البحث

عبارات مقترحة:

الصمد

كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

السياحة

العربية

المؤلف سعود بن ابراهيم الشريم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. الأصل حمل الكلام على حقيقته .
  2. مفاهيم السياحة المغلوطة .
  3. مفهوم السياحة في الإسلام .
  4. من معاني السياحة الممدوحة في الإسلام .
  5. من معاني السياحة المذمومة في الإسلام .
  6. من منكرات السياحة .
  7. سلبيات السياحة .
  8. التناقض بين مآرب السياح وأرباب السياحة .
  9. البديل النافع .
  10. الأدلة على تحريم الغناء .

اقتباس

إن الترويح على النفس بما أباح الله لها هو مسرح للاستئناس البريء الخالي من الصخب واللغط، على حد قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لحنظلة بن عامر -رضي الله عنه-: "ولكن ساعة وساعة". لا كما يقول أرباب التحرر: "ساعات لك، وساعة لربك، واستعن بالهزل على الجد، والباطل على الحق". أو "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر!". كلا! فالبيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقه واتبعوا نهجه وهداه، وعلى من تبعهم وحذا حذوهم ما تعاقب الأجدان، الليل والنهار.

أما بعد:

فيا أيها الناس: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

الزموا حدود الله، فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه، وحذار حذار من التفلت والحياد عن سبيله كما تتفلت الإبل في عُقُلها، فإنه ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم.

وإنكم ستعرفون مِن الناس وتنكرون، حتى يأتي على الناس زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله.

ألا فمن استنصح الله وُفِّق، ومن اتخذ شِرعته نهجًا هُدي للتي هي أقوم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100].

عباد الله: تكلم أهل الأصول وعلم البيان عن الكلام وماهيته، وأن من أقسامه ما يسمى "الحقيقة".

وأن الكلام الحقيقي قد يكون لغويًا أو شرعيًّا أو عرفيًا، كما هو في مظانِّه من مؤلفاتهم، والذي يفيدنا منه في هذا المقام هو أن الأصل في الألفاظ حمْلها على الحقيقة بواحد من أقسامها الثلاثة الآنفة.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن طغيان الجانب المادي واللهث وراء المحسوسات المشغلة عن الدين والتدين وسلوك النهج القويم، والدخول في دائرة الأخلاق التي تشمل الجميع، كان سببًا -ولا شك- في قلب الحقائق، وجعل الشين زينًا، والمر حلوًا، ومثول صور شتى من اللامبالاة بقيم الألفاظ ودلالات الكلام وثمراته، كما جاء في بعض الأحاديث من تسمية الأشياء بغير اسمها، كما تسمى الخمرة عند أقوام بـ"المشروبات الروحية"، والمخدرات "كيوفات حيوية"، وما أشبه ذلك.

غير أن مما يروعنا -عباد الله- خلائق مقبوحة انتشرت بين كثير من المجتمعات المسلمة في كافة الأقطار، دون مبالاة، أو بعبارة أخرى، على إغماض متعمد أو شبه متعمد من ذوي المسؤوليات العامة من كافة الناس المكلفين.

واستمرت موافقة الناس لها حتى حولها الإلف والمحاكاة إلى جزء لا يتجزأ من الحياة العامة والتحسينات اللا محدودة.

ومن هنا: رأينا الاستهانة بالكلمة وحقيقتها التي وضعت لها، ورأينا قلة الاكتراث بالأمانات والمسؤوليات الثقيلة، ورأينا القدرة على التكيف في قلب الحقائق إذا حل الهوى قلبًا خاليًا، فتمكن منه، ومن ثم، جُعل الجهل علمًا، وريادةً وتطورًا، والعلم جهلاً، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وهكذا دواليك.

إن محور حديثنا -أيها الناس- ونقطة الارتكاز فيما سنطرحه هو ما يسمى في الكلام "السياحة"، نعم، السياحة، وما تطرف منها لفظًا ومعنى.

تلكم الكلمة -عباد الله- تكاد تتواطأ أسهام الأغرار من الناس على أنها عبارة دالة بذاتها على معان منها: الترويح عن النفس، أو الاصطياف، أو الخروج عن القيود الشرعية أو العرفية، أو الارتقاء والتمدن واتساع الأفق الثقافي، أو بعبارة أخرى تلم الجميع: "العولمة الحرة".

