الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
المقصود الأول من إنزال القرآن هو التدبر؛ لأن التدبر وليس التلاوة السطحية، التدبر هو الذي يؤدي إلى إحداث الذكر الذي به يتَّعِظ الإنسان، ويتقي ربه، (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا). لكن، كيف نتأثر بالقرآن؟ وكيف نتدبر؟ هل نتدبر في التفكر بمعانيه أثناء تلاوته؟ أم نتدبر في تلاوته في سكون الليل والناس نيام؟ هل نتدبره بتعلم اللغة العربية؟ أم ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سألني بعض الأفاضل الأسبوع الماضي أن أتحدث عن تدبر القرآن، وعلق بعضهم على موضوع إسلام الدكتور "لان"، قائلاً: نحن نقرأ القرآن، لكننا بعيدون عن تدبره والتأثر به، فما الحل؟.
أيها الأخوة الكرام: لا أزعم معرفة الحل، والإنسان منا أعلم بحاله، والله المستعان؛ ولكني أنصح نفسي وإياكم بما أظنه مُعيناً على تدبر كتاب الله تعالى والتفكر في كلامه.
أولا: لا يغيب عنا كيف حث الله على تدبر كلامه، بل بين أنه لم يُنزل القرآن أصلا إلا من أجل أن يتدبره المسلمون: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]، فاللام في قوله (لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ) هي لام السببية، أي أنزلناه إليك من اجل أن يتدبروا آياته، (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29].
ولذلك أنكر سبحانه على مَن أهمل التدبر وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء:82]، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، فتدبُّر القرآن عبادة مهمة، وعلم عظيم القدر عند الله تعالى يغفل عنه الكثيرون.
فتدبَّرِ الْقُرْآنَ إِنْ رُمْتَ الهُدَى | فَالْعِلْمُ تَحْتَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ |
المقصود الأول من إنزال القرآن هو التدبر؛ لأن التدبر وليس التلاوة السطحية، التدبر هو الذي يؤدي إلى إحداث الذكر الذي به يتَّعِظ الإنسان، ويتقي ربه، (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) [طه:113].
لكن، كيف نتأثر بالقرآن؟ وكيف نتدبر؟ هل نتدبر في التفكر بمعانيه أثناء تلاوته؟ أم نتدبر في تلاوته في سكون الليل والناس نيام؟ هل نتدبره بتعلم اللغة العربية؟ أم نتدبره بالحرص على قراءة التفسير؟.
هذه الوسائل قد تكون كلها صحيحة، ولكن دعونا نرجع إلى أهل الاختصاص في موضوع التأثر، وهو صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وننظر لماذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتأثرون بالقرآن أكثر منا بمراحل؟.
أيها الأخوة: لا شك أن من أسباب تأثر الصحابة بالقرآن وتدبرهم له وإيمانهم العميق وعملهم الدائب في خدمة الدين ونصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإخلاصهم وصدقهم وتضحيتهم، هذه كلها أسباب لا شك في ذلك، لكن السبب الرئيسي في تأثرهم وعمق تدبرهم هو شهودهم للتنزيل، لم يكونوا يقرؤون القرآن فقط، بل كانوا يشهدون نزول الوحي في حينه، ويعيشون في جو القرآن ليل نهار، كانوا يأنسون بالتنزيل ويترقبونه كل يوم، هل من جديد؟ يسأل أحدهم الآخر.
وكانوا من حرصهم على العلم ومعرفة ما يستجد من التنزيل أولا بأول مع اضطرارهم لترك مجلسه -صلى الله عليه وسلم- أحيانا في ضرورة انشغالهم بالرزق وإعالة أسرهم،كانوا يعالجون ذلك بالتناوب على الحضور عنده -عليه الصلاة والسلام- حتى لا يفتوهم شيء.
في صحيح البخاري عن ابن عباس عن ابن عمر قال:" كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك.... "
لقد كان حبل السماء مربوطاً بالأرض فربطت قلوبهم به، وتطلعوا إلى روائع التنزيل، وعاشوا جواً قرآنياً فريداً لم يحظ به غيرهم؛ لقد للآيات واقع محسوس في حياتهم ومشاعرهم، في سلوكهم وأخلاقهم، في قيمهم وآدابهم، فآيات تنزل طرية تصحح نظرة خاطئة بالأمس، وآيات آخري تؤيد موقفاً في حينه، وأخرى تسلي خاطرا، وثانية تحث على عبادة في حينها، وأخرى تثني على مبدأ وهكذا...
