الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحكمة وتعليل أفعال الله |
وهاتان السورتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة العيد، ومن العجيب أيضاً أنه إذا وافق يوم الجمعة عيداً قرأ بهما في صلاة العيد صباحاً، وقرأ بهما في صلاة الجمعة ظهراً، فكرر القراءة بهما في يوم واحد، في صلاتين متتابعتين .. وحين نتأمل المعاني التي حوتها السورتان يبين لنا بعض الحكم العظيمة من قراءتهما في الجمعة والعيد، ولا يتسع هذا المقام لذكر كل ما في السورتين، لكن ثمة أموراً مشتركة ..
الحمد لله رب العالمين؛ أنزل القرآن هدى للمتقين، وحجة على الناس أجمعين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو سبحانه مبتدئ النعم ومتممها، وهو عز وجل من يستحق شكرها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الحكمة الباهرة في شرعه، وله الحجة البالغة على خلقه (قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام:149] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أنصح الناس للناس وأتقاهم لله تعالى، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله تعالى؛ فإنها الصفقة الرابحة، والوصية الجامعة.. وصانا بها ربنا جل في علاه (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) [النساء:131] ووصانا به رسوله صلى الله عليه وسلم في موعظته التي ظن الصحابة رضي الله عنهم أنها موعظة مودع فقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بِتَقْوَى الله" فخذوا عن ربكم سبحانه وتعالى وصيته، وخذوا عن نبيكم صلى الله عليه وسلم وصيته؛ والزموا التقوى فإنها نعم العدة ليوم لا تنفع فيه شفاعة ولا خلة.
أيها الناس: يوم الجمعة يوم عظيم مبارك، جعله الله تعالى للمسلمين عيداً، واختصه بجملة من الخصائص؛ من أعظمها هذه الصلاة التي يجتمع لها المسلمون في المساجد؛ ليستمعوا للتذكير والموعظة فتكون زاداً لهم في أسبوعهم، ومن خصائص صلاة الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم سن فيها قراءة سور مخصوصة هي الجمعة والمنافقون، أو الجمعة والغاشية، أو الأعلى والغاشية، ولا بد أن يكون تخصيص صلاة الجمعة بهذه السور لحكم عظيمة، وفوائد جليلة، تعود على المصلي بالنفع عاجلاً وآجلاً. وقد روى سَمُرَةُ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم:"كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) و (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ)"رواه أبو داود.
وهاتان السورتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة العيد، ومن العجيب أيضاً أنه إذا وافق يوم الجمعة عيداً قرأ بهما في صلاة العيد صباحاً، وقرأ بهما في صلاة الجمعة ظهراً، فكرر القراءة بهما في يوم واحد، في صلاتين متتابعتين؛ كما جاء في حديث النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رضي لله عنهما قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الْعِيدَيْنِ وفي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، قال: وإذا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ في يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا في الصَّلَاتَيْنِ" رواه مسلم.
وحين نتأمل المعاني التي حوتها السورتان يبين لنا بعض الحكم العظيمة من قراءتهما في الجمعة والعيد، ولا يتسع هذا المقام لذكر كل ما في السورتين، لكن ثمة أموراً مشتركة، تكررت في السورتين جميعاً للعلم بها أهميته..
إن يوم الجمعة هو يوم موعظة وتذكير، وأعظم ذلك وأفضله التذكير بربوبية الله تعالى وعظمته وقدرته، والاستدلال على ذلك بآياته وخلقه؛ ليبقى معظماً في قلوب من صلوا الجمعة، فينتفعون بذلك طيلة أسبوعهم بالمبادرة إلى الطاعة، والانتهاء عن المعصية؛ تعظيماً لله تعالى وإجلالاً وخوفاً ورجاءً، وعند النظر في السورتين نجد أنهما اشتركتا في هذا المعنى العظيم؛ ففي الأعلى تذكير بالخلق والقدر وإنبات الزرع (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) [الأعلى:1-5].
وفي الغاشية تذكير بآيات أخرى تدل على عظمة الله تعالى وقدرته (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية:17-20].
وأعظم معنى ينبغي أن يستقرَّ في القلوب فلا يفارقها، وأن يتذكره العباد فلا ينسونه ولا يغفلون عنه هو ربوبية الله تعالى وألوهيته، فشُرع التذكير به في كل جمعة بأنْ كان من السنن في صلاتها قراءة هاتين السورتين، فحري بمن أرعى سمعه لهما، ووعاهما قلبه، وتدبر في معانيهما أن ينتفع بذلك انتفاعاً عظيماً، فيزداد لله -تعالى- إجلالاً وتعظيماً.
هذا؛ ومعرفة عظمة الرب -جل جلاله- تقود إلى عبوديته، والإخلاص له، والتعلق به، والتوكل عليه، فيزداد إيمان العبد، ويواجه الحياة وشدتها وهمومها بقلب عامر بالإيمان، ثابت باليقين، قوي بالتوكل، لا تزعزعه الخطوب والمدلهمات.
والناس في الدنيا مؤمن وكافر.. برٌ وفاجر.. أصحاب جنة وأصحاب سعير، وكل واحد من الناس لا بد أن يكون من أحد الفريقين؛ إذ لا دار ثالثة في الآخرة لفريق ثالث، وإنما هما الجنة والنار، ولكل منهما أهلها، وهذا التقسيم الرباني للناس نجد التذكير به في السورتين جميعاً (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى) [الأعلى:10-11].
