المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله الهذلول |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أهل السنة والجماعة |
ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وعدم الخروج عليهم، فذلك أصلح الأمور للعباد في معاشهم ومعادهم، ويرون أن من خالف ذلك سواءً كان متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح، بل يقع فساد ..
وبعد: تقدم في الجمعة الماضية ندم العلماء الذين وقفوا في صف ابن الأشعث وقاتلوا معه في خروجه على الحَجَّاج، وتمنيهم أن لو لم يفعلوا ذلك، وهم مَن هم في العلم والفضل والديانة والعقل؛ ولكن بعد ماذا؟.
إن كثيراً ممَّن خرج على الحجَّاج كان يُكَفِّره، قال الشعبي -وهو ممن خرج على الحجاج-: أشهد أنه مؤمن بالطاغوت، كافر بالله! يعني الحجاج. وقال ابن عبد البر -من علماء القرن الخامس الهجري-: الحجاج بن يوسف... مِن أهل العلم مَن يكفره. وقال الحافظ ابن حجر -من علماء القرن التاسع- وكفره جماعة منهم: سعيد بن جبير، والنخعي، ومجاهد وعاصم بن أبي النجود، والشعبي، وغيرهم.
ولكن، مع تكفيرهم له لم يخرجوا عليه حتى ظنوا أن الشوكة لهم، وأن عندهم من القدرة والقوة والعصبية ما يتفوقون به على الحجاج، حتى وقع ما لم يكونوا يحتسبون؛ فهل يعي هذا الدرسَ الذين يخرجون على الحكام في هذا العصر، وأول ما يفتقرون إليه التكافؤ مع خصمهم، هذا على افتراض صحة نواياهم، ورجاجة عقولهم، وأن لديهم من العلم والبصيرة ما ينير لهم السبيل!.
أيها المسلمون: إن الله تعالى بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بصلاح العباد في المعاش والمعاد، وأمر جل شأنه بالصلاح، ونهى عن الفساد، فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد، وكان صلاحه أكثر من فساده رجحوا فعله، وإن كان فساده أكثر من صلاحه، رجحوا تركه.
والله تعالى بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولى حاكم ذو منعة وقوة أمر المسلمين وفيه ظلم وتجبر وبطش فلا يجوز مع ذلك الخروج عليه؛ لأن ما يترتب على الخروج من المفاسد أعظم من المصالح المظنونة الحصول!.
وقد كان أفاضل علماء المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة؛ كما كان من عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وغيرهم؛ كلهم كانوا ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث.
ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وعدم الخروج عليهم، فذلك أصلح الأمور للعباد في معاشهم ومعادهم، ويرون أن من خالف ذلك سواءً كان متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح، بل يقع فساد.
ولهذا أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلم على الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بقوله: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". ولم يُثن على أحدٍ لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نزع يد من طاعة، ولا مفارقة للجماعة.
ومما يؤكد هذا المنهج عند السلف ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي نوفلٍ قال: رأيت عبد الله بن الزبير على عَقَبَة المدينة -يعني بعد مقتله ثم صلبه- فجعلَتْ قريشٌ تمر عليه، والناسُ، حتى مرَّ عليه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فوقف عليه، فقال: السلام عليك أبا خبيب! السلام عليك أبا خبيب! والسلام عليك أبا خبيب! أما والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا! -يعني الخروج على يزيد- أما والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا! أما والله إن كنتَ ما علمتُ صوَّاماً قوَّاماً وَصولاً للرحم، أما والله لأُمَّةٌ أنت أشرُّها لأمة خير.
ثم نفذ عبد الله بن عمر، فبلغ الحجاجَ موقفُ عبد الله وقوله، فأرسل إليه -أي إلى ابن الزبير- فأنزل عن جِذعه الذي كان مصلوباً عليه، فألقي في قبور اليهود، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، فأبت أن تأتي الحجاج، فأعاد عليها الرسول: لتأتيني أو لأبعثن إليك مَنْ يسحبكِ بقرونك. قال: فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليَّ مَن يسحبني بقروني.
قال فقال: أروني سِبتيَّ، فأخذ نعليه ثم انطلق يتودّف -أي يسرع-حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعد والله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النطاقين! أنا والله ذات النطاقين؛ أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أَما إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا أن في ثقيفٍ كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه. قال: فقام عنها ولم يراجعها. رواه مسلم.
قال الخطابي: وكان ابن عمر من أشَدِّ الصحابة حذَراً من الوقوع في الفتن، وأكثرهم تحذيراً للناس من الدخول فيها، وبقي إلى أيام فتنة ابن الزبير فلم يقاتل معه، ولم يدافع عنه، إلا إنه كان يشهد الصلاة معه، فإذا فاتته صلَّاها مع الحجاج، وكان يقول: إذا دعونا إلى الله أجبناهم، وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم.
أيها المؤمنون: هذا عبد الله بن الزبير، وتلك كانت نهايته -رضي الله عنه-، وهو الصحابي بن الصحابي، الذي روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة وثلاثين حديثاً، أمُّه أسماء بنت الصديق، وخالته أم المؤمنين عائشة، ووالده الزبير بن العوام حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وأحد العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنهم جميعا.
