البحث

عبارات مقترحة:

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

السلام

كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

سورة يوسف

العربية

المؤلف مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. الأسلوب القصصي في القرآن الكريم وأهدافه .
  2. قصة يوسف عليه السلام .
  3. دروسٌ وعِبَرٌ مستفادةٌ من القصة .

اقتباس

أما القرآن الكريم وقصصه فهي قصص حقيقية من عند الله عز وجل، لا افتراء فيها ولا كذب، وقصة يوسف عليه السلام لها أهمية عظيمة، ولم يرد في القرآن سورة خاصة تتناول قصة واحدة إلا سورة يوسف عليه السلام، فهي قصة فريدة ومهمة، وكانت في سورة واحدة من أولها إلى أخرها ..

الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صَلِّ وسلِّم عليه وعلى أصحابه وأتباعه على الهدى إلى يوم الدين.

فيا عباد الله: سيكون موضوعنا لهذا اليوم عن سورة يوسف -عليه السلام-، وهي السورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها إحدى عشرة ومائة آية، وهي مكية.

وقد تحدثت عن قصة يوسف مع إخوته وأبيه، وما لقيه من إخوته، وما فيها من أحداث، كما قال الله -عز وجل- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف:3]، أي: نقُص عليكم يا محمد، والقصص أسلوب تربوي من أنجح الأساليب التربوية التي لها أكبر الأثر في حياة الناس، وهذا الأسلوب جاء في القرآن الكريم كثيراً.

والأسلوب القصصي يهدف إلى أمرين: العبرة وتثبيت الإيمان، ففي العبرة قال الله -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) [111]، أي: عِظَة ودرس علمي يستفيد الإنسان منه في حياته العامة؛ وعن تثبيت المؤمن على الإيمان، يقول الله -عز وجل-: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120].

وللقصص القرآني سمة أو ميزة تختلف عن جميع القصص، حيث إنه قصص حق وصدق، وليس من نسيج الخيال، وليس من وضع القُصَّاص، وليس من افتراءات الكتَبة، قال الله تعالى: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [يوسف:111]، أي: ليس بكذب، وإنما هي قصص واقعية.

هي قصصٌ ليست من نسج كاتب خيالي جلس على ماصته وبدأ ينسج من القصص الخيالية ما يبدو له ويخرجها للناس، ثم توضع في أفلام تمثيلية، وربما يرتكب فيها من الفجور ما الله به عليم، وتعرض على المشاهدين أو توضع قصصاً في كتب ليقرأها الناس أو ليسمعوها عن طريق الإذاعات أو غيرها.

فالقصص غير قصص القرآن غالبها قصص خيالية لا أساس لها من الصحة، وربما تؤدي بمن يشاهدها إلى الفجور والتخيلات والانحراف ومحاولة تطبيقها، وينتج عن ذلك الفساد والمعاصي، وقانا الله وإياكم منه.

أما القرآن الكريم وقصصه فهي قصص حقيقية من عند الله -عز وجل-، لا افتراء فيها ولا كذب، وقصة يوسف -عليه السلام- لها أهمية عظيمة، ولم يرد في القرآن سورة خاصة تتناول قصة واحدة إلا سورة يوسف -عليه السلام-، فهي قصة فريدة ومهمة، وكانت في سورة واحدة من أولها إلى أخرها.

وقد نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وقت حرِجٍ من تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ نزلت بعد وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحمي الدعوة ويذود عنها، وقبيل وفاة زوجته خديجة -رضي الله عنها- التي كانت تعينه على الدعوة إلى الله حتى وفاتها، حيث قالت له: والله لا يخزيك الله أبداً؛ وبعد موتها نال الكفار من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما لم ينالوا منه قبل وفاتهما، فنزلت لتثبت الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الدعوة.

فمن العبر التي وردت في سورة يوسف -عليه السلام- أنه فتح عينيه على الحياة فرأى أخوته من أبيه حوله يحسدونه على حب أبيه له، فهم لا يريدون أن يحبه أبوهم ولا أن يشاركهم في حب أبيهم، وعندما رأوا أن أباهم يحبه أكثر منهم لِما رآه فيه -عليه السلام- من سمات النبوة، ومن السمات الطيبة، بدؤوا يفكِّرون في الانتقام منه، فقرروا أن يقتلوه.

ولكن احدهم اقترح أن يكون قتله بطريقة غير مباشرة، وذلك بأن يلقوه في الجب، أي يرموه في البئر، يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [7-10].

