الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | فيصل سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لكن الصحابة رضي الله عنهم انتصروا أيضًا بمبادرتهم بالنزول على حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وإن خالف ذلك هواهم وشهواتهم، فكانوا أنموذجًا للاستجابة المؤمنة، فما كانوا يترددون في قبول الأمر أو النهي ما دام أنه من رب العالمين، فهؤلاء نفر من الصحابة كانوا قبل أن يحرَّم الخمر، يشربونها ولا يطيقون عنها صبرًا ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله، فإن الله يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد: 28].
معاشر المسلمين: ذكرت في خطبة ماضية عددًا من أسباب نصر صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتلخص في إخلاص الوجهة إلى الله تعالى، واتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتطهير النفس وتزكيتها، والزهد في هذه الدنيا، وقطع حبال الجاهلية، والحرص على الوحدة وجمع الكلمة.
لكن الصحابة -رضي الله عنهم- انتصروا أيضًا بمبادرتهم بالنزول على حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وإن خالف ذلك هواهم وشهواتهم، فكانوا أنموذجًا للاستجابة المؤمنة، فما كانوا يترددون في قبول الأمر أو النهي ما دام أنه من رب العالمين، فهؤلاء نفر من الصحابة كانوا قبل أن يحرَّم الخمر، يشربونها ولا يطيقون عنها صبرًا، فلما نزل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90]، لما نزل القرآن بذلك تركوها، وأقلعوا عنها قائلين: قد انتهينا يا رب. رواه الترمذي وصححه.
ولما امتنع أبو بكر عن الإنفاق عن مسطح بسبب اتهامه ابنته الطاهرة عائشة -رضي الله عنها- بالزنا وحلف أن لا ينفعه بنافعة أبدًا، فأنزل الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، فسمعها أبو بكر قال: "بلى والله يا ربنا، إنا لنحب أن يُغفر لنا"، فعاد لما كان يصنع من النفقة والإحسان.
وما تتراجع الأنفس في طاعة الله تعالى إلا حين يقع التردد في اليقين بحصول وعده بنصر عباده، فيا لها من نفس غريبة الأطوار، تلك النفس التي تسمع كلام الله تعالى ثم تصر على معصيتها وطغيانها وكأنها لا تسمع: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء: 66].
وانتصر الصحابة -رضي الله عنهم- باتهامهم أنفسهم بالتقصير والشعور بعدم الزهو أو الافتخار، وهو منهج الرسل من قبل، فقد قال يوسف -عليه السلام-: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53].
وهو سبيل النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول لربه في دعاء سيد الاستغفار: "أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". رواه البخاري.
أما أبو بكر فإنه يدخل عليه عمر بن الخطاب مرّة فيراه يجبذ لسانه، فيقول له: "مه، غفر الله لك!! فيقول الصديق: إن هذا أوردني شر الموارد". رواه مالك.
ويدخل بعض أصحاب عمران بن حصين عليه -وكان قد ابتلي في جسده- فيقول له بعضهم: إنا لنبأس لك لما نرى فيك، قال: فلا تبتئس بما ترى، فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
وهذا عمر كانت رأسه في حجر ولده عبد الله بن عمر في مرض موته، يقول لابنه: "ضعه لا أم لك، ويلي، ويل أم عمر إن لم يغفر لي ربي". رواه ابن أبي شيبة.
ويصيب أبا الدرداء المرض، ويدخل عليه أصحابه ليعودوه ويقولون له: "أي شيء تشتكي؟! فيقول: ذنوبي، فيقولون: أي شيء تشتهي؟! فيقول: الجنة". رواه ابن أبي شيبة.
أيها الأحبة: إن العيش في أوهام الثقة بالنفس من دون عمل جاد يضمن النصر لهذه الأمة بإذن الله تعالى كل حسب علمه وتخصصه وقدرته، يجعل الأمة بأفرادها وجماعاتها تعيش في أحلام، وليس لها من واقع النصر شيئًا، ولذلك فإن اتهام النفس بالتقصير ومحاسبتها عليه أمر يضاعف الجهد، ويزيد من العزم، ويخرج لنا جيلاً عاملاً منتجًا، وخصوصًا أننا نعيش في أمن ورخاء، ووسائل العلم والهداية بأشكال وألوان، فما ينقص الإنسان إلا أن ينفض عنه غبار الكسل، ويرفع همة نفسه، ويشمر عن ساعد العمل.
وانتصر جيل الصحابة -رضي الله عنهم- حينما وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الله تعالى، حتى استشعروا قول الباري سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].
فترى أحدهم أبًا لكنه داعية، ومعلمًا لكنه داعية، وعسكريًا لكنه داعية، وطبيبًا لكنه داعية، ومعماريًا لكنه داعية، ومزارعًا لكنه داعية، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويرشدون الناس، وإنهم لخير مثال لقول الباري سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]، وأوضحوا هذا المنهج بكل جلاء لكل من وصلته رسالة الإسلام، كبارًا كانوا أو صغارًا، ورسمها ربعي بن عامر أمام رستم قائد جيوش الفرس حينما قال له: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
والسؤال: كم سنة أكرمك الله بتعلمها، فعلمتها غيرك، وكم شرّ عرفت حرمته، فحذرت منه غيرك من أحبابك من المسلمين بكل رفق وعظ حسن طيب، لتبدأ من بيتك من أقاربك، من حيك ومن مجتمع، وإن استطعت أن تنفع الأمة بأسرها بكل الوسائل المتاحة من صحف وإعلام وتأليف فلا تقصر في ذلك، فإن العمر قصير، وإن من دلّ على خير له مثل أجر فاعله.