وأين كان هذا المعنى أو ذاك، فإنه لن يخرجنا هذا كله عن القول بصدق: إن هذه المعاني والمفاهيم للسياحة كلها مغلوطة، وليست من السياحة في ورد ولا صَدر.

ولأجل أن نؤكد على ما نقول بالدليل القاطع فإن هناك نصوصًا من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأقوال السلف الصالح، كلها تدل على مفهوم للسياحة مغاير لما تعارف عليه جمهرة الناس.

يقول الله -جل وعلا-: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ) [التوبة: 112] الآية. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وعائشة -رضي الله عنهم- وغيرهم: "إن السائحين هم الصائمون". ومثل ذلك قوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً) [التحريم: 5].

وقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: "سياحة هذه الأمة: الصيام". وقال بعض أهل العلم، كزيد بن أسلم وابنه: "السائحون هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم".

ولذلك قال بعض السلف: "من لم يكن رُحلة، لن يكون رُحالة". أي من لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ والسياحة في الأخذ عنهم، سيبعد تأهله ليُرحل إليه.

وأقول -أيها المسلمون-: إن هذا القول كان أيام الخلافة الإسلامية، وكون البلدان كالرقعة الواحدة، والله المستعان!

وثَمَّ إطلاق آخر لمعنى السياحة: وهو السير للمطلوب الشرعي والبحث عنه، عبادةً لله وقربى لديه، كالحج وزيارة المساجد الثلاثة، أو الغزو في سبيل الله أو نحو ذلك.

فقد ثبت عند الترمذي في جامعه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قَفَل من غزوة، أو حج أو عمرة، كان مما يقول في دعائه: "آيبون تائبون عابدون سائحون، لربنا حامدون...". الحديث.

وإطلاق آخر للسياحة بمعنى عبادة الله في أرضه للمضطهدين في دينهم والمشردين عن أوطانهم، كما ثبت في صحيح البخاري من قصة هجرة أبي بكر -رضي الله عنه- إلى الحبشة؛ حيث لقيه تبن الدَّغِنة فقال: "أين تريد يا أبا بكر؟!"، فقال أبو بكر: "أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي". فقال ابن الدغنة: "إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج...". الحديث.

ومن هذا المنطلق، دُوِّنت المقولة المشهورة عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إبان اضطهاده وامتحانه: "ما يفعل أعدائي بي؟! إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وتشريدي سياحة". ولا يُعقل -أيها المسلمون- أن يسيح العالم المجاهد، المتقي، لأجل أن يلهو أو يعبث!

ما مضى ذكره -أيها الإخوة- إنما هي معانٍ ممدوحة من معاني السياحة والذهاب على وجه الأرض في أصل الكلمة وحقيقتها. وفي المقابل، نجد سياحة مذمومة ممقوتة، نهى الشارع الحكيم عنها وأبدل الأمة خيرًا منها.

تلكم -عباد الله- هي السياحة في الأرض، على وجه العزلة والانطواء والبعد عن الناس ومخالطتهم والصبر على أذاهم لأجل التعبد وحده؛ فقد ثبت عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله: ائذن لي في السياحة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله". رواه أبو داود في سننه وقدَّره بقوله: "باب النهي عن السياحة".

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27]، يقول -رضي الله عنه-: "هذا عن ملوك بعد عيسى ابن مريم بدلوا التوراة والإنجيل وكان بهم مؤمنون يقرؤون التوراة".

إلى أن قال -رضي الله عنه-: "فقال أناس منهم: نتعبد كما يتعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دُورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم، فلما بعث الله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبق منهم إلا قليل، انحط رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب دَير من ديره، فآمنوا به، وصدقوه، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد: 28]". رواه النسائي.

يقول ابن كثير -رحمه الله-: "وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن في الدين والزلازل، كما ثبت عند البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".

فلا إله إلا الله، كم فيما مضى ذكره من عبر، ولا إله إلا الله، كم يكفينا ذلك في تذكير أرباب السياحة العابثة، ألا سبحان الله، سياحة لأجل العزلة والتعبد منهي عنها، أفتكون سياحة اللهو والتخمة أحل وأنقى؟! لا إله إلا أنت سبحانك، ولا نقول إلا ما يرضيك عنا.

