الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
نتناول اليوم إن شاء الله ذكرا داوم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وحث عليه: في صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ و لا منجا منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول -سبحانه وتعالى- (أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41-42].
لقد سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوراداً ثابتة نداوم عليها في مواطنها التي خصها، وبهيئتها المشروعة؛ لأن فيها من المنافع شيئاً عظيم،ا ففيها متابعته -صلى الله عليه وآله وسلم- في سنته، وهي من الأوامر التي نص عليها القرآن: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
وفيها التزام أفضل العبادات وهو ذكر الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأرضاها عند مليككم، وأرفعها فى درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب و الورِقِ، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم؟!" قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "ذكر الله".
نتناول اليوم إن شاء الله ذكرا داوم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وحث عليه: في صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ و لا منجا منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيك الذي أرسلت. فإن مُتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به". فقال [أي البراء] بدل أن يقول بنبيك الذي أرسلت قال: برسولك. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" بل قل بنبيك الذي أرسلت".
مَن منا يحرص على هذا الذكر أيها الإخوة؟ أم أننا نلقي بأنفسنا على فرشنا دون اعتبار لذكر ولا دعاء؟ ومن هنا نحث على شيئين: الأول أن يسارع كل واحد منا على حفظ هذا الذكر، المطويات وكتيبات الأذكار الصغيرة متوفرة؛ الشيء الثاني الذي نحن بصدده اليوم هو الوقوف على معاني هذا الذكر العظيم، إذ حفظه مطلوب، ولكن التفكر فيه أمر ضروري.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة"، قال وضوءك للصلاة، للتنبيه على أن المراد هو المعنى الاصطلاحي لا المعنى اللغوي للوضوء الذي يعني مجرد النظافة، المقصود هو الوضوء الشرعي المشتمل على النية المعتبرة، وبأركانه المعروفة: "فتوضأ وضوءك للصلاة".
وقد يتساءل المرء: لماذا الوضوء وأنا مقبل على النوم؟ والجواب: إن النوم أخو الموت، وقد صح في مجمع الزوائد أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون"، فالإنسان إذا نام لا يملك قدراته التي كان يملكها في اليقظة.
فهو يفقد ملكة الإحساس بمن حوله سمعا وبصرا، ويفقد ملكة التحرك الجاد المقصود، ويغيب عن تفكيره الواعي، فهو مسترخٍ منطرح بلا حراك، سوي من أنفاسه العالية، لا يدري ما يدور من جانبه، قد هجم عليه النوم بلا استئذان، وأفقده تلك الأحاسيس، وأحاله جسداً هامدا ضعيفا عاجزا مستسلماً، فما أشبهه بالميت!.
وكل واحد منا لا يمكنه أن يجزم أنه سوف يستيقظ من نومه بالضرورة، ويوقن أنه تحت مشيئة الله، إن شاء أذن باستيقاظه فأرسل روحه لتعود إلى جسده، وإن شاء أبقى روحه خارج جسده ومنعها من العودة إليه، يقول سبحانه: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر:42].
جاء عن ابن كثير وابن الصلاح في تفسيره: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فتتعارك ما شاء الله، فإذا أرادت جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها وأرسل أروح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها. يقول السدي: فترجع روح الحي إلى جسده بالدنيا إلى بقية أجلها، وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس.
ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما كانوا راجعين من غزاة فباتوا في الطريق فغلبتهم أعينهم ولم يستيقظوا للفجر إلا بعد طلوع الشمس، قال لهم: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء" أخرجه البخاري.
وهذا ما استشعره النبي -صلى الله عليه وسلم- حين كان يريد النوم، فيقول كما يروي حذيفة فيما صح في البخاري: "باسمك اللهم أموت وأحيا"، يقولها إذا أراد أن ينام -صلى الله عليه وسلم-، وإذا استيقظ من منامه قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور".
وهو ما ينبغي أن نستشعره نحن أيضاً، وإذا كان أحدنا يعلم شدة قربه من الموت حال نومه فحري به أن يتهيأ لذلك المجهول بأحسن ما عنده، من النوم على طهارة، وقراءة الأذكار، حتى يختم حياته -إن قدر الله ختامها تلك الليلة- بخير، سيلقى الله ذاكراً طاهراً.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يبيت على ذكرٍ طاهرا فيتعار من الليل [أي ينقلب على فراشه] فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" أخرجه أبو داوود وهو حديث صحيح.
وعن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من بات طاهرا بات في شعاره ملَك [الشعار هو الثوب الذي يلي الجسد] فلم يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان؛ فإنه بات طاهراً" أخرجه بن حبان بسند جيد صححه الألباني. وفي رواية معاذ في السنن: "ما من مسلم يبيت على ذكر وطهارة فيتعار من الليل فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه".
