الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
وما أفسد العلاقةَ بين الآباء والأبناء والجيران والأصحاب والأفراد والمجتمعات، وما فسدت الحياةُ وكثُرَتْ مشاكلها، إلا بسبب اتِّباع الهوى؛ فالهوى أصلُ كُلِّ شَرٍّ، وسبب كل ذنب، وهذا ما حذَّر الله منه حيث قال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ)..
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، وسببا للمزيد من فضله، جعل لكل شيء قدرا، ولكل قدر أجلا، ولكل أجل كتابا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تزيد في اليقين، وتثقل الموازين، وتفتح لها أبواب جنة رب العالمين.
يا مَن تُحَلُّ بِذِكْرِهِ | عُقَدُ النَّوائبِ والشَّدائدْ |
يا مَن إليهِ المشْتَكَى | وَإِليْهِ أَمْرُ الخَلْقِ عَائِدْ |
أَنْتَ العَليمُ لِما بُلي | تُ بهِ وأنتَ عليهِ شَاهِدْ |
أَنْتَ المُعِزُّ لِمَنْ أَطَا | عَكَ والمذِلُّ لِكُلِّ جَاحِدْ |
أَنْتَ المنَزَّهُ يَا بَدِي | عَ الخَلْقِ عَن وَلَدٍ وَوَالِدْ |
يَسِّرْ لَنا فَرَجَاً قَرِي | باً يَا إِلهي لا تُباعِدْ |
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصَفيُّه وخليله، أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، صَلَّى اللهُ عليه، وعلى آله مصابيح الدجى، وأصحابه ينابيع الهدى، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: عباد الله: لقد خلق الله الإنسان وأمره أن يسير في هذه الأرض على منهجٍ وشريعةٍ تكفل له الحياة الطيبة، والآخرة السعيدة، قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:123-124].
وحذر -سبحانه وتعالى- من اتباع الهوى، والذي يعنى مخالفة الحق وللنفس فيه حظ ورغبة، ويشمل الأقوال والأفعال والمقاصد، فلا ينبغي لمسلم أن يعمل عملاً يخالف فيه شرع الله ولو مالت إلى ذلك نفسه، ودفعته إلى ذلك رغبته، وإن عليه أن يلتزم بالأحكام والقيم والأخلاق التي شرعها الله وجاء بها محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عند ذلك يكون الإيمان الحق الذي به تستقيم الحياة، ويصلح أمر الدنيا والآخرة؛ قال تعالي: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65]، وقال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص:50].
إن اتباع الهوى يؤدي بصاحبه إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، فقد جاء عنْ ابِنِ عَمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثَ مُهْلِكَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ كَفَّارَاتٌ، وَثَلَاثٌ دَرَجَاتٌ. فَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ: فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوَىْ مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ؛ وَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَالْعَدْلُ فِيْ الْغَضَبِ وَالْرِّضَى، وَالْقَصد فِيْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ الْلَّهِ فِيْ الْسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ؛ وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ: فَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوْءِ فِيْ الْسَّبَرَاتِ -جمع سبرة وهي شدة البرد-، وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَىَ الْجَمَاعَاتِ؛ وَأَمَّا الْدَّرَجَاتُ: فَإِطْعَامُ الْطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ الْسَّلامِ، وَصَلَاةٌ بِالَّلَيْلِ وَالْنَّاسُ نِيَامُ" رواه الطبراني وحسَّنه الألباني. وقال علي -رضي الله عنه-: إنَّ أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل، واتِّباع الهوى؛ فأما طول الأمل فيُنسي الآخرة، وأما اتِّباع الهوى فيصد عن الحق. "البداية والنهاية".
عباد الله: مَن جعل هواه يقوده ويتحكم بتصرفاته وأفعاله وأقواله دون أن ينظر إلى أوامر الدين وقواعد السلوك وقيم الأخلاق ومصالح العباد فقد عصى الله وعصى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتجنى على نفسه بحرمانه من رحمة ربه وتوفيقه في الدنيا والآخرة؛ ذلك أنه جعل هواه إلها يعبده من دون الله، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:23].
لقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا من الصحابة يلبس خاتماً من ذهب فنزعه فطرحه وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده"، فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله! لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.
لم يكابر، ولم يعجب بنفسه، ولم يتبع هواه وقد سمع قول الشرع ورأي الدين في هذا الأمر، بل سارع إلى الامتثال والتنفيذ؛ إجلالاً لله، وخوفاً منه. قال تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:37-41].
إن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، بالهوى يخرج العالِم من السنة إلى البدعة، وبالهوى يقع العابد في الشرك والرياء، وبالهوى تُهتك الأعراض، ويُتعدى على الأموال، وتُزهق الأنفس، وتُسفك الدماء وينكر الحق، ويُحَق الباطل، وتظهر الخصومات، وتحدث النزاعات.
وما أفسد العلاقةَ بين الآباء والأبناء والجيران والأصحاب والأفراد والمجتمعات، وما فسدت الحياةُ وكثُرَتْ مشاكلها إلا بسبب اتِّباع الهوى؛ فالهوى أصلُ كُلِّ شَرٍّ، وسبب كل ذنب، وهذا ما حذَّر الله منه حيث قال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) [المؤمنون:71].
وأخبر -سبحانه وتعالى- أنَّ اتِّباع الهوى يضل عن سبيله، فقال الله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26]، ثم ذكر مآل الضالين عن سبيله فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص:26]؛ ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوىً فتنه هواه، وصاحب دنيا أعجبته دنياه. "إعلام الموقعين".
أيها المؤمنون عباد الله: إن غاية المسلم في هذه الحياة أن يعبد الله بما شرع، وأن يعمل ما يرضيه ولو على حساب رغبته وشهوته وحاجته، فتلك هي العبادة والطاعة، والتي جعل الله جزاءها في الدنيا سعادة وطمأنينةٌ وراحة، وفي الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوان من الله أكبر. قال تعالى: (مَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا) [النساء:69-70].
إن المرء بسبب هواه قد يخسر دنياه وآخرته؛ فيمنعه حب الدنيا وزينتها من التزام الحق واتباعه وهو يراه واضحاً جلياً أمام عينيه.
هذا الأعشى بن قيس، كان شيخاً كبيراً شاعراً، خرج من اليمامة، من نجد، يريد النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ راغباً في دخول الإسلام، مضى على راحلته مشتاقاً للقاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل كان يسير وهو يردِّد في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم-:
أَلَمْ تَغْتَنِمْ عَيْنَاك ليلةَ أَرْمَدَا | وَبِتَّ كما باتَ السليمُ مُسَهَّدَا |
أَلَا أَيُّهذا السَّائِلِي أيْنَ يممَتْ | فإنَّ لها في أهلِ يثربَ مَوْعِدا |
وآلَيْتُ لا آوِي لها مِن كَلالَةٍ | ولا مِنْ حَفَيً حتَّى تُلاقي مُحمَّدَا |
نبيٌّ يرَى ما لا ترَوْنَ وذكرُه | أغارَ لعَمْرِي في البلادِ وانْجَدَا |
أجِدِّكَ لم تسمَعْ وَصاةَ مُحَمَّدٍ | نبيِّ الإلهِ حيثُ أوصَى وأشْهَدا؟ |
إذا أنتَ لمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِن التُّقَى | وَلَاقَيْتَ بعدَ الموتِ مَن قَدْ تَزَوَّدَا |
ندِمْتَ عَلَى أنْ لا تكونَ كَمِثْلِهِ | وَأَنَّكَ لمْ ترصُدْ لِما كانَ أرْصَدَا |
فخافوا أن يُسلم هذا الشاعر فيقوى شأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل، فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس؟ فقالوا له: يا أعشى! دينك ودين آبائك خير لك. قال: بل دينه خير وأقوم. قالوا: يا أعشى! إنه يُحَرِّم الزنا! قال: أنا شيخ كبيرٌ وما لي في النساء حاجة. فقالوا: إنه يحرِّم الخمر. فقال: إنها مذهبة للعقل، مذلة للرجل، ولا حاجة لي بها. فلما رأوا أنه عازم على الإسلام قالوا: نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك وتترك الإسلام (لا إله إلا الله! من أجل قليل من المال يرتكب أعظم معصية وأكبر ذنب؟ وهكذا هُم كثير من الناس)، قال: أما المال فنعَم.
فجمعوها له، فارتد على عقبيه وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره، واستاق الإبل أمامه فرحاً بها مستبشراً، فلما كاد أن يبلغ دياره سقط مِن على ناقته فانكسرت رقبتُه ومات! (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [النحل:107].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قلتُ ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن اتِّباع أوامر الدين، والاقتداء بسيد المرسلين، والقيام بالأعمال التي يعود نفعها على الأفراد والمجتمعات سمة من سمات الصالحين، وسبيل المؤمنين.
ومَن ترك شيئاً لله أبدله خيراً منه، ومَن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، ومَن كان في عون أخيه كان الله في عونه، ومن راقب الله في أعماله وتصرفاته كتب له النجاة في الدنيا والآخرة.
فلْنَحْذَرْ مِن اتِّباع الهوى وتغليب حظ النفس؛ لنؤدي واجباتنا وما افترضه الله علينا، ولنتواصى بالحق، وننشر الخير والتراحم والحب، ولنحافظ على رابط الأخوَّة فيما بيننا؛ حتى نكون أهلاً لرحمة الله وتوفيقه، فيرفع بذلك عنا البلاء والفتن، ما ظهر منا وما بطن؛ ولا نجعل من مصائب الدنيا وفتنها ومغرياتها سبباً للتنازع والفرقة وامتلاء القلوب بالأحقاد والضغائن؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم:96].
اللهم ألِّفْ على الخير قلوبَنا، وأصلح ما فسد من أحوالنا، وأرنِا الحقَّ حقاً وارزقنا اتِّباعَه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
هذا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على رسول الهدى الذي أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].