تلك -عباد الله- بعض المعالم والشذرات حول مفهوم السياحة، الأصل والأساس، والذي كاد يُعدم معناه أو ينمحي، حيث أبدله الناس بهذا المفهوم العارم، والذي سنسلط عليه بعض الضوء والمصارحة، ففي النصح بركة، والحر تكفيه من ذلك الإشارة.

فنقول: إن الترويح على النفس بما أباح الله لها هو مسرح للاستئناس البريء الخالي من الصخب واللغط، على حد قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لحنظلة بن عامر -رضي الله عنه-: "ولكن ساعة وساعة". لا كما يقول أرباب التحرر: "ساعات لك، وساعة لربك، واستعن بالهزل على الجد، والباطل على الحق". أو "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر!".

كلا! فالبيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله، ومتى تجاوزوا تلك الحدود، فما قدَروا الله حق قدره وما شكروه على آلائه.

إن المرء الجاد الخائف من ربه، وولي نعمته، ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد لينفقه فيما يعود عليه بالوبال.

لقد حرص كثير من الناس على تضخيم الترويح على النفس والبدن، حتى ظنوا بسبب ذلك أنهم مسجونون في بيوتهم وبلدانهم! استصغروا ما كانوا يُكبرون من قبل، واستنزروا ما كانوا يستغفرون! أقفرت منازلهم من الأُنس، وألِفوا السياحة على مفهومهم القاصر، والجلوس في المنتديات حال الاغتراب، حتى أصبح المرء منهم في داره حاضرًا كالغائب، مقيمًا كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه ما لا يعلم من حال القريب منه.

قبل الإجازات يَعقدون الجلسات غير المباركة عن معاقد عزمهم في شد الرحال إلى مجاري الأنهار وشواطئ البحار في بلاد الكفار أو بلاد تشبهها، يفرون من الحر اللافح إلى البرد القارص، وما علموا أن الكل من فيح جهنم ونَفَسها الذي جعله الله لها في الشتاء والصيف.

رحلات عابثة تفتقر إلى الهدف المحمود والنفع المنشود، أدنى سوئها الإسراف والتبذير، ناهيكم عما يشاهد هنالك من محرمات ومخازي لا يُدرى كيف يبيح المرء لنفسه أن يراها، وماذا سيجيب اللهَ عن قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور: 30].

الجُل من السياح نهارهم في دُجنة وليلهم جَهْوَري، ألذ ما عند بعضهم سمر العشاق أو شَغل المشغولين بالفراغ، عبادتهم ندر، وغوايتهم غمر.

يأكلون الأرطال ويشربون الأسطال، ويسهرون الليل وإن طال، حتى يصير الصبح ليلاً والليل صبحًا، فيختل الناموس الذي خلق الليل والنهار من أجله.

فلا يُرخي الليل سدوله إلا وقد سَحب اللهو ذيوله، وتمشت البلادة في عظام المرء، فيُخلع ثوب الوقار، ويُلاطف بعبث مشين في سَفْسَف أو باطن من الأمر.

ومن ثم تُعد تلك السجايا من السياحة الجاذبة. وكم يقال حينها:

هل لساهر في مثل هذا من نُزْح

أو هل لليله من صبح

هيهات ثم هيهات، فكيف يُرجى تقطيع ليال وافية الذوائب ممتدة الأطناب بين المشارق والمغارب؟! (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً) [غافر: 61].

ولا بـِدْع حينئذ إذا عكست آمال هؤلاء وخابت أعمالهم، فلم يرجعوا من سياحتهم إلا بنفاد المال في الدنيا وسوء المغبة في الأخرى.

إننا -أيها المسلمون- نحتاج حقيقةً إلى مصارحة مع أنفسنا، وإلى استحضار عقولٍ وقلوبٍ ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إننا لَنُسَائِلُ رواد السياحة بأوضح صور الصراحة، فنقول لهم: أفيدونا -يا هداكم الله-: ما هي إيجابيات السياحة؟! وما هي سلبياتها؟! والجواب -ظننا فيهم- أن يقولوا: "إيجابياتها تكمن في التعرف على البلدان، ومعرفة حضارات الأقوام، ومشاهدة المناظر الخلابة والآثار العامرة" والرابع -يقال على استحياء-: "قتل الأوقات ومجاراة الناس!".

وأما السلبيات فسيجيب عنها غيورون عقلاء على أنها لا حصر لها، غير أن من أبرزها: "السفر إلى بلاد الكفر،" والتي نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإقامة بها، وكذا "السفر بلا مَحْرم عند البعض"، ومثله "التساهل في الحجاب بالنقص منه أو نزعه بالكلية!"، وكذا "رؤية المنكرات والعري والاختلاط بين الجنسين، ورؤية الكفر بالله ورسوله وانتهاك محارم الله".

وقولوا مثل ذلك في الإسراف والتبذير، ناهيكم عن البعد عن جو الإيمان وطاعة الله: فلا أذانٌ يُسمع، ولا قرآنٌ يُتلى، ولا ذكرٌ لله، إلا ما شاء الله. ومن دَعته محبته لله إلى أن يؤدي فريضة الله، فعلى استحياء أو تخوف، أو في أماكن صخب يتعذر معها معرفة القبلة أو وقت الصلاة أو أن يفقه مما أدى شيئًا!

وأما ندرة الطعام الحلال، فحدثوا عن ذلك ولا حرج، إضافة إلى خطورة ما ذُكِر على الأطفال والشباب والفتيات، وما يَعلق في أذهانهم من حب اللهو والإحساس بأن ما عند أولئك خيرٌ مما عندنا، وأننا نعيش في أجواء الكبت والمحاصرة وقيد الحرية!

وأمثال ذلك أضعاف مضاعفة، بيد أن الحاصل في الأمر هو أن الإثم في السياحة المزعومة أكبر من النفع، والسلب أضعاف الإيجاب، ولو نظرنا إلى الخمرة، والتي يُجْمِع المسلمون طرًّا على تحريمها، يقول عنها -جل شأنه-: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [البقرة: 219].

وإذا كنا قد ذكرنا آنفًا أن السياحة على وجه العزلة للتعبد، منهي عنها، فكيف بالسياحة على وجه اللهو واللعب؟! ألا إن النهي أشد والمغبة أسوأ.

ولو لم يكن في ذلك إلا أن المرء يذهب بنفسه وذويه إلى بلاد السوء وأرض المعاصي والكفر بالله، فلا يدري: أيُختم له في بلد الإسلام، أم في بلد الكفر؟! أفي جو الطاعة والإيمان، أم في جو المعصية وأماكن اللهو والعبث؟! والأعمال بالخواتيم!

ألا تسمعون -يا رعاكم الله- إلى ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا وأكمل المائة بالراهب، حتى أتى عالمًا فقال له العالم: "ومن يَحُول بينك وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أُناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء". فانطلق، حتى إذا انتصف الطريق، أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فجعلوا مَلكًا حكمًا، فقال: "قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له". فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر، فجُعل من أهلها!

فيا لله: أين أنتم يا عشاق السياحة؟! لقد كان مصير هذا التائب، الخائف الوجل، متعلقًا بمدى قربه من أي القريتين! ألا ما أصعب الجواب، وما أسحق الهوة!!

وبعد: فثم سؤال آخر يطرح نفسه، ليَبين من خلاله وجه التناقض بين مآرب السياح وأرباب السياحة، وبين ما ألِفه بعضهم من جو الحفاظ والتدين، وصورة السؤال هي: يا أيها السائح: هل أنت ممن سيقرأ دعاء السفر إذا أردت السياحة في بلاد اللهو؟! فإن كان باحثًا عن الحق، فسيقول: وهل يغفل المرء المسلم دعاء السفر؟! قلنا له: فماذا تقول في دعائك؟! فسيجيبنا: أقول الدعاء المشهور: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، فنقول له: حسبك قف! لقد قلت: البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى! فأين محل البر والتقوى والعمل المُرضي في سفرك؟! أيكون مشاهدة المنكر بِرًّا أو تقوى؟! أيكون الجلوس أمام ما يغضب الله بِرًّا أو تقوى؟! إن ذلك كله مما لا يُرضي الله، وأنت تسأله من العمل ما يُرضيه! ألا تدري ما هو البر؟! إن أجمع ما يصوره هو قوله -جل وعلا-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92]. ألا تدري ما التقوى؟! (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27]، ألا تدري ما العمل الذي يُرضي الله؟! (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].