امرأة تأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تشتكي زوجها كيف جعلها بمثابة أمه، حرمها على نفسه، فيُنزل الله -عز وجل-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)
وجاء شاب يريد أن يصرفه النبي عن الجهاد من أجل فتنة بنات بني الأصفر، فيُنزل الله -عز وجل-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [التوبة:49].
يأتي النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجالٌ فقراء ممن ليس عندهم ما يملكون من أجل الإعداد للجهاد في سبيل الله، فيُنزل الله -عز وجل-: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة:91]، الآيات تنزل طرية -أيها الإخوة- أمامهم وبينهم.
كان أبو طلحة رضي الله عنه -وانظر كيف كانت استجابتهم- أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بستان اسمه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من مائها، وهو طيب.
قال أنس: فلما أنزل الله (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قام أبو طلحة إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله: إن الله تبارك وتعالى يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بخٍ! ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: أفعل يارسول الله.
بعض الصحابة يشربون الخمر، فتنزل الآيات تنهى عنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:90]، فيقال لهم: ألا إن الخمر حرمت. فكأنما الآيات تتكلم بينهم بصوت مسموع (فَاجْتَنِبُوهُ).
عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حُرِّمت الخمر في بيت أبي طلحة، يقول: فإذا منادٍ ينادي، فقال: اخرج انظر. فإذا منادٍ يقول: إن الخمر قد حرمت. فجَرَتْ في سِكَكِ المدينة. هكذا هم -رضي الله عنهم- يسمعون الآيات فيصغون ويعقلون ويتذكرون ويستجيبون بلا أدنى تردد، رجالا ونساء.
في السنن عن أم سلمة قالت: لما نزلت (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) [الأحزاب:59]، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية. تأثُّر عجيب بالآيات! واستجابة مباشرة؛ ليس خوفاً من الله فقط، بل خوف ورجاء، وحب وثقة كاملة بأن الخير كله في أحكام الإسلام.
مثال آخر: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان الحر من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا، قال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه.
قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر, فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به, فقال له الحر, يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين. يقول ابن عباس: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه, وكان وقَّافاً عند كتاب الله -عز وجل-.
الأمثلة كثيرة أيها الأخوة، لكن الحاصل أن التأثر بالقرآن وتدبره والاستجابة له كان على أشده في عهد التنزيل؛ ولهذا شعر الصحابة بالفقد الشديد بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، ففراق النبي ما بعده فراق، فهو فراق لشخصه الشريف، وهو أيضاً فراق للوحي من السماء، كلام الله.
ففي سنن ابن ماجة عن أنس قال، قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزورها. قال: فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يُبكيك؟ فما عند الله خير لرسوله! قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. قال: فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.
هكذا كان الوضع مع ذلك الجيل، بلغوا القمة في التأثر والتدبر لأنهم عاشوا نزول الوحي، وعاشوا وقائع الأحداث في حضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هناك أمر ثانٍ لا يُغفل، وهو أن الإنسان مهما كان، ولو كان صحابيا، له ساعات صفاء يمنّ الله بها عليه، وغالباً ما يبلغ التأثر أقصى مداه في تلك الساعات ذاتها، ولذلك نجد أن بعض الآيات التي حركت القلب في فترات قد لا تحركه في فترات أخرى، وهو أمر طبيعي، ووضع بشري فطري، فالقلوب لها ساعات وساعات.
ففي صحيح مسلم حنظلة -رضي الله عنه- يشتكي من قلبه ويخاف من النفاق، فيقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يارسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنه رأي عين -يعني بنا اليقين والخشوع والزهد أن ننسى الدنيا كلها ونرحل بقلوبنا إلى الآخرة فكأننا نشهد الجنة والنار بأعيننا- يقول: فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات.
ليس المقصود ساعة لربك وساعة لقلبك، لا، إنما المقصود أن للقلب مع الإيمان ساعة ذروه يتلذذ فيها بالطاعة، وله أيضا ساعة فترة يقضي فيها حوائج حياته البشرية، ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر -جميع القلوب- بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء" أخرجه الطبراني.
فكل قلب له من مشاعر الإيمان إقبالا وإدبار، وانشراح وانقباض، والفطِن هو الذي يعالج قلبه إذا أدبر بالذكر والاستغفار، لا يهمله حتى يقسو ويتفلت فيتبلد فيموت، نسأل الله السلامة.
الذكر يحيي القلب من جديد، ويعود به إلى رحاب الإيمان والطمأنينة، قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، ولذلك حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من إهمال الذكر فقال: "ما جلس مجلس لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا كان ترة عليهم يوم القيامة" أخرجه أحمد.