قال عنه -أي عن ابن الزبير- الذهبي: كبيرٌ في العلم والشرف والجهاد والعبادة. حتى حين بويع له ومَلكَ الحجاز واليمن ومصر والعراق وخراسان وبعض الشام بعد وفاة يزيد كان صنفاً في العبادة، أي متميزاً فيها.
ومع ذلك كله فلم يقرّه الصحابي عبد الله بنُ عمر على خروجه على بني أمية، بل كان ينهاه كما مر في الحديث السابق، لِما في الخروج من المفاسد التي لا تحصر، وقد كان شيء من ذلك، بل كثير منها حين خرج على بني أمية.
وعبد الله بن عمر الذي ينهاه عن ذلك كان يرى بنور الله، ويستلهم نصائحه من مشكاة النبوة، وقد عُرف عنه رضي الله عنه دقتُه وتحريه وتتبعه لأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يدع منها شيئاً، وما ذُكرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بكى، وكان ممن بايع تحت الشجرة , إنها رسالة بالغة لمن أراد أن يذَّكَّرَ أو أراد شكوراً، إنها رسالة بالغة لمن ألقى السمع وهو شهيد، إنها رسالة بالغة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
الحَرْبُ أوَّلُ مَا تَكُونُ فتيَّةً | تَسْعَى بِزينتهَا لكُلِّ جُهُولِ |
حتَّى إذا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُها | ولَّتْ عجوزاً غيرَ ذاتِ حَليلِ |
شمطاءَ يُنكَرُ لونُها وتغيّرَتْ | مكْروهةً للشَّمِّ والتقبيلِ |
اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة... وأستغفر الله، إن الله غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى رحمة للعالمين، وكافةً للناس بشيراً ونذيراً، وأنزل عليه القرآن فيه تبيانٌ لكل شيء، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، ووسطاً بين الأمم؛ وأشهد أن لا إله إلا الله...
أما بعد: معشر المؤمنين: فمما ينبغي التفطن له أن اعتزال الفتن لا يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإظهار الشرع، وإعلاء كلمة الحق -بحسب الاستطاعة-، والنصح لكل مسلم.
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بالأمر بهما، والحث عليهما، وبيان خطورة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك النصيحة للمسلمين، وموالاة الكفار على حساب المسلمين، والركون إليهم.
وتتأكد هذه المعاني في عصرنا الحاضر لأمرين: الأول: أننا نرى محاولاتٍ عالميةً جادة لطمس معالم الإسلام في المسائل المتقدمة، وتصويرها بصورة الإرهاب والمنافاة لحقوق الإنسان، وحرية الرأي، واحترام الآخر، كما يزعمون!.
والثاني: عدمُ فهم بعض أبناء المسلمين للمسائل المتقدمة، وعدمُ تصورها التصور الصحيح الموافق للكتاب والسنة، بل -للأسف!- كثيراً ما يفهمونها وفق أهوائهم وشهواتهم وبما يتلاءم مع أحوالهم النفسية غير السوية، وأغراضهم الحزبية، مما ترتب على ذلك مفاسد عظيمة في الدين والدنيا.
والموفق من وفقه الله لطرح الهوى، وإسقاط حظوظ النفس، وتلمُّس الحق، والصبر عليه، قال ابن حزم -رحمه الله-: وكان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، ونجدةَ بنِ عامر الحروري الخارجي، وكان يقول -رضي الله عنه-: الصلاة حسَنَةٌ ما أُبالي من شركني فيها.
وعن الحسن قال: لا تضر المؤمنَ صلاتُه خلف المنافق، ولا تنفع المنافقَ صلاتُه خلف المؤمن. وعن قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: أنصلي خلف الحجاج؟ قال: إنا لنصلي خلف مَن هو شرّ منه.
قال ابن حزم معلقاً على هذه الأقوال: ما نعلم أحداً من الصحابة -رضي الله عنهم- امتنع من الصلاة خلف المختار بن عبيد، ولا خلف عبيد الله بن زياد، ولا خلف الحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء، وقد قال الله -عز وجل-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2].
وعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحبُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما يمنعك أن تخرج؟! فقال: يمنعني أن الله حرّم دم أخي. فقالا: ألم يقل الله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةً) [البقرة:193، النحل:39]، فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكونَ الدين لغير الله.
وعند الحسن عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل -يعني في موقعة الجمل- فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد يا أحنف؟ قلت: أريد نصر ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعني علياً، قال: فقال لي: يا أحنف ارجع! فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد قتل صاحبه" رواه البخاري.
وفي الحديث الصحيح عن ابن سيرين قال: قيل لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: ألا تقاتل؟ فإنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ فقال: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربت به مسلماً نبأ عنه، وإن ضربت كافراً قتله، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد.
وضرب لهم مثلاً فقال: مثلنا ومثلكم كمثل قومٍ كانوا على حجة بيضاء، فبيناهم كذلك يسيرون هاجت ريحٌ عجاجة، فضلوا الطريق، والتبس عليهم، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين فأخذوا فيها، فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال، فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا.
وقال آخرون: كنا في الطريق حيث هاجت الريح، فنيخ فأناخوا فأصبحوا فذهب الريح، وتبين الطريق، فهؤلاء هم الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن. رواه الحاكم وغيره وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
هذا وَصَلُّوا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، كما أمركم الله في كتابه...