إذاً فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن" أي: على جانبك الأيمن. قال بن حجر: وخص الأيمن لفوائد، منها أنه أسرع للانتباه. وذكر ابن الجوزي أن الأطباء نصوا على أن هذه الهيئة أصلح للبدن.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "وقل اللهم أسلمت نفسي إليك"، أي: جعلت نفسي كلها منقادة بحكمك، مستسلمة لقضائك، واطمأننت لتسليمها إليك يارب. "ووجهت وجهي إليك"، أي: في الطلب والاستعانة والهداية والتوكل وجميع العبادات.
"وفوضت أمري إليك": هو منتهى الاطِّراح بين يدي القهار -سبحانه وتعالى-، أي استسلمت لتدبيرك فيما تفعله فيَّ، مع يقيني بعدلك وحكمتك، وفوضت أموري كلها إليك طلبا واختياراً، لا كرها واضطرارا؛ لأن تدبيرك لي خير من تدبيري لنفسي.
قال مؤمن بني اسرائيل: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) [غافر:44]، المفوِّض لا يفوض إلا بعد ارتياح لمن يفوض، وأي جناب بعد جناب الله أضمن وأعدل وأحكم؟ وهذا ما يغمر القلب بالراحة والسعادة والطمأنينة. ينبغي يا أخوة أن يخرج هذا الكلام من الذكر من القلب لا من طرف اللسان.
قال: "وألجأت ظهري إليك": الظهر خلاف الصدر، فنحن نرى من أمامنا، ولكننا لا نستطيع رؤية مَن هو خلف ظهرنا، فبمَن نستعين إذن، وإلى من نلجأ؟ نلجأ إلى ربنا -جل وعلا-.
"رغبة ورهبة إليك": رغبة في ثوابك، ورهبة من عقابك، فنحن نعبد الله تعالى بمشاعر الخوف والرهبة، ومشاعر الرجاء والرغبة، المفر منه -جل وعلا- مستحيل، والملجأ إليه ملجأ إلى رحيم حليم.
وهذا ما شعر به كعب بن مالك مع صاحبيه عندما تخلفوا عن غزوة تبوك، لما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين سبب تخلفه، قال سعد: فطفقوا [أي الناس] يعتذرون إليه ويحلفون له, وكانوا بضعة وثمانين رجلاً, فقبل منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علانيتهم.
ولما جاء كعبٌ للنبي يعتذر قال: والله يا رسول الله! لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً؛ ولكني -والله!- لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذِبٍ ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، واللهِ ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك". لماذا صدق؟ لأن لديه يقينا قلبيا بأن مآل الأمر إلى الله -جل وعلا- وحده، وأنه لا ملجأ ولا منجا ولا مفر منه إلا إليه، ولذلك أنزل الله فيه: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118]. لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك! تقوله في منامك قبل أن تنام، تقولها وأنت مضجع.
مَنْكَ أرْجُو وَلَسْتَ أَعْرِفُ رَبَّاً | يُرْتَجَى مِنْهُ بَعْضُ مَا مِنْكَ أَرْجُو |
وإذا اشتَدَّتِ الشدائدُ في الأرْ | ضِ عَلَى الخَلْقِ فاستغاثُوا وَعَجُّوا |
وَابتَلَيْتَ العِبادَ بالخوْفِ والْجُو | عِ وَصَرُّوا على الذُّنُوبِ وَلَجُّوا |
لَمْ يَكُنْ لِي سِواكَ رَبِّي مَلَاذٌ | فتَيقَّنْتُ أنني بِكَ أنْجُو |
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فالعبرة -أيها الإخوة- ليست في ترديد الأذكار دون استشعارها والتفكر في معانيها؛ لأن التفكر هو الذي يحدث التأثير في القلب، ويزيد الإيمان، فتذكر أن تحضر قلبك عند كل ذكر بقدر استطاعتك.
قال -صلى الله عليه وسلم- في ختام الدعاء: "آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت". من مقتضيات الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الحرص على هديه وسنته، فالذي لا يحفظ هذا الدعاء ينبغي أن يبادر إلى حفظه، ففيه خير كثير لا يعوض.
ولذلك نرى حرص البراء بن عازب في سرعة مبادرته في حفظ الدعاء قبل أن ينصرف من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: فقلت أستذكرهن، وأعاد الدعاء كاملا، إلا أنه أخطأ وقال: برسولك الذي أرسلت. فقلت أستذكرهن أي أتحفظهن أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموقف، كيف لا؟ وقد ضمن النبي لمن ردده قبل نومه الموت على الإسلام، "فإن مُتَّ مُتَّ على الفطرة".
أيها الأخوة: هذا الدعاء العظيم تضمن من المعاني والإقرارات ما يحتاجه كل مؤمن قبل أن يلقى الله -جل وعلا-، ففيه التوكل واليقين، والخوف والرجاء، والتسليم والتعظيم، والرغبة والرهبة، والإقرار بالقرآن، والإقرار بالنبوة.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين الله في كل حين.