ونفذوا ما أرادوا، وهو طفل صغير عمره عشر سنوات، ألقى في بئر مظلمة موحشة، ولكن لم يكن فيها ماء أو فيها ماءٌ قليل، وتصوروا من رماه في البئر؟! الذي رماه في البئر أقرب الناس إليه وهم أخوته؛ نتيجة للحسد! فتصوروا حال هذا الطفل المسكين يُرمَى في البئر، ويلقي أشد التعذيب ممن كان يتوقع منهم الحماية والدفاع عنه، فإذا بهم يكونون أشد أعدائه! يقول الشاعر:

وظُلمُ ذَوي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً علَى المـَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ الــمُهَنَّدِ

ومع هذا فقد ألقوه في البئر، وعادوا إلى أبيهم بعد أن أخذوا ثوبه (قميصه) ولطخوه بدم أرنب وقالوا: أكله الذئب! وعرف أبوهم النبي الكريم يعقوب -عليه السلام- أنهم كاذبون، لكنه قال: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [18]. ولذلك عندما يحلف الآن ببراءة شخص هو متأكد من براءته يُقال: والله إن فلاناً بريء من كذا براءة الذئب من دم يوسف -عليه السلام-!.

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوسف -عليه السلام- لأصحابه -رضوان الله عليهم-: "أتدرون مَن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال" "إنه يوسف، يوسف الكريم، ابن يعقوب الكريم، ابن إسحق الكريم، ابن إبراهيم الكريم"، نسَبٌ شريف، سلسلة من ذهب.

وبعد أن رماه إخوته وتولوا عنه، جاءت سيارة (أي قافلة) ورأوا البئر، فجاءوا ليتزودوا بالماء منها؛ فظهر عليهم يوسف حيث تعلق بالحبل وظهر عليهم ليستقبل المحنة الثانية، وهي محنة الرق، حيث قالوا: (يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) [19].

وذهبوا به إلى مصر، وباعوه بثمن بخس، أي قليل دراهم معدودة، فهذا النبي الحر الأبي يتحول إلى رقيق (عبد) يباع في السوق ويشترى ولا يملك لنفسه حولا ولا طولاً. وقال العلماء عن البئر أن فيها ماء قليلاً لا يُغْرِق، وإنما يكفي لسُقْيَا الناس.

ولكن؛ لماذا باعوه بهذا الثمن الزهيد؟ الجواب: لأنهم لم يتعبوا في تربيته، ولم يخسروا فيه شيئاً، ولأنه صغير لا يستطيع العمل، ولأنهم لا يدركون ماذا سيكون لهذا الطفل من شأن عظيم عند الله، حيث إنه نبي ابن نبي، وهذا ليس ظلماً من الله ليوسف -عليه السلام-، ولكنها تربية وامتحان من الله -عز وجل-.

أما الفتنة الثالثة التي كانت على يوسف فهي أشد من الفتنتين السابقتين، إنها فتنة المرأة على الرجل، وأول فتنة كانت في بني إسرائيل كانت في النساء، ويقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فهيا فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء".

ويتربى يوسف -عليه السلام- في بيت العبودية، ويكبر حتى يصير في عنفوان الشباب، وقد كان في قمة نضجه العقلي والجسمي والجنسي، وهو يعيش في قصور المــُلك والرفاهية، إلا أنه عبد مملوك، ومع ذلك يكبح نفسه ويستعلى بنفسه عن كل هذا العز الذي هو، فيه ثم تبرز له امرأة العزيز ملك مصر، وهذه المرأة كانت فاتنة في جمالها، متزينة، ثم تعرض له مفاتنها، ومع ذلك يُعرض عنها يوسف -عليه السلام-، ولا يأبه بها، ولا ينظر إليها.

وعندما عجزت عن ذلك غلَّقَتْ عليه الأبواب، ولم يقل الله -عز وجل- أغلقت، وذلك زيادة في الحرص منها، تريد منه أن يأمن ولا يخاف، وبعد ذلك دعته بصريح العبارة دون حياء، ومع ذلك أعرض عنها ولم يأبه بها، وقالت: هيت لك! أي: أقبِلْ وتَعالَ! ولكنه يأبى ويستعصم بالله -عز وجل-، ويرفض المراودة والإغراء والعرض، ولكنها تصر في عناد على أن يلبي أمرها، وهي سيدته وهو عبدها، ولكنه يثبت ويرفض هذا التهديد بعناد المؤمن، وكبرياء المؤمن، وهو يصر في عناد على أن لا يلتفت إليها.