التأثر بالقرآن لا يمكن أن يدوم مع المؤمن في كل تلاوة أو تدبر، لا، وإنما هي ساعات صفاء يهديها الله للعبد إذا أخلص في عبادته، وطهَّر قلبه من شوائب الصغائر، وقوام الكبائر، فالقلب يثقل ويستنير بالطاعة، ويتدنس ويظلم بالمعصية، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه".
ولذلك قال تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:13-14]، الآيات إذا تتلى عليه لا تؤثر فيه بسبب الران الذي يغشى قلبه، بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، كيف يتأثر؟ فصفاء القلب سر من أسرار استشعار الآيات والتأثر بها، وصفاء القلب جهاد، ومن أراد التأثر بالقرآن وتدبره فليجاهد نفسه على تصفية قلبه من أدران المعصية ثم يقرأ كلام الله فسوف يرى الفرق الشاسع.
أيها الأخوة: الصحابة صفت قلوبهم وعاشوا نزول الوحي فتأثروا بالقرآن، فإذا كان بإمكاننا تصفية قلوبنا لتتأثر بالقرآن فهل يمكننا أن نعيش الوحي؟.
الجواب -أيها الأخوة- أما جسديا فلا يمكننا أن نعيش الوحي كما عاشوه -رضي الله عنهم-، وأما سلوكا وخلقا وعبادة ومراقبة فيمكننا ذلك إن شاء الله لو أراد كل واحد منا، فالذي يراقب الله تعالى ويخشاه في عبادته وفي خُلقه مع الناس وفي تعامله مع والديه وزوجته وأولاده، ونزاهته في الكسب الحلال، وطهارة لسانه من الغيبة وبذاءة القول، وخلو قلبه من الغل والحسد.
وفي كظمه للغيظ حين القدرة، وتواضعه وعفوه عمن أساء إليه، واشتغاله في خدمة الإسلام، واحتساب ماله وجهده ووقته في عمل الخير، ومد يد العون لإخوانه العاملين في ذلك المجال حين يتخلى عنهم الأعوان، مَن كان هذا خلقه، وكان له نصيب في شيء من هذه الأعمال الصالحة، وكانت هما يؤرقه، هماً رئيساً في حياته.
إنه عندما يمر على كلام الله الذي يحكي جانباً من تلك الأخلاق أو الأعمال أو ما يدور حولها والتي هو يمارسها فلابد أن يتأثر؛ لأنها تحكي واقعه هو، وتمس مشاعره هو، فالصحابة كانوا يتأثرون لأن هذه الأخلاق والأعمال المباركة التي يمتلئ بها القرآن ويحث عليها ويُثني على أهلها كانت محور حياته.
أسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا، ويعيننا على أنفسنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فهل يمكن أن يتأثر العبد بالقرآن قبل أن يصفو قلبه؟ إن قسوة القلب والصدع الذي يغطيه يعطل أدوات تدبره وتأثره بالقرآن، وهل يمكن تذوق الماء في كأس متسخة بالطين والأتربة؟ هذا هو الأصل، إذا كان القلب قاسياً ولكن لم يمت بالكلية بل بقي منه جزء يسير حي، فإن الأحداث التي تمر بالإنسان قد تفتح له أفاقا في فهم القرآن والتأثر به ما كانت لتفح لولاها.
يقول أحد الدعاة: رأيت مغنيا مشهورا طالما فتن الشباب والفتيات، قررت أن لا أدعه حتى أنصحه، فسلمت عليه، وألهمني الله أن ألقي على أذنه دون أن يسمع أحد غيره: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج:10]، ثم ذهبت، والله ما مرت أيام إلا وخبر توبته في الصحف. فربما لمسَت تلك الآيات جزءاً ليناً في قلبه فاستجاب لها، فلله الحمد والمنة.
شاب يصلي لكنه مبتلى بفاحشة لا يستطيع الفكاك منها، وفي ساعة ما وهو يقرأ سورة يوسف وصل إلى قوله تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24]، فحركت الآية قلبه وتأمل فيها طويلا، ثم رجع إلى نفسه يلومها: لو كنت مخلصا لصرف الله عني الفحشاء والسوء؛ فتغير حاله وجاهد نفسه على الإخلاص حتى تاب، وكان تأثره بهذه الآية سبب هدايته.
أخيراً: يقول الله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا...) [الأنفال:2]
أسأل الله تعالى أن يزيدنا قرباً من آياته في تلاوتها وتدبرها والعمل بها. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا.