البحث

عبارات مقترحة:

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

سورة يس

العربية

المؤلف مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. تعريف بسورة يس .
  2. تسميتها .
  3. فضلها .
  4. الإيمان بالبعث والنشور .
  5. قصة أهل القرية .
  6. الأدلة والبراهين على وحدانية الله تعالى .

اقتباس

وحديثنا اليوم عن سورة يس، وهي السورة السادسة والثلاثون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ثلاث وثمانون آية، وهي مكية، وقد تناولت مواضيعَ أساسيةً ثلاثة هي: الإيمان بالبعث والنشور، وقصة أهل القرية، والأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين ..

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وتعاهُد كتاب الله القرآن الكريم بالقراءة والدراسة والفهم والتدبر والعمل.

وحديثنا اليوم عن سورة يس، وهي السورة السادسة والثلاثون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ثلاث وثمانون آية، وهي مكية، وقد تناولت مواضيعَ أساسيةً ثلاثة هي: الإيمان بالبعث والنشور، وقصة أهل القرية، والأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين.

وسميت السورة (سورة يس) بهذا الاسم لأن الله تعالى افتتح السورة الكريمة بهذه العبارة، وفي الافتتاح بها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم.

وفي فضلها قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يس، وددت أنها في قلب كل إنسان" أخرجه البزار والترمذي وغيرهما من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

كما روي بإسناد جيد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة".

وأخرج أحمد وغيره، عن معقل بن يسار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يس قلب القرآن، لا يقرؤها عبد يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه، فاقرؤوها على موتاكم".

وأخرج الدارمي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من قرأ يس حين يصبح أعطى يسر يومه حتى يمسي، ومن قرأها في صدر ليلته أعطى يسر ليلته حتى يصبح".

أيها المسلمون: هذه الأحاديث تدل على فضل سورة يس، فلنحرص على قراءتها وحفظها كسائر سور القرآن الكريم، وقد يكون في بعضها ضعف، ولكنها من باب الترغيب.

عباد الله: ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن العظيم على صحة الوحي، وصدق رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، (يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ) [يس:1-2]، قيل في تفسير (يس): إنه من الحروف المقطعة في أوائل بعض السور الكريمة للتنبيه على إعجاز القرآن.

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يس: يا إنسان في لغة طي. وقيل هو اسم من أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- ،بدليل قوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [3]، أي: ممن اختصهم الله سبحانه بالرسالة والنبوة.

(وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ) [2]، أي: المحكم الذي لا يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا يعتريه تناقض أو بطلان، فالقرآن معجز في نظمه، وبديع في معانيه، متقن في تشريعه وأحكامه، بلغ أعلى طبقات البلاغة، أقسم به الله على أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول، وفي هذا القسم من التعظيم والتفخيم لشأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما فيه.

(عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [4]، أي: على طريق ونهج مستقيم لا انحراف فيه ولا اعوجاج، هو الإسلام دين الرسل قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين جاءوا بالتوحيد والإيمان.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [5]، أي: هذا القرآن الهادي المنير تنزيل من رب العزة -جل وعلا-، ثم بيَّن الله سبحانه الهدف من إنزال القرآن على محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلونَ) [6].

(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ)، أي: لتنذر يا محمد بهذا القرآن العرب، الذين ما جاءهم رسول ولا كتاب؛ لتطاول زمن الفترة عليهم، والمراد بالإنذار تخويفهم من عذاب الله.

(فَهُمْ غَافِلُونَ) [6]، أي: بسبب أنهم غافلون عن الهدى والإيمان، يتخبطون في ظلمات الشرك وعبادة الأوثان.

ثم بين سبحانه استحقاقهم للعذاب بإصرارهم على الكفر والتكذيب فقال: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [7]، أي: بما جئتهم به يا محمد.

ثم بين الله تعالى سبب تركهم للإيمان فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) [8]، أي: إنا جعلنا هؤلاء المحكوم عليهم بالشقاء كمَن جُعل في عنقه غل وجُمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه فارتفع رأسه فصار مقحماً، والمقمح الرافع الرأس. واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين لأن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق.

(وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا)، أي: جعلنا من أمامهم سداً عظيماً، ومن ورائهم سداً كذلك، (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [9]، أي: فغطينا بهما أبصارهم، فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئاً؛ لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين.

قال المفسرون: وهذا كله تمثيل لسد طرق الإيمان عليهم بمن سُدَّت عليه الطرق، فهو لا يهتدي إلى المقصود.

(وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [10]، أي: يستوي عندهم إنذارك يا محمد وتخويفك لهم وعدمه؛ لأنَّ مَن خيَّم على عقله ظلام الضلال، وعشعشت في قلبه شهوات الطغيان، لا تنفعه القوارع والزواجر، فهم بسبب ذلك لا يؤمنون؛ لأن الإنذار لا يحيي القلوب الميتة، وإنما يوقظ القلب الحي المستعد لتلقي الإيمان، وهذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكشف لحقيقة ما انطوت عليه قلوبهم من الطغيان.

(إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [11]، أي: إنما إنذارك يا محمد مَن آمن بالقرآن، وعمل بما فيه، وخاف الله دون أن يراه، فبَشِّرْهُ يا محمد بمغفرة عظيمة من الله لذنوبه، وأجر كريم واسع في الآخرة في جنات النعيم.

ثم ذكر الله سبحانه أمر البعث والنشور فقال: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى)، أي: نبعثهم من قبورهم بعد موتهم للحساب والجزاء، (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ)، أي: ونكتب ما قدموا في الدنيا من خير وشر، وآثار خطاهم بأرجلهم إلى المساجد.

وفي الحديث عن جابر -رضي الله عنه- قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد -والبقاع خالية-، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا بني سلمة، ديارَكُم! تكتب آثاركم، ديارَكم! تكتب آثاركم". فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا. أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما.

قال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [12]، أي: كل أمر من الأمور جمعناه وضبطناه في كتاب مسطور هو صحائف الأعمال.

ثم بين سبحانه للمشركين قصة أهل القرية الذي كذبوا الرسل فأهلكهم الله بصيحة من السماء؛ لإنذاره كفار مكة أن يحل بهم ما حل بأهل تلك القرية حين أرسل الله سبحانه الرسل لهدايتهم ودعوتهم إلى عبادة الله.

أرسل الله لهم ثلاثة رسل، وهم: صادق ومصدوق وشمعون، أرسل الله لهم في البداية اثنين فبادروهما بالتكذيب، فقوَّاهما الله برسول ثالث، فقالوا لهم: إنا مرسلون لهدايتكم، فقال لهم الكفار: ليس لكم فضل علينا، وما أنتم إلا بشر مثلنا، فكيف أوحى الله إليكم دوننا؟ وإن الله لم ينزل شيئاً من الوحي والرسالة، وما أنتم إلا قوم تكذبون في دعوى الرسالة.

فأجابهم الرسل بقولهم: الله يعلم أننا رسله إليكم ولو كنا كذبة لأنتقم منا أشد الانتقام وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغاً واضحاً لا غموض فيه، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الميت، ثم قال: أهل القرية للرسل: إنا تشاءمنا بكم وبدعوتكم القبيحة لنا، إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان.

قال المفسرون: ووجه تشاؤمهم بالرسل أنهم دعوهم إلى دين غير ما يدينون به، فاستغربوه واستقبحوه، ونفرت عنه طبيعتهم المعوجة، وتوعدوا الرسل بقولهم: والله لئن لم تمتنعوا عن قولكم لنَرْجُمَنَّكُم بالحجارة حتى تموتوا، وَلَنَقْتَلُنَّكُم شَرَّ قِتْلَة!.

قالت الرسل لهم: ليس شؤمكم بسببنا، وإنما شؤمكم بسببكم وبكفركم وعصيانكم وسوء أعمالكم، أَئِن وعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله تشاءمتم بنا، وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والإجرام.

ثم جاء من أبعد أطراف المدينة رجل يدعو ويسرع في مشيه هو "حبيب النجَّار"، قال ابن كثير -رحمه الله-: إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم، فجاءهم حبيب النجار، وكان يعمل الحرير، وهو الحباك، وكان كثير الصدقة، يتصدق بنصف كسبه.

وروى غير هذا، فقال حبيب: يا قوم! اتبعوا الرسل الكرام الداعين إلى توحيد الله، وهم لا يسألونكم أجرة على الإيمان، وهم على هدى وبصيرة فيما يدعونكم إليه، وتلطف في إرشادهم، كأنما ينصح نفسه.

وقال: أي شيء يمنعني من أن أعبد خالقي الذي أبدع خلقي؟ وإليه مرجعكم بعد الموت فيجازي كلا بعمله؟ وأنكر عليهم أن يتخذوا من دون الله آلهة لا تنفع ولا تضر، هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئا من الضر والأذى وشُفِّعَتْ لي لم تنفع شفاعتهم، ولم يقدروا على إنقاذي، فكيف وهي حجارة لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع؟ ولا تنقذني من عذاب الله؟ إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لَفِي خسران ظاهر جلي.

وبعد النصح والتذكير أعلن إسلامه، وأشهر إيمانه، فقال: إني آمنتُ بربكم فاسمعوا إلى قولي، وخذوا بنصيحتي.

قال المفسرون: لما قال لهم ذلك ونصحهم وأعلن إيمانه وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه أذاهم، فلما مات قال الله له: ادخل الجنة مع الشهداء والأبرار جزاء صدق إيمانك وفوزك بالشهادة، فدخلها، فهو يرزق فيها.

ولما دخل الجنة وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله ليعلموا حسن مآله، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: نصح قومه في حياته، ونصحهم بعد مماته، أي: يا ليت قومي يعلمون السبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي وأكرمني بجنات النعيم.

