البحث

عبارات مقترحة:

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

خطبة الوداع والعيد

العربية

المؤلف منديل بن محمد آل قناعي الفقيه
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية - الحج
عناصر الخطبة
  1. تخلف المسلمين دافعٌ للتأمُّلِ في تأريخِهم .
  2. خطبة الوداع: نصُّها، وزمانُها، ومكانُها، وأهميتها .
  3. تحليل للخطبة وتأملات فيها وفي معانيها .
  4. أعمال العَشْرِ وفضلها ومشابهة الحجاج فيها .
  5. تأمُّلات في معاني العيد ومظاهره وأعماله .

اقتباس

ما أجدرهم، وقد فرقتهم الدنيا وتقاطعوا وهم إخوان، أن تثور في نفوسهم الأبيَّة دعوة التوحيد وأخوَّة الإيمان؛ ليتراحموا ويتواصلوا فيما بينهم، ويكونوا كالجسد الواحد ضد أعدائهم الذين تفرَّق شملهم إلا على المسلمين! وليتذكروا بذلك أوطانًا لهم مسلوبة، وحقوقًا لهم مغصوبة، ودماءً لهم مسفوحة، وأعراضًا لهم منتهكة في شتى بلادٍ منكوبة من العالم ..

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، وجعل لكل شيء قدراً، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه واستغفره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملِك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خَلقه أجمعين، بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وبلَّغَ البلاغ المبين، صلوات الله والسلام عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

اتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام العروة الوثقى، واحذروا المعاصي والذنوب فإن أجسادكم على النار لا تقوى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

إن المتأمل في تاريخ المسلمين منذ قيام دولة الإسلام، وإرساء تعاليم الملة السمحة على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحوالِهم في العصور المتأخرة، يصاب بالدهشة والذهول، ويرجع على نفسه بالحسرة!.

فبينما كان المسلمون فيما مضى أمةً ظاهرة، وقوةً قاهرة، حكمت الشرق والغرب والشمال والجنوب، وإذ بأحوالهم في عصورهم المتأخرة في حالة مخزية من الضعف والجبن والخور، وتحكَّمَ بهم الأعداء في شتى المجالات؛ لما تخلَّف المسلمون عن أمر الله ورسوله تفرقوا شيعًا وأحزابًا، وسلط الله عليهم الأعداء فأخذوا أوطانهم، وسلبوا أموالهم، وانتهكوا أعراضهم.

أيها المسلمون: ما أحوج المسلمين في أيام مِحَنِهم وشدائدهم، وهم تعصف بهم النكبات ويتحكم فيهم اليهود والنصارى، إلى دروسٍ وعظات من تاريخهم الأصيل! يتأملون من خلالها سمات النصر والهزيمة، وعوامل الضعف والقوة.

ما أحوجهم إلى وقَفاتِ اعتبار عند مناسباتهم، يستعيدون فيها كرامتهم، ويقفون في وجه كل منافق خبيث، أو عدوٍّ عنيد، يخطِّط للقضاء على كيانهم!.

ما أجدرهم، وقد فرقتهم الدنيا وتقاطعوا وهم إخوان، أن تثور في نفوسهم الأبيَّة دعوة التوحيد وأخوَّة الإيمان؛ ليتراحموا ويتواصلوا فيما بينهم، ويكونوا كالجسد الواحد ضد أعدائهم الذين تفرَّق شملهم إلا على المسلمين! وليتذكروا بذلك أوطانًا لهم مسلوبة، وحقوقًا لهم مغصوبة، ودماءً لهم مسفوحة، وأعراضًا لهم منتهكة في شتى بلادٍ منكوبة من العالم.

أيها المسلمون: من المواقف البارزة في تاريخ المسلمين خطبةُ الوداع، تلك الخطبة العظيمة التي وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أمته في العام العاشر من هجرته، وجهها وهو يودع الأمة، ويرسي قواعد الملة، ويهدم مبادئ الجاهلية، بعد أن كمُل الدين، وتمَّت النعمة، ورضي الله الإسلام للأمة دينًا، فلا يَقبل من أحدٍ ديناً سواه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].

تلك الخطبة العظيمة التي وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون بالدموع، والتي قال فيها -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا.


أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ.


وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ. فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ! فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.


وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ
؟" قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

أيها المسلمون: هذه هي الخطبة التي خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في حجة الوداع كما رواها مسلم عن جابر -رضي الله عنه-, لقد كانت خطبة عظيمة وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم المعاد.

كانت خطبة عظيمة حَوَت كل تعاليم الإسلام ومبادئه ومقاصده في كلمات جامعة وهو يودع الناس بقوله: "خذوا عني مناسككم؛ لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".

واستشهد أصحابَه على البلاغ، فشهدوا بذلك، ونحن نشهد كما شهدوا: لقد بلَّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدَّى ونصح؛ فجزاه الله عنا كل خير.

لقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ دينَ الإسلام هو دين التوحيد والعقيدة، وما الحج في الإسلام إلا أمارة وحكمة تدعو إلى التوحيد لله في أسمى صوره وأجَلِّ معانيه، فاجتماع الناس كلهم، مع اختلاف أجناسهم وتباين ألوانهم ولغاتهم، يغرس في نفوسهم أنهم عبيد لإله واحد، لا ينظر إلى الصور والأجناس، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" مسلم. فالجميع عبيدٌ لإله واحد، يتوجَّهون إليه بالعبادة، أكرمهم عنده اتقاهم.

لقد قرَّرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في خطبته الحرُمات، والتي يعتبر صوْنها -بحقٍّ- حلم البشرية على مدار التاريخ من أجل الوصول إلى حياةٍ آمِنةٍ سعيدةٍ، ينعَمُ فيها المرءُ بالطمأنينةِ والأمانِ والرخاءِ والهناءِ.

مَنْ مِن الناس يهنأ له عيش ويقرُّ له قرار إلا إذا كان أمِنِ على روحه وبدَنه ومالِه وعِرْضِه، لا يخشى الاعتداء عليها؟! ولهذا كان القصاص: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179].

في القصاص حياة حين يرتدع كل من يهم بالجريمة عن الإجرام، وتشفي صدور أولياء المقتول من الثأر الذي لا تقف معه الدماء عن السيلان؛ فَحِفْظُ النفوس وصيانةُ الدماء والأموال والأعراض قضيةٌ من قضايا الإسلام الكلية، ومقاصدِه الضروريةِ، فكلُ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه؛ وقد عجزت الأمم المعاصرة -رغم تقدُّمها وتطوُّر وسائلها- أن توقف الجريمة وإزهاق النفوس حين ألغت حد القصاص.

لقد قرر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خطبته حرمةَ الأموال التي يكدحُ المرءُ بجمعها، ليستمتعَ بالحلال من الطيبات والرزق، ويصونَ نفسه ومن يعول عن مذلَّة السؤال؛ وصيانةً لحرمة المال قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38].

لقد قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- حرمة الأعراض التي ينشأ في ظلها النسل الطاهر النظيف؛ ليكون دعامةً صالحةً في مجتمعٍ صالحٍ، وصيانةً للأعراض قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور:2]، وذلك لغير المحصن، وأما المحصن، وهو المتزوِّج، فجعل عقوبته الرجم حتى الموت؛ ففي المنسوخ لفظاً، الباقي حكماً: "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ".

وأكَّد -صلى الله عليه وسلم- في خطبته على تحريمِ صورٍ من المعاملاتِ الجاهليةِ، وأهمها الربا الذي هو أسوأ ما تعاملت به الإنسانية في شؤونها المالية، فكم خرَّب من بيوت عامرة! وكم دمَّر من قرى قائمة! وكم جلب من مِحَنٍ وبلايا!.

لقد أبطل ربا الجاهلية الذي يقوم على أساس الحصول على المال بأي وسيلة حتى ولو كان فيها سحق البشرية لمصلحة المرابي؛ ومن أجل ذلك فقد أعلن الله حربه على المرابين الذين يصرون على أكل الربا فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278-279].

وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطورة التعامل بالربا، وأنه من الذنوب التي لا يستطيع من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان استحلالها؛ فعن أنس قال: "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية" صححه الألباني.

هذا الذنب العظيم في حقِّ مَن أكَلَ دِرْهَمًا واحدًا، فكيف بمن يأكل الملايين أخذًا أو عطاءً أو كتابةً أو رصدًا أو حراسةً؟! كل هؤلاء سَواء، عليهم كِفْلٌ ونصيبٌ من الذنب، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء"، وعند مسلم، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه".

يا لها من جريمة عظيمة فظيعة تصك الآذان، وتقشعر منها الجلود والأبدان! هذا في حق من تعامل بأيسر أنواع الربا؛ فكيف بمن تعامل بها كلها أيها المسلمون؟ أيرضى أحدنا أن ينكح أمه؟!.

والجواب: كلنا لا يرضى، فلماذا نرضى بالربا ونتعامل مع المرابين، ونساهم في البنوك الربوية، ونودع فيها أموالنا، ونأخذ عليها فوائد؟ وهي ربا، علمًا أنه أشد جرمًا وأفظع خطرًا من أن ينكح أحدنا أمه!.

