناسا من أمتك اليوم لا تنهمر عيونهم دمعا من كلام الله، بل تنغلق وتنغلق معها آذانهم وقلوبهم، وينغلق معها التلفاز والمذياع عن كلام الله.

ولكن أناسا من أمتك اليوم لا يبكون خشوعا لآيات الله، انما يبكون تأثراً من أغنية حزينة، وذكريات عفنة، ومشاهد خدَّاعة، ولحن شجي، وموال مائل!.

واللهِ إن بعض الناس لو سأل نفسه: هل ذرفت عيناي يوما تأثرا بكلام الله؟ لكانت إجابته لنفسه: لا، ثم لا، ثم لا.

وليسأل أحدنا نفسه: متى يذكر آخر مرة ذرفت عيناه كما ذرفت عيون رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريمتين خشوعاً لآيات رب الكائنات تتلى عليه؟ وكما ذرفت عيون أصحابه -رضوان الله عليهم-؟ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: لما نزلت: (أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) [النجم:59-60]، بكى أصحاب الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم, فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسهم بكى معهم، فبكينا ببكائه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار من بكى خشيه لله".

لماذا بكى رسول الله؟ يقول أحد الصحابة -وهو بريدة، رضي الله عنه-: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل بنا ونحن معه قريباً من ألف راكب، فسار بنا حتى أتى أثر رسم قبر، فوقف عليه وبكى، وعيناه تذرفان, فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، ما الذي أبكاك؟ فقال: "هذا قبر أمّي، وإني سألت الله أنْ أستغفر لها فلم يأذن لي، وسألته أنْ أزور قبرها فأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار". يقول الصحابي راوي الحديث: فما رأيت باكيا أشدَّ منه يومئذ.

رسول الله -محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم، يقف على قبر أمّه فيبكي وتذرف عيناه بالدموع رحمة لها من عذاب الله، إنه برّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الأم الحنون، والشفقة عليها من عذاب الله.

ولكن أناسا اليوم قساة عقيمون، يودّعون أمهاتهم وآباءهم، بل لا يصلّون عليهما صلاة الجنازة ويقفون ينتظرون خارج المسجد، بل بعضهم لا يكلف نفسه بالانتظار حتى يفرغ من دفنها.

إنه استذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك الأمّ الراحلة التي طالما شقيت في نهارها وسهرت في ليلها وافتدت بنفسها ولدها، ولكن أناسا من أمته اليوم دفنوا أمهاتٍ لهم مسلمات قانتات عفيفات، وما هي إلا أسابيع أو أشهر حتى أصبحَتْ نِسْيَاً مَنْسِيَّا، فما بكت عليها العيون ولا استعبرتها النفوس، وليسأل بعضنا نفسه: متى كانت آخر مرة دعا فيها بإخلاص لأمه الراحلة؟.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل المقبرة وجِلا، فيقف باكيا على قبر أمِّه؛ رحمةً لها، كيف لا؟ وهو القائل: "ما رأيت منظراً قطّ إلا والقبر أفظع منه". كيف لا؟ والبراء -رضي الله عنه- يحدِّث عنه فيقول: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أبصر بجماعة فقال: "عَلامَ اجتمع عليه هؤلاء؟" قيل: على قبر يحفرونه. قال: ففزع رسول الله فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه. قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: "إي إخواني، لمثل هذا فأعدوا له".

ولكن أناسا من أمته اليوم يدخلون المقبرة كأنما يدخلون محل القهوة، أو متنزهاً، زهوٌ وإعجاب، تدخين ودندنة، لا ينقطعون عن الكلام في الدنيا وأحوالها، فلا خشوع يغشى القلب، ولا دموع تراود العين.

آهٍ ثم آهٍ على قلوب قد قست، وأعين قد نضبت، وأنفس قد يبست! آهٍ ثم آهٍ على أيام الصالحين، وأحوال الخاشعين، ودموع العابدين الوجلين! يقول علي -رضي الله عنه- واصفا حال الصحابة, وقد صلّى الفجر ذات يوم ثم جلس في مُصَلَّاهُ وقد علته الكآبة, يقول: قد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أَرَ اليوم شيئا يشبههم, ولقد -واللهِ- كانوا يصبحون شُعْثَاً غُبْراً, بين أعينهم أمثال رُكَب المعزى, قد باتوا لله سُجَّداً وقياماً يتلون كتاب الله, يراوحون بين جباههم وأقدامهم, فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما تميد الشجر في يوم الريح, وهملت أعينهم حتى تبلَّ ثيابهم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: لماذا بكى الرسول؟ نعم, لقد كان رسول الله عظيما في كل شيء، وكان آية في كل شيء، وكان عبرة في كل شيء، حتى في بكائه، حتى في دموعه.

فعن عطاء -كما في الصحيح الجامع- قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال عبيد بن عمير: حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله. فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي. فقال: "يا عائشة، ذريني أتعبَّد لربي". قالت: قلت: والله إني لأُحِبُّ قربك, وأحب مايسرُّك! قالت: فقام فتطهر, ثم قام يصلي, فلم يزل يبكي حتى بل حجره, ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض.

إننا بحاجة أن نعتبر بكل مواقف رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن نتذاكر أحواله، الحزينة منها والفرحة، لنجعل لأنفسنا منها القدوة والسير الحميد على هداه صلى الله عليه وسلم، فلنا حتى في بكائه أعظم العبر؛ فما كانت دموعه صلى الله عليه وسلم لتتساقط من عينيه الكريمتين، إلا وفيها رسالة وخاطرة، ووراءها قصة وموعظة.

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا يا رب العالمين...