وانتصر جيل الصحابة بالتكافل بينهم، ممتثلين المنهج الرباني: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، والمنهج النبوي: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". رواه البخاري.
فهذا أبو بكر الصديق يتزوج أسماء بنت عميس ليقوم على أمرها وأمر صغارها بعد مقتل زوجها، وهذا عبد الرحمن بن عوف يتزوج أم كلثوم بنت عقبة التي هاجرت من مكة وحدها سرًّا ليقوم على شأنها فلا تضيع، وهذا عثمان بن عفان يقول لعبد له: "إني كنت عركت أذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه ثم قال عثمان للعبد: اشدد، يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة"، وما أحداث الأخوة التي وقعت بين الصحابة عنكم ببعيد، فبمثل ذلك انتصر الصحابة، قد ابتعدوا عن الأنانية والأثرة، وتخلصوا من حب الذات، وسموا بالإيثار وكرم النفس والعدل والإنصاف.
اللهم اجعلنا ممن يسيرون على منهج الحبيب فيهتدون، ويتأسون بنوره فينتصرون، نستغفرك ونتوب إليك فإنك أنت التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
اللهم لك الحمد في السراء والضراء، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا أنت، وأشهد أن محمدًا عبدك ورسولك وخيرتك من خلقك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد توج صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتصارهم بالعلم النافع، فأمتنا أمة العلم ولا ريب، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1]، أول آية تتشنف بها أذن الحبيب -صلى الله عليه وسلم-؛ ليقول للأمة بعدها: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". رواه البخاري.
لقد أحب الصحابة -رضي الله عنهم- العلم، وكيف لا يحبونه وهم ينهلون من مشكاة النبوة الوضاء، فلم تشغلهم الصوارف والمشاغل عن مجالسة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا ما حضروا بين يديه كانوا كأن على رؤوسهم الطير خشية أن يفوتهم شيء من الهدي الشريف، ولا يمنعهم حياؤهم أن يسألوا عما يشكل عليهم.
حقًّا لقد شغفوا بالعلم، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- إن كان الحديث ليبلغني عن الرجل فآتي بابه وهو قائل -أي نائم- فأتوسد على بابه يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني، فيقول لي: يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟! فأقول: لا، فأنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث".
فهيهات لأمة أن تنتصر بالجهل والإدبار عن العلم، فالعلم ليس له عمر مخصوص، والعلم ليس له مكان محدود، غير أن الشباب فترته الفتية، فكم أعطى شبابنا اليوم من أوقاتهم للعلم، وكيف التفتوا وكيف نظروا إليه، ومن أين أخذوه!!
هكذا تجني بلادنا -حرسها الله- بعض مصائب الجهل من فئة من الشباب، الذين ما زال جهلهم يودي بهم في مهاوي الإفساد، ويقحمهم في ظلمات الضياع، حتى استشرى شرهم فاستباحوا دماءً بريئة، وأزهقوا أنفسًا مؤمنة، أوجعوا فيها بيوتًا كريمة، وآلموا بتصرفاتهم الرعناء قلوب المسلمين الغيورين.
يا للجهل المطبق، كيف يُفرحون اليهود والنصارى بزعزعة الأمن في بلاد الحرمين، وكيف يبهجون الحاسدين على النيل من استقرارنا، وكيف هان عليهم وطنٌ كم لفهم في حنان، وأعطاهم من غير مَنّ!! تبًا لهم لم يرعوا للنفس المؤمنة حرمة، ولا للبلد الأمين عظمة، غير أنه الجهل وحسبك به بلاءً وشقاءً وفتنة.
لقد آسفنا وأحزننا ما وقع أخيرًا في منطقة القصيم من أحداث دموية أليمة، في الوقت الذي يستقبل المسلمون أيامًا هي أيام السنة كلها وهي العشر الأُول من ذي الحجة، فقد قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". رواه البخاري.
فلنحرص كل الحرص على استغلال هذه الأيام الفاضلات، ومن كانت له نية أن يضحي، فعليه أن يتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا". رواه مسلم.
صلوا على القدوة العظمى، والأسوة الحسنة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم عليك بكل مفسد في الأرض، اللهم اكشف عوار المفسدين، وافضح مخططاتهم، ومكن المؤمنين الصادقين منهم، واحم البلاد من شرورهم، واجعلها في نحورهم، وتقبل شهداءنا عندك في عليين، وصبر أهليهم وذويهم، واخلف عليهم خيرًا.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم احفظ هذه الأرض من شر الأشرار، وكيد الفجار، اللهم من أرادها وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده تدميرًا له، اللهم رد كيده في نحره، واجعله عبرة لمن يعتبر، اللهم إنك أنت القوي فأمدنا بقوتك، وإنك أنت الحليم فأسبغ علينا حلمك، وإنك أنت الرحيم فأنزل علينا سكينتك، وإنك أنت الرزاق فامنن علينا بكريم رزقك، وإنك أنت العفو فاسترنا بعظيم عفوك.
اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، وأمدهم بمدد من عندك وجند من جندك، واحفظ ديارهم وأموالهم وأهليهم، ورد عنهم بقوتك وجبروتك، اللهم وفق أولياء أمورنا للعمل بما يرضيك، واجعلهم هداة مهتدين، سلمًا لأوليائك، حربًا على أعدائك، ووحد على الحق كلمتهم، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا ولجميع المسلمين، وصلوا وسلموا على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.