بل يحاول أن يضربها، وهذا هو التفسير الصحيح لقول الله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) [24]، فهي همت أن تضربه حتى ينفذ مطلبها، إلا أنه يصر على عدم فعل ذلك، وعندما رأى إصرارها على ذلك همَّ أن يضربها ويمنعها بالقوة؛ وقد أخطأ بعض المفسرين وقالوا: إنه هَمَّ بها أي همَّ بفعل الفاحشة بها!.

وقول الله تعالى: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) [24]، فلم يضربها؛ لأنه لو ضربها لتأكدت التهمة عليه، فهو نبي آتاه الله الحكمة التي منعته عن فعل أي شيء بها من ضرب أو غيره، حيث قال (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ) [23]، أي: استعيذ بالله أن أعمل أي عمل سيء.

(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [24]، أي: المتقين، ففر منها، (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) [25]، أي: شقت ثوبه من الخلف، فوجدا سيدها -أي زوجها- عند الباب، فقلبت الحقيقة رأساً على العقب فـــ: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [25]، فحكمت عليه بالسجن مقدماً؛ (أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) قال العلماء: العذاب الأليم هو القتل؛ لأنه ضعيف عبد لا نصير له ولا معين من الناس.

إلا أن يوسف دافَع عن نفسه مباشرة فقال: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) [26]، فشهد طفل صغير ببراءة يوسف كان معهم، (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ) [26]، أي: ثوبه، شُقَّ من الخلف فصدق وهي من الكاذبين، وإن كان شُقَّ من الأمام فصدقت وهو من الكاذبين.

ورغم براءته من كل عيب، وإدراك العزيز أن زوجته كاذبة، فقد قال ليوسف: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [28]، أي: اسكت عليه ولا تُظْهِره لأحد، وقال لزوجته: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) [28]، العزيز يريد أن تهدأ الأمور، وحتى لا يشاع الخبر بأن امرأة عزيز مصر تراود الفتي عن نفسه، وحتى تموت القضية في مهدها.

وسمع الناس أن يوسف مبتلى، وبدأ بعض النساء يتكلمن في هذا الأمر؛ لأن هذا الأمر وإن خفي على الناس ما يخفي على بعض الناس، ما يخفي على بعض النساء، قال تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [30]، فانتشرت الإشاعة في أوساط النساء؛ لأن النساء أكثر إشاعة للفتنة والأخبار، لأنه لا شغل لهن إلا الكلام في الناس في أعراضهم: ماذا حدث؟ وماذا قالوا؟ وهكذا!.

ولهذا أكثر أهل النار من النساء؛ بسبب ألسنتهن بكثرة اللغو والإشاعات، وكثرة اللعن، وبما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من كفران العشير، أي جحدانه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اطَّلعتُ على النار فوجدت أكثر أهلها النساء"، قلن: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكفرن العشير، وتُكثرن اللعن"، أي جحود الزوج، فلو أحسن الرجل إلى زوجته دهراً ثم أساء إليها ساعة قالت: ما عرفت منك خيراً قط!.

وقد أوتي يوسف -عليه السلام- من الرجولة والجمال ما يبهر العقول، حتى قالت فيه النساء اللاتي اطلعن على الأمر: معذورة، قد شغفها حباً! وقد ورد في الحديث: "إن أهل الجنة يكونون في الجنة على حسن يوسف وجماله، وخُلُق محمد -صلى الله عليه وسلم-".

فلما سمعت بمكرهن والإشاعات عملت لهن خطة حتى يعذرنها، فأرسلت إليهن (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [31]، أي: مكاناً يُجلس فيه (وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) وجاءت لهن بصحون فيها فواكه، وعندما بدأن يقطعن في الفواكه (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي: بدل ما يقطعن الفواكه قطعن أيديهن، فانشغلن بجماله، (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [31-32].

وخرج يوسف يبتهل إلى الله، ويعتصم بالله، ويقول: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [33]، فأُدخِلَ السجن، والعبرة أن أي إنسان يُسْجَنُ بسبب ارتكابه جريمة، أما يوسف فقد سجن بسبب رفضه ارتكاب الجريمة، فسبحان الله العظيم! سُجن يوسف لطهارته وعفته، وحكم عليه بالسجن ظلماً.