ألا فاتقوا الله -معاشر المسلمين-: وليس عيبًا أن يقع امرؤ في الخطأ، وإنما العيب، كل العيب، أن يتمادى فيه ويكابر!

اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والثبات على دينك واتباع سنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-، اللهم ارزقنا من السعادة والطمأنينة والرضا بالمقسوم ما يغنينا عما عند غيرنا، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، أقول ما سمعتم وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فيا أيها الناس: إن ما مضى ذكره حول السياحة، بين المفهوم الصحيح والمفهوم الخاطئ، وما أشرنا إليه من جهة التحريم والنهي، فإن المنع قد يُرفع عند الضرورة الملجئة، وللضرورة أحوالها.

بَيْد أن هناك أمرًا يجدر الاهتمام به، وهو أن هذا المنع لا يدل من قريب ولا من بعيد على أن لا يكون للمسلمين ما يسمى على لغة الكثيرين: "التنشيط السياحي"، أو بعبارة أخرى أصح: "فرص استغلال الأوقات"، لأجل أن يستغنوا عن السفر إلى بلاد الكفار أو ما يشابهها.

وفي الوقت نفسه، لا يُفهم من هذه الدعوة أن يكون الحل في استجلاب ما عند غيرنا إلى أرضنا، فتكون الثمرة هي فحسب "استبدال المواقع"، فيكون حشفًا وسوء كيل.

بل ينبغي أن يكون الأمر أعظم وأجل، إنه مبني على كوننا مسلمين، نعمل ونسعى ونرتقي من خلال ما شرعه الله لنا، فإنشاء الدورات الصيفية والجمعيات الخيرية من تحفيظ للقرآن، أو تنشيط ثقافي نافع أو نحو ذلك مما يُستغل به أوقات الجمهور، وإن لزم الأمر فيُقتصر حينئذٍ على المباح؛ إذ ما بعد المباح إلا ما حرم الله، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! مع الحذر الحذر أن تُقلب المفاهيم، وأن تكون صورة التنشيط السياحي مثالاً للهو والعبث والضج والضجيج والعزف والطرب، وبذل الوقت والمال فيما حرم الله ورسوله.

فكم من مظاهر عريضة مفتعلة لها ضجيج وطنين يَصْدع الأسماع والأبصار، تمتد ألوانها إلى أوقات متأخرة ليلاً، ولسان الحال يقول:

يا ليل هل لك من صباح

أم هل لصبحك من براح
ضل الصباح طريقه والليل ضل عن الصباح

وإذا كنا نرى السفر إلى بلاد الكفار داءً يجب علاجه، فإن الله -جل وعلا- لم يجعل شفاء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما حرم عليها.

وإن استئناس كثير من الغافلين بما حرم الله، لا يعني البتة التطلع إلى تنفيذ رغباتهم، والقاعدة الشرعية المقررة من خلال حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن: "من أرضى الناس بسَخَط الله، سَخِط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس".

ألا وإن بذل الأوقات في الغناء واللهو لمما حرم الله ورسوله، وكلما كانت المجاهرة به أظهر، كان الخطر أشد والخَطْب أدهى وأمَر، وكل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- معافى إلا المجاهرين.

عن سهل بن سعد، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ". قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟!، قال: "إذا ظهرت المعازف والقـَيْنات". رواه بن ماجه والطبراني.

والقينات هم المغنون والمغنيات، بل إن الأمر سيذهب إلى أبعد من هذا، إلى أن يأتي أقوام فيستحلون المعازف والأغاني على شدة ما ألِفوها واستمرؤوها وقَل النكير لها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". ذكره البخاري في صحيحه.

وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن الغناء فقال: "يُنبت النفاق في القلب". وقد قال الفضيل بن عِياض -رحمه الله-: "الغناء رقية الزنا". وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق". وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره الإجماع على تحريمه.

ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون- وأقلِعوا عن معاصي الله في أرض الله، فإن الأجل يحل بغتة وكتاب الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن خلفائه الأربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين.

اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سُقيا رحمة، لا سقيا هدم ولا بلاء ولا عذاب ولا غرق ولا استدراك، يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180-182].