بل بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أكل الربا سبب لحلول العذاب والدمار؛ فعند الحاكم -وحسَّنه الألباني- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله".

ولعَن رسول الله آكل الربا وموكِلَهُ وكاتبه وشاهدَيْه، فاتقوا الله يا من أكلتم الربا! احذروا من المصير السيئ الذي ينتظر المرابين! كما أخبر الله عنه فقال: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة:275]؛ أي: إنه يقوم كالمصروع؛ كلما قام وقع، وقد انتفخ بطنه، لا يستطيع أن يقوم، كلما قام وقع.

ويأتي التركيز في ثنايا خطبته على قضية المرأة، وكأنها هي القضية المهمة في كل عصر وأمَّة؛ فلقد منيت المرأة عبر التاريخ بفئتين ظالمتين بخستاها حقها وداستا كرامتها: الجاهلية الأولى، والمدنية المعاصرة.

أما الفئة الأولى، الجاهلية الأولى، فهي التي جعلت المرأة وسيلة للكسب والتجارة، تُباع وتُشترى، وتُوهب وتُكترى، وتُسبى وتُوأد، دون أن يكون لها رأي أو حق أو نصيب.

وأما الفئة الثانية، المدنية المعاصرة، فهي التي جعلت المرأة مستنقعًا للشهوات، ووكرًا للرذيلة، تُهان فيه كرامتها، وتُقتل عفتها، بدعوى التطوُّر والمدنية وإعطائها حريتها! (كَبُرَت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا) [الكهف:5].

فاستوصى -صلى الله عليه وسلم- بالنساء خيرًا، وأكد على حقِّهِنَّ الذي جاء به الإسلام: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة:228].

لقد صان الإسلام المرأة، وجعلها مربيةَ الأجيال، وصانعةَ الأبطال، فأوصى بهن خيرًا؛ لأنهن أسيرات عند الرجال، فمن حقِّهِنَّ على الرجال أن يعتنوا بهنَّ ويحموهنَّ من مزالق الفتن، ويربُّونَهنَّ على الفضيلة والحشمة والحياء والعفاف المتمثِّل في الحجاب، والقرار في البيوت، والبعد عن مزاحمة الرجال، وأن يُباعدوا بينهنَّ وبين الدعوات المسعورة البرَّاقة الداعية إلى نزع حجابهنَّ وإخراجهنَّ من بيوتهنَّ، لِيَكُنَّ أطباقًا شهية لعُبَّاد المرأة، يقضون منها الوَطَر المحرَّم ثم يلفظونها لفظ النواة.

لقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لهنَّ وما عليهنَّ من الحقوق بما يتلاءم مع وظيفتهنَّ وفطرتهنَّ؛ فلهنَّ الإكرامُ والاحترامُ، والمعاشرة بالمعروف، والنفقة اللازمة دون إسراف ولا تقتير؛ وعليهنَّ: السمع والطاعة، وتهيئة المناخ الأسري في البيت؛ ليجد الرجل سَكَنَهُ النفسي، وراحة البال على الأولاد والأعراض والأموال؛ فتحفظه في شرفه ماله وأولاده، وتراعي شعوره فلا تُدخل بيته أحدًا إلا بإذنه، ولو كان مَحْرَمًا.

فإن حصل منها النشوز والعصيان والانحراف فلا بد وقتها من التأديب بالتدريج، الذي يتناسب ورأب الصدع وحفظ الود، التأديب الذي ليس فيه إهانة ولا إذلال، إنما هو تأديب بكل ما في الكلمة من معنى التأديب، الذي ينشد الإصلاح ولا يستهدف التعذيب: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء:34]، فإصلاح عوج المرأة من حق الزوج ليمنع النشوز، ويعيد الاستقرار إلى جوانب البيت.

أيها المسلمون: لقد قرر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قواعدَ الدين، وهدمَ قواعدَ الشرك والجاهلية وأبطلَها، وكان قدوةً عمليةً للمسلمين ليتأسوا به، فبدأ بإبطال ما كان في أقرب أقربائه من عمومته وأبناء عمومته.

وهكذا؛ يجب أن يكون كل مسلم داعية قدوة لغيره، فيبدأ بنفسه وأهله أولاً، ليكون للموعظة التأثير في النفوس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف:2-3].

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].

أيها المسلمون: وفي ختام خطبته -صلى الله عليه وسلم- أكَّد على ما فيه عصمتنا من الضلال والانحراف فقال: "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ".