والسجن هو الفتنة الرابعة ليوسف -عليه السلام-، حيث سجن مع المجرمين والقتَلة، ومع ذلك يصبر، وهذا من حكمة الله، ولم يؤثر عليه السجن؛ بل حول السجن إلى مدرسة إسلامية، حيث جلس مع السجناء يعلمهم ويؤثر فيهم ويدعوهم، ولا يتأثر بجرائمهم وانحرافاتهم؛ وذلك لأنه صاحب رسالة، فلا خاف على صاحب الرسالة أينما توجهه نفَع، فهو صاحب مبدأ، أخذ يدعوهم.

فكان معه في السجن سجينان رأى كل منهما رؤيا، فرَوَيا له رؤياهما؛ لما رأيا فيه من الصلاح، وعندما عبَّر لكل منهما رؤياه لم يقل هذا من علمي، وإنما قال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [37]، أي: علمني الله -عز وجل-، وهذا فيه إشارة إلى أنى أدعوكم لعبادة الله ليعلمكم مما علمني، ويقول: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [39].

فيوسف -عليه السلام- يشكر لله حتى وهو في السجن، فبدل أن يجزع ويشعر بالضيق كعادة السجناء يشكر الله لأن الله حفظه من الموت، وحفظه من الوقوع في جريمة الزنا، وهو يشكر الله على نعمة الإيمان بالله عليه وعلى آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب -عليهم السلام-.

ثم يذكر لهم أن عبادة الله وحده هي العبادة الصحيحة وليس عبادة أرباب متفرقين متشاكسين، وهكذا نجد يوسف يصبر على الأذى عكس ما نراه في كثير من الشباب الصالحين الذين ما إن يستقيموا حتى يعتزلوا الناس، ورسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم".

وقد فسر رؤيا أحدهم بأنه سيُصلب ويُقتل؛ لأنه رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، وأما الآخَر فإنه سيسلم وسيسقى ربه (أي الملك) خمراً، وأن الخمر وقتها شائع بين أولئك الناس، ويعيش في السجن حوالي عشر سنوات (والله أعلم) وهو لا ينتظر الإفراج عنه؛ لأنه مسجون رغماً عنه، وأنه ليس هناك من يطالب بإخراجه من السجن، ويقول للذي ظن أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك -أي عند سيدك- فأنساه الشيطان ذلك.

ويرى الملك رؤيا تقض مضجعه وتذهب النوم من عينيه، ويطلب من يفسرها فلا يجد أحداً، ويقولون له أضغاث أحلام؛ أما ذلك الرجل الذي كان في السجن مع يوسف فيتذكر بعد وقت طويل ويقول: أنا الذي سآتيكم بتفسيرها! لأنه سبق وأن فسَّر له يوسف رؤياه وصدق فيها، فهو الذي سيفسر هذه الرؤيا.

فذهب إلى يوسف، وفسَّر له تلك الرؤيا، وهو أنكم ستزرعون سبع سنين دأباً بكل جد، ويأتي بعد تلك السبع سنوات سبعُ سنواتٍ شدادٌ، أي قحط وعدم نزول للمطر، فيأكلن كل ما زرعتم خلال تلك السنوات السبع، فتصير أربع عشرة سنة، ثم سيأتي السنة الخامسة عشر عامٌ فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون، كما يقول: ما حصدتم من قمح أو ذرة أو غيرها من الحبوب فذروه في سنبله، أي دعوه في السنابل لا تخرجوه منها. قال المفسرون: لأن في السنابل مادة حافظة للحبوب من التلف والتسوس، وقد أثبت ذلك العلم الحديث، فسبحان الله العظيم!.

وعندما فسر لهم الرؤيا أمر الملك أن يُخرَج يوسف من السجن؛ لأنه أصبح بأشدِّ الحاجة إليه، فقال: ائتوني به أستخلصه لنفسي. فبدل أن يفرح يوسف بالإفراج عنه بعد هذا السجن الطويل يأبى إلا أن تثبت براءته أولا وتُعْلَن في الناس، ثم بعد ذلك يخرج من السجن، والملك يريد أن يخرجه من السجن ويكلفه بالوزارة!.

عند ذلك جمع النساء، وظهرت براءته من كل سوء، واعترفت امرأة العزيز بأنها هي التي راودته عن نفسه، وأن بريء من كل سوء، قالت: (الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) [51]، أي: ظهر، (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [51-53].

