المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الأعياد الممنوعة - |
ومن حكمة تفضيل الصيام في شهر شعبان أن الصيام فيه أشق على النفس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم كثر أهل الطاعة بكثرة المبتدئين بهم، فسهلت الطاعات؛ وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسَّى بها عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعتهم لقلة من يقتدون بهم فيها ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وراقبوه، فما استعد العبد لملاقاة ربه بمثل التقوى والمراقبة، فاتقوا الله عباد الله في أقوالكم وأفعالكم، وفي جميع ما تأتون، واستحضروا مراقبة الله -عز وجل- لكم، واطلاعه سبحانه عليكم، ولتكن التقوى والمراقبة سبيلكم لإصلاح النفوس، وتزكية القلوب، وتدارك الخلل والتقصير، أسأله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لصالح الأعمال والأقوال، وأن يأخذ بأيدينا إلى طريق النجاة والفلاح إنه على كل شيء قدير.
عباد الله: إن من أجَلِّ العبادات والقربات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه -سبحانه وتعالى- التقرُّب إليه بالصيام، وقد كان -صلى الله عليه وآله وسلم- يكثر من الصيام في شهر شعبان، حتى جاء في بعض الأحاديث أنه يصوم الشهر كله إلا قليلاً منه.
ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان. زاد البخاري في رواية له: كان يصوم شعبان كله. وفي مسلم في رواية له: كان يصوم شعبان إلا قليلا.
وعلى هذا درج جماعة من السلف في تفضيلهم صيام شهر شعبان على سائر الشهور بعد رمضان، وما ذاك إلا لقربه من رمضان، وقد قرر الحافظ ابن رجب -رحمه الله- أن أفضل التطوع بالصيام ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده، في شعبان وشوال، وأن ذلك يلتحق بصيام رمضان، لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض بالفضل.
فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك يكون الصيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعده منه؛ وعلى هذا فيكون المراد من قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث: "أفضل الصيام بعد رمضان المحرم"، يكون محمولا على التطوع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وما بعده فإنه يلتحق برمضان في الفضل.
ومثل ذلك ما جاء في الحديث من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل"، إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب التي هي أفضل من قيام الليل عند جمهور أهل العلم. انتهى قريب من لفظه من كلام الحافظ بن رجب رحمه الله.
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على حكمة تفضيل شهر شعبان؛ لأنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وفي هذا دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعات، وأن ذلك محبوب لله -عز وجل-، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين صلاة المغرب والعشاء في الصلاة، ويقولون هي ساعة غفلة، وكذلك فضل القيام في وسط الليل؛ لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر.
ومن حكمة تفضيل الصيام في شهر شعبان أن الصيام فيه أشق على النفس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم كثر أهل الطاعة بكثرة المبتدئين بهم، فسهلت الطاعات؛ وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسَّى بها عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعتهم لقلة من يقتدون بهم فيها.
وعلى هذا -أيها الإخوة المسلمون- فمن صام معظم شهر شعبان أو شعبان كله فقد أصاب السنة وحصَّل خيراً كثيرا، وإنما المنهي عنه تعمد صيام يوم أو يومين قبل رمضان احتياطاً لرمضان، فهذا هو الذي نهى عنه النبي -صلى الله عيه وسلم- كما جاء في الحديث: "لا تقدموا صوم رمضان بيوم أو بيومين إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه"، ويستوي بذلك ما إذا كانت السماء صحواً أو غيماً. وقد جاء في الحديث عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قوله: "من صام اليوم الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم".
أيها الإخوة المسلمون: إن مما شاع عند بعض الناس تخصيصهم ليلة النصف من شعبان بالقيام، وتخصيص اليوم الخامس عشر من شعبان للصيام، والذي عليه جمهور السلف وعامتهم، أن ذلك مما لا أصل له، بل هو معدود من جملة البدع المنكرة، وعلى هذا فلا يجوز الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة وغيرها، ولا يجوز تخصيص يومها، أي اليوم الخامس عشر بالصيام، فكل ذلك بدعة منكرة لا أصل له في الشرع المطهر، بل هو مما أحدث في الإسلام بعد عصر الصحابة -رضوان الله عليهم-، والله -عز وجل- يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة:3]، ويقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية أخرى: "من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد".
بل جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يومها بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، فلو كان تخصيص ليلة من الليالي بعبادة جائزاً لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها؛ لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس، بنص الأحاديث الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولما حذر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من تخصيصها بقيام من بين الليالي دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء منه بشيء من العبادة إلا بدليلٍ صحيح يدل على التخصيص، كما جاء في فضل ليلة القدر.
ولو كانت ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء والمعراج، لو كانت هذه الليالي يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة لأرشد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الأمة إليه، أو فعله بنفسه، ولو وقع شيء من ذلك من قوله أو فعله -صلى الله عليه وسلم- لنقله الصحابة الأمناء -رضي الله عنهم- إلى الأمة ولم يكتموه عن الأمة، وهم خير الناس، وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
ولهذا حكم جماعة من المحققين على ما ورد من أحاديثَ في فضل إحياء ليلة النصف من شعبان بأنها جميعاً أحاديث موضوعة، أحاديث مكذوبة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، لا تجوز نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز العمل بمقتضاها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لاتباع سنة نبيه، والحذر من الوقوع في البدع وما يخالف أمره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين ومن شذ عنهم شذ في النار.
عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، والتزموا أوامره سبحانه ولا تعصوه، واعلموا -رحمكم الله- أن خير زاد تتزودون به في رحلتكم إلى ربكم -عز وجل- زاد التقوى، فالزموا تقوى الله في سركم وجهركم، وفي خفائكم ومظهركم، لعلكم تفلحون.
أيها الإخوة المسلمون: من كان عليه قضاء من رمضان الماضي فليبادر بقضائه إن كان قادرا على ذلك، فإنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان بغير عذر شرعي، نبهوا أهليكم وأسركم إلى وجوب المسارعة بالقضاء قبل دخول شهر رمضان.
أيها الأخوة المسلمون: إنه لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام، وقراءة القرآن؛ ليحصل التهيؤ لتلقي رمضان، وترتضي النفوس بذلك على طاعة الرحمان، وقد روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم؛ تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان.
فهيئوا أنفسكم -رحمكم الله- باستقبال شهر رمضان، هيئوها بالتوبة النصوح، والأعمال الصالحة، من صلاة، وقراءة قرآن، وذكر، وصدقة؛ تحسَّسوا أقاربكم وجيرانكم والمحتاجين، سُدُّوا حاجاتهم، وقدموا لهم ما تستطيعون من العون من زكوات أموالكم وصدقاتكم؛ لعلكم تفلحون.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.