والمعرض عن دين الله تعالى، الشقي باتباع هواه في الدنيا متوعد بعذاب أكبر يوم القيامة حُكي في السورتين (وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) [الأعلى:11-13] وفي الغاشية (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ) [الغاشية:23-24] فكان الناس على فريقين: متذكر ومعرض.. قسم يخشى، وآخر يشقى، فيوجل قلب المؤمن أن يكون من أهل الشقوة، ويعمل بعمل أهل الخشية.
وإذا كانت سورة الأعلى قد ذُكر فيها وصف الفريقين في الدنيا بأن أحدهما أهله أهل خشية، والآخر أهله أهل شقوة، فإن في سورة الغاشية ذكر لمآل هذين الفريقين؛ إذ بدئت السورة بذكر يوم القيامة؛ لأن أثر هذه القسمة سيكون فيه (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية:7] فمن ذُكِّر بهذه الأوصاف يوم الجمعة اضطرب قلبه، واقشعر جلده، وخشي أن يسلك هذا المسلك الوبيء، وخاف أن يكون من هذا الفريق، وحاذر أن يعمل بعمل أهله؛ لعلمه أنه لا طاقة له بهذا العذاب الأليم.
وحين يسمع المصلي وصف أصحاب الفريق المؤمن، وما أعد الله تعالى لهم في الجنة من النعيم المقيم فإنه يطمع في أن يكون منهم، ويرجو أن ينتظم في سلكهم، فيسعى سعيهم، ويجانب ما يحجزه عنهم، ونجد هذه الأوصاف مفصلة في سورة الغاشية (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية:8-16].
والمؤمن حين هداه الله تعالى للدين القويم، ومنَّ عليه بالصراط المستقيم، وذاق حلاوة الإيمان التي لا تعدلها حلاوة مهما كانت فإنه يحب هذا الخير للناس أجمعين، ويرجوه لهم، ويدعوهم إليه، ويدلهم عليه، فكانت الدعوة إلى دين الله تعالى هي أهم المهمات بعد الإيمان والعمل الصالح، ونجد أن السورتين كلتيهما قد جاء فيهما الأمر بالدعوة، مع بيان أن الداعي عليه البلاغ، وليست له الهداية، بل الله تعالى يهدي من يشاء؛ حتى لا ييأس حين لا يستجيب له المدعوون، بل يمضي في الدعوة والبلاغ والتذكير؛ طاعة لله تعالى، ومحبة للناس، ولو لم يتبعه أحد، ونجد في سورة الأعلى قول الله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) [الأعلى:9] وفي سورة الغاشية (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) [الغاشية:21-22].
إن مصلي الجمعة حين يسمع كلام الله تعالى في كلا الركعتين يذكره بدعوة الخلق إلى الحق فحري به أن ينطلق من المسجد وقد امتلأ قلبه بحب الدعوة لدين الله تعالى، ومحبة الداعين إليه، وبغض الذين يصدون عن دينه، ويعادون أولياءه، ويعارضون أحكامه ، ويحادون شريعته، وينشرون الفساد في الأرض؛ لأنهم دعاة ضلال، يصدون عن الحق، ولا ينصحون للخلق، ولو زعموا أنهم مصلحون، فهي دعوى المنافقين من قبلهم ففضحهم الله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11-12].
ومن المعاني العظيمة التي اشتركت السورتان في تناولها زرع المراقبة في قلب العبد، فيجعل من نفسه رقيباً عليها؛ لعلمه أن الله تعالى رقيب عليه، لا يخفى عليه شيء من أقواله وأفعاله ولو أخفاه عن الخلق، وهذا المعنى العظيم جاء في قول الله تعالى في سورة الأعلى (إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) [الأعلى:7] وهو محاسب عليه كما أفادته سورة الغاشية (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [الغاشية:25-26].
نسال الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، وتدبر كتابه، والعمل به، وأن يكفينا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه سميع مجيب.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:48].
أيها المسلمون: إن الله تعالى لم يخلق خلقه عبثاً (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115] ولم يشرع شرائعه لتعذيب العباد بها، والمشقة عليهم فيها، كيف؟! وهو القائل -سبحانه-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78] وإنما شرع سبحانه الشرائع لمصالح العباد في الدنيا والآخرة؛ فلا سعادة لهم إلا بها، وإن الشقاء كل الشقاء في الحيدة عنها، أو الاعتراض عليها، أو إبدال غيرها بها.
ولنعلم جميعاً أن الله تعالى لا يشرع شيئاً إلا لحكمة سواء أدركها الناس أم لم يدركوها (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصِّلت:41-42] وما شرع سبحانه قراءة سور معينة في صلوات مخصوصة إلا لحكم عظيمة، يدركها من تدبر هذه السور وعرف معانيها، وأنار الله تعالى بصيرته، ورزقه الفقه في دينه.
افتتحت سورة الأعلى بتسبيح الله تعالى، وإثبات ربوبيته المستلزم لألوهيته، وذلك بذكر البداية والخلق والقدر، واختتمت سورة الغاشية بالنهاية والمئاب والجزاء والحساب، وبين البداية والنهاية في السورتين معان عظيمة، ومواعظ بليغة، وعلم نافع، وذكرى لمن أرخى لها سمعه، ووعاه قلبه، فأعطوا كتاب الله تعالى حقه من القراءة والفهم والتدبر؛ فإنه غياث القلوب وطمأنينتها، وفيه صلاح أحوال البشر في دنياهم وآخرتهم (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
وصلوا وسلموا على نبيكم...