وبعد أن ثبتت براءته وأُعْلِنَتْ وافق على الخروج من السجن بكل عزة وإباء وشموخ، وينتقل يوسف -عليه السلام- من حياة السجون حياة الإهانة والذل والقهر والجوع إلى حياة الملك والعز والجاه، لينتقل إلى الفتنة الخامسة وهي فتنة المال والجاه، والملك والثراء، وماذا سيعمل بعد كل ما جرى؟ هل سيكون عبداً شكوراً؟ أم سيطغيه الملك؟.

وقد طلب من الملك أن يجعله أميناً على خزائن الأرض، أي منتوجها، وقال (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [55]، فوافق الملك على ذلك كيف لا يكون يوسف أميناً على المال على مال الدولة كلها وقد كان أمينا على عرض الملك فلم يخنه في بيته فكيف يخونه في المال؟

عباد الله: انظروا إلى أخلاق الشرفاء، والمصطفين الأخيار من عباد الله الصالحين من الصمود في وجه الفتن والتصدي لها، ومقاومة إغراءات المال، والنساء، والعز والجاه، وهو ما سنكمله في الخطبة الثانية إن شاء الله تعالى.

أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

عباد الله: بعد أن استعرضنا الفِتَن التي مَرَّ بها يوسف -عليه السلام- من طفولته مع إخوته وحسدهم له، والكيد له، وإلقائه في البئر، ثم فتنة الرق والعبودية، ثم فتنة النساء، ثم فتنة السجن، ثم فتنة المــُــلك والثراء التي بدأنا فيها، أذكركم بأن أباه يعقوب -عليه السلام- كان وقتها شيخاً كبيراً متهالكاً، صابراً طوال هذه السنين، محزوناً يبكي على ابنه الذي غدر به إخوته، ولا يعرف كيف مصيره، إلا أن ابنه قد ذكر له رؤيا قبل غدر إخوته به جعلت أباه -وهو نبي- يوقن بأن يوسف عائد إليه، وأنه سيلتقي به يوما من الأيام وتتحقق تلك الرؤيا.

قال الله تعالى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [4]، فعرف أبوه تفسير الرؤيا لذلك الطفل الصغير، فقال له خوفاً عليه: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) [5]، وأكَّدَ له هنا على أنه سيكون كيداً شديداً كثيراً: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [5].

وهكذا تمر السنوات، وتشتد الحاجة بالناس، ويأتي إخوة يوسف أولئك الذين رموه في البئر ليتزودوا من الأطعمة لأهلهم، فعرفهم يوسف دون أن يعرفوه، ويعطيهم ما يريدون، إلا أنه يشترط عليهم أنه لن يكيل لهم مرة أخرى حتى يأتوه بأخ لهم من أبيهم، وهو بنيامين، هو من أم يوسف، أي شقيقه.

فيعودون إلى أبيهم وأهلهم فيخبرونهم بذلك، ومع ذلك لا يوافق أبوهم في أن يرسله معهم إلا بكل صعوبة، وبعد أن أعطوه العهود والمواثيق أنهم لن يفرطوا فيه كما فرطوا في يوسف من قبل، ولأنهم كثرة فقد أمرهم أن لا يدخلوا من باب واحد، وإنما أن يدخلوا من أبواب متفرقة عندما يصلون إلى مصر، قال العلماء: إنه في ذلك يخاف عليهم من العَيْن.

وعندما وصلوا (آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) [69] وشقيقَه، وعرَّفَه بنفسه دون أن يعرفه البقية، ودبر حيلة من أجل استبقائه عنده، حيث وضع المكيال في رحل أخيه، وبعد أن هموا بالعودة إلى أهلهم نادى المنادي بأننا نفقد صواع الملك، وأن هذه القافلة هم الذين سرقوه، فحاولوا أن يثبتوا براءتهم، فقالوا لهم: ما جزاؤه؟ فأجابوهم بأن الذي يوجد في رحله هو الذي يؤخذ، ففتش يوسف أمتعتهم قبل متاع أخيه، ثم وجدها عنده فأخذه. وحاولوا أن يستبدلوه بأحدهم، ولكن دون جدوى.

ثم عندما لم تنجح محاولاتهم عادوا إلى أبيهم إلا كبيرهم، قال: لن أبرح الأرض إلا بأخي، أو يأذن لي أبي في العودة، أو يحكم الله لي. ويزداد حزن يعقوب -عليه السلام-، فبعد أن كان يفتقد واحداً صار يفتقد اثنين، ومع ذلك يصير ويبكي حتى ابيضت عيناه من الحزن.

ويعودون مرة أخرى إلى الملك، ويقولون: لقد مسنا وأهلنا الضر، فيقول: ماذا عملتم بيوسف وأخيه وأنتم صغار؟ وعند ذلك عرفوا أن ذلك الذي أمامهم أمين الأرض والحفيظ على خزائن الأرض والمسؤول عن كل شيء، والأمين على كل شيء، إنه يوسف! وسألوه: إنك لأنت يوسف؟ قال نعم، وهذا أخي، فحلفوا له بالله أن الله قد آثره وأعطاه كل هذا العز رغم كل حسد منهم؛ ومع ذلك عفا عنهم، وأعطاهم قميصه ليذهبوا به إلى أبيهم .

فلما وجد يعقوب رائحة ابنه من بُعد، ووُضع القميص على وجهه ارتد بصيراً بعد أن كان قد فقد بصره من كثرة البكاء وشدة الحزن على يوسف، ثم أخذوا والدهم وأهلهم إلى مصر لتتحقق تلك الرؤيا التي رآها يوسف وهو صغير، فالشمس أمه، والقمر أبوه، والكواكب الأحد عشر إخوته، فالله أكبر! تتحقق هذه الرؤيا بعد أربعين سنة، حسب ما يقول المفسرون! فبين فراق يوسف وأبيه أربعين سنة.

ولم يتغطرس يوسف في هذه الفتنة -فتنة العز-، ولم تزده إلا تواضعاً، ويحمد الله ويشكره أن جمعه بأبيه وحقق رؤياه، ومع أن إخوته أساءوا إليه فلم يقل ذلك، وإنما قال :(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [100].

علماً بأنه لم يحدث منه أي خطأ وإنما هم الذين كادوا له، وإنما قال ذلك احتراما لهم وتقديراً، لذا أشرك نفسه معهم، فيشكر الله على أن أخرجه من السجن، ولم يذكر البئر، علماً بأن خروجه من البئر أعظم نعمة من خروجه من السجن، وذلك حتى لا يذكِّر إخوته بها، فتجاهلها كرماً مع إخوته.

وبعد أن أقام العدل في الأرض، وصبر على كل هذه الفتن، يدعو يوسف -عليه السلام- الله أن يتوفاه مسلماً على دين الله، ويطلب من الله أن يلحقه بالصالحين، ولم يقل أنا من الصالحين! وإنما طلب من الله أن يُلحقه بالصالحين.

عباد الله: دينكم الإسلام دين قديم، أقدم من أي دين آخر، هو دين كل الرسل والأنبياء وإنما جاءت هذه التسميات النصرانية واليهودية بعد أن شقوا واختاروا لأنفسهم طريقاً مخالفاً للإسلام، دين الرسل.

وبعد: ما هو الهدف من هذه السورة؟ الهدف منها -كما ذكرنا في أول الخطبة- تصبير الرسول وتثبيته، وأخذ العبرة من حال يوسف، وتذكير نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث يأمر الله نبينا محمداً -عليه الصلاة والسلام- بأن يقول: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [108].

فسبيل محمد -صلى الله عليه وسلم- هو سبيل يوسف -عليه السلام-، والرسل -عليهم جميعاً الصلاة والسلام-، والصبر في الضراء والسراء، والصبر على الدعوة إلى الله، وهذه هي سبيل كل داعية، الصبر، والدعوة إلى الله على بصيرة، إلى أن تقوم الساعة، ورفض الإشراك بالله بأي صورة كانت، والصبر على الفتن، والإيقان بنصر الله.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: الطريق طويل شديد، والطريق صعب، ناح فيه نوح، وألقي فيه في النار إبراهيم -عليه السلام-، وذبح فيه الذبيح، وضُج في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقذف فيه بالسجن يوسف -عليه السلام-، فلنصبر يا عباد الله، ولنأخذ العبر.

ونسأل الله الثبات على دين الله، واعذروني في الإطالة، مع أني لم أوف الموضوع حقه، ومن أراد الاستزادة فليقرأ القرآن الكريم، ويقرأ التفاسير؛ حتى يعرف عظم القصص في القرآن الكريم.

نفعنا الله بهذه السورة الكريمة وبكل سور القرآن، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصلوا وسلموا عباد الله على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.