بعد ذلك قال الله سبحانه: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) [29]، أي: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة صاح بها جبريل فإذا هم ميتون لا حراك بهم، وقد أخمدت أنفاسهم حتى صاروا كالنار الخامدة.

قال المفسرون: وفي الآية استحقار لإهلاكهم؛ فإنهم أذل وأهون على الله من أن يرسل الملائكة لإهلاكهم، وقد روي أنه لما قُتِل حبيب النجار غضب الله تعالى له فجعل لهم النقمة، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم، فجعل طريق استئصالهم بالصيحة.

ثم قال الله تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [30]، أي: يا أسفاً على هؤلاء المكذبين لرسل الله، المنكرين لآياته! ويا حسرة عليهم! ما جاءهم رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به. وهكذا عادة المجرمين في كل زمان ومكان.

عباد الله: هذا بيان لمعاني الثلث الأول من السورة تقريباً ولم نوفه حقه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [31-32].

فأسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن ينفعنا بهدي كتابه الكريم، إنه سميع مجيب، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: إذا أردنا أن نستكمل بيان وإيضاح معاني سورة يس فلابد لنا من أكثر من خطبة، ولكن سأوضح معاني ما تبقى منها إجمالاً، وآمل من كل منكم أن يكون لديه كتاب تفسير فيقرأ معانيها العظيمة.

وأقول فيما تبقي من السورة الكريمة أنها تحدثت عن دلائل قدرة الله ووحدانيته في هذا الكون العجيب، بدءاً من مشهد الأرض الجرداء الميتة تدب فيها الحياة بعد إنزال المطر، ثم مشهد الليل ينسلخ عنه النهار فإذا هو ظلام دامس، ثم مشهد الشمس الساطعة تدور بقدرة الله في فلك لا تتخطاه، ثم مشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كعذق النخل المقوس اليابس، ثم مشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين، وكلها دلائل باهرة على قدرة الله -جل وعلا-.

وتحدثت عن القيامة وأهوالها، وعن نفخة البعث والنشور التي يقوم الناس فيها من القبور، وعن أهل الجنة وأهل النار، والتفريق بين المؤمنين والمجرمين في ذلك اليوم الرهيب؛ حتى يستقر السعداء في روضات النعيم، والأشقياء في دركات الجحيم.

ثم تحدثت عما خلق الله للعباد من أجل معاشهم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، يتصرفون فيها كيف شاؤوا، وهي مُذَلَّلَةٌ لهم، لا تمتنع منهم، بل لو جاء بعير كبير لأناخه طفل صغير، ومن هذه الأنعام ما يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال، كالإبل، ومنها ما يأكلون لحمه كالإبل والبقر والغنم، ولها منافع عديدة كالانتفاع بالجلود والأصواف والأوبار، ويشربون من ألبانها، مما يستوجب عليهم شكر هذه النعم الجليلة.

ثم وبخهم سبحانه بعبادة غيره معه ممن لا يستطيع نصرهم ولا نفعهم، وأن هذا لا يستدعي الحزن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فالله يعلم ما يخفون في صدورهم، وما يُظْهِرُون من أقوالهم وأفعالهم.

ثم أقام الله الدليل القاطع، والبرهان الساطع على البعث والنشور، وذلك بذكر قدرته في خلق الإنسان من نطفة، وهو المني الحقير الخارج من مخرج النجاسة، فإذا هو شديد الخصومة والجدال، يخاصم ربه، وينكر قدرته، ويضرب مثلاً في ذلك بالعظم الرميم، منكراً ومستبعداً أن تعود إليه الحياة.

فأمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول له: يخلقها ويحييها الذي أوجدها من العدم، وأبدع خلقها أول مرة من غير شيء، فالذي قدر على البداءة قادر على الإعادة، الله الذي جعل بقدرته من الشجر الأخضر ناراً تحرق الشجر فإذا أنتم تقدحون النار من هذا الشجر الأخضر الذي لا يصعب عليه شيء، وإنما إذا أراد شيئاً فـ (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [83]؛ لأن أمره بين الكاف والنون، فمتى أراد الله تعالى شيئاً وُجِد بدون تعب ولا جهد ولا كلفة ولا عناء.

وتختتم السورة بقوله تعالى (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [83]، أي: تنزه وتمجد الله عز وجل عن صفات النقص، الإله العظيم الذي بيده الملك الواسع، والقدرة التامة، وإليه وحده مرجع الخلائق للحساب والجزاء.

وختم الله تعالى السورة الكريمة بهذا الختم الرائع الدال على كمال قدرته، وعظم ملكه وسلطانه الذي تفرد به خالق الأكوان، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

عباد الله: أسأل الله أن أكون أوضحت عن هذه السورة بعضاً من معانيها، وأن ينفعنا بها وبكل سور القرآن الكريم، وأوصيكم ونفسي بالحرص على قراءة هذه السورة لفضلها، فهي قلب القرآن، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ألا وإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

وصَلُّوا وسلِّموا عباد الله على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.