أجَل أيها المسلمون! كتاب الله؛ فإنَّ ما تعيشه الأمة الإسلامية إنَّما هو غبُّ إعراضها كتاب الله، فكتاب الله هو النور المبين، والحبل المتين، والذكر الحكيم، وصراطه المستقيم الذي أنزله الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وقد بيَّنه -صلى الله عليه وسلم- لأمَّته غاية البيان، وأمرها بالتمسك به وبسنَّته، فعند الحاكم -وصحَّحه- عن أبي هريرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدَا علي الحوض".

فلنعتصم أيها المسلمون بهما، ولنعلم يقينًا أن الأمة لا تزال بخير ما استمسكت بهما واعتصمت بحبلهما وعملت بشريعتهما، ولا يحيد عن الكتاب والسنة إلا هالك ضالٌّ.

إنَّ وحدة الأمة ونبذ الخلاف والفرقة مطلب شرعي، ولن يتم ذلك إلا بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103]، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:123-124].

ثم اعلموا -أيها المسلمون- أن هذا آخر ما وصَّى به رسول الله وعهد به إلينا قبل لحوقه بالرفيق الأعلى، وقد أشهَد على ذلك أمَّته مرةً بعد أخرى، فشهد صحابته أن بلَّغ وأدَّى، وفعلوا كما فعل، وبلَّغوا كما بلَّغ، وأدَّوا الرسالة كما أدَّاها.

ونحن نشهد أن رسول الله قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، ونشهد كذلك أن صحابته من بعده قد بلَّغوا وأدُّوا الأمانة، ولم يبق إلا دورنا في البلاغ وأداء الأمانة التي حملنا إياها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) [الأحزاب:72].

أيها المسلمون: لئن كان إخواننا حجَّاج بيت الله قد أجابوا دعوة الله ولبُّوا مسرعين يطلبون رحمة الله وفكاك رقابهم من النار، فنحن قد جعل الله لنا ما ننافسهم فيه، فالعشر الماضية قد عمل فيها مَن عمِل من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، لن تضيع تلك الأعمال عند الله خاصَّة، ذلك اليوم العظيم، يوم عرفة، الذي يعمُّ خيرَه مَن وقف فيه ولم يقف من أهل الأمصار، فصيام هذا اليوم لغير الحاج يكفِّر سنتين: سنة ماضية وسنة لاحقة، ولئن شطَّ بنا عن مقامهم بُعد المكان، فقد شاركناهم في الإسلام والإيمان، وشرع لنا الاجتماع لصلاة العيد، في اجتماع يقارب اجتماعهم، وشرع لنا ذبح الأضاحي كذبح هَدْيهم وقرابينهم.

وأيام التشريق التي نعيشها مشروع لنا فيها ذكر الله، فقد قال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة:203]، فالذكر والتكبير المطلق آناء الليل وأطراف النهار مشروعٌ فيها، والتكبير المقيَّد بأدبار الصلوات أيضًا مشروع طيلة أيام التشريق كذلك، التي هي أيام عيد لنا، والعيد حقًّا عيدٌ لمن فاز بالمغفرة والرضوان.

إن العيد في الإسلام غِبْطة في الدين والطاعة، ومظهر لقوة الترابط والإخاء، إنَّه فرحةٌ بانتصار الإرادة الخيرة على الأهواء والشهوات، وبالخلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن، والرضا بطاعة المولى.

ففي الناس مَن تطغى عليه فرحة العيد فتستبدّ بمشاعره، لدرجة تُنسيه واجبَ الشكر والاعتراف بالنِّعم، وتدفعه إلى الزهو بالجديد، والإعجاب بالنفس، حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي والكِبْر والتَّعالي، بل ربما فعل المحرَّم من ضرب الطبول والرقص والتمايل الذي ينزه عنه العقلاء.

أيها المسلمون: مِن القلوبِ قلوبٌ معلَّقة بربِّها، تبتغي مرضاته، وتجتهد في ذكره وشكره وحسن عبادته على الدوام، حتى يقول قائلها: كُل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد.

وكل يوم يقطعه المؤمن في طاعة الله مولاه وذكره وشكره فهو أيضًا عيد، ومن هنا؛ فإن أعياد المسلمين يشارك فيها حقَّ المشاركةِ ويبتهجُ فيها صدقَ الابتهاجِ أهلُ الطاعاتِ والقرُبات.

العيد مناسبةٌ لتجديد أواصر الرحم في الأقرباء والود مع الأصدقاء، عيدٌ تتقارب فيه القلوب على المحبَّة، وتجتمع على الأُلفة، وترتفع عن الضغائن، وتعفو عن الهفوات والزلات.

صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه.