الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - أهل السنة والجماعة |
لقد أحاط الله تعالى نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام بحفظه ورعايته، وعصمه من مكر المشركين أفرادا وجماعات، رجالا ونساء، قبل الهجرة وبعدها، ورد كيدهم عليهم فانقلبوا خاسرين خائبين.
الحمد لله الولي الحميد؛ ابتلى عباده بالدين، وهداهم إلى الحق المبين، نحمده على نعمه العظيمة، وآلائه الجزيلة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ اتسعت رحمته فشملت من شاء من خلقه، وعظم حلمه فلم يعاجل بالعقوبة عباده (وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) [الكهف:58] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، واحتمل في ذات الله تعالى جفوة القريب والبعيد، وصبر على أذى المشركين واليهود والمنافقين، حتى أقام الله تعالى به الدين، وأظهر الحنيفية، ودحر الكفر والكافرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ فَدَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وأولادهم وأموالهم، فَسهروا في الحراسة لينام، وجاعوا في المخمصة ليشبع، وبذلوا ما يملكون لنصرة دعوته، وأعانوه على تبليغ رسالة ربه، وقد قيل للصديق: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم عن المسلمين خير الجزاء، ونبرأ إلى الله تعالى ممن تنقصهم وآذاهم من الملاحدة والرافضة والمنافقين، ورضي الله تعالى عن أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، والزموا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ) [المائدة:92] .
أيها الناس: من طبيعة الباطل أنه لا يقف أمام الحق، ومن شأن أهل الضلال أذيتهم لأهل الهدى؛ خوفا على باطلهم من كشف أهل الحق له. وما من سبيل في غواية الناس وإضلالهم إلا سلكوه، فإن جادلوا عن باطلهم لم يكونوا من أهل الصدق والعدل، بل يلبسون الحق بالباطل، ويفترون الكذب، ويخفون الحق، وتلك هي طبيعة الكفار والمنافقين قديما وحديثا (وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ) [الكهف:56] . وفي الآية الأخرى (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ) [غافر:5].
وما من أهل هدى وحق من النبيين وأتباعهم إلا حوربوا وأوذوا في ذات الله تعالى من لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا، وقد قتل عدد كبير من الأنبياء والمصلحين لا لشيء إلا لدعوتهم للحق، ووقوفهم ضد الباطل وأهله.
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو إمام أهل الحق والهدى، وأكبر من جاهد الباطل وأهله قديما وحديثا، فاحتمل في سبيل الله تعالى أذية المشركين في مكة، ثم أذية اليهود والمنافقين في المدينة، ثم أذية النصارى خارج الجزيرة، وقد حاول الأعداء قتله غير مرة، فعصمه الله تعالى منهم إلى أن اختاره إلى جواره.
كيف؟! وقد خاطبه ربه عز وجل فقال سبحانه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67] وفي آية أخرى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [البقرة:137].
لقد أحاط الله تعالى نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام بحفظه ورعايته، وعصمه من مكر المشركين أفرادا وجماعات، رجالا ونساء، قبل الهجرة وبعدها، ورد كيدهم عليهم فانقلبوا خاسرين خائبين.
كان رأس الكفر أبو جهل أكثر الناس عداوة للنبي عليه الصلاة والسلام، وحاول قتله غير مرة، فحال الله تعالى بينه وبين نيته الخبيثة، وذات مرة قال أبو جَهْلٍ: "هل يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بين أَظْهُرِكُمْ؟ فَقِيلَ: نعم، فقال: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذلك لَأَطَأَنَّ على رَقَبَتِهِ أو لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ قال فَأَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ على رَقَبَتِهِ، قال: فما فَجِئَهُمْ منه إلا وهو يَنْكُصُ على عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ له: مالك؟ فقال: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا من نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وكان أبو جهل يَعتزُّ بعصبته، ويهدد النبي عليه الصلاة والسلام بعزوته من المشركين، ولكن الله تعالى أقوى وأعز، روى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَجَاءَ أبو جَهْلٍ فقال: أَلَمْ أَنْهَكَ عن هذا؟ أَلَمْ أَنْهَكَ عن هذا؟ فَانْصَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم فَزَبَرَهُ، فقال أبو جَهْلٍ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما بها نَادٍ أَكْثَرُ مِنِّي، فَأَنْزَلَ الله تعالى (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) [العلق:17-18] فقال ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "فَوَالله لو دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الله تعالى" رواه الترمذي وصححه.
وكان من عصمة الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام، وكفايته له حفظه إياه من سلاطة لسان امرأة أبي لهب، حمالة الحطب، وكانت خبيثة بذيئة؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، إنها امرأة بذيئة وأخاف أن تؤذيك فلو قمت، قال: إنها لن تراني، فجاءت فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك هجاني، قال: لا وما يقول الشعر قالت: أنت عندي مصدق، وانصرفت، فقلت: يا رسول الله، لم ترك؟ قال: لا، لم يزل ملك يسترني عنها بجناحه" رواه أبو يعلى وصححه ابن حبان.
وعلى مستوى الجماعة يتذاكر الرهط من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أذيته، وصده عن دعوته، ويتنادون على عمل شيء ضده فما أن يراهم ويكلمهم حتى يقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم، فلا ينطقون بما عزموا عليه من أمرهم؛ كما روى عبد الله بنُ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما : "أن قريشا اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْماً في الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ما رَأَيْنَا مِثْلَ ما صَبَرْنَا عليه من هذا الرَّجُلِ قَطُّ: سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لقد صَبَرْنَا منه على أَمْرٍ عَظِيمٍ أو كما قالوا قال: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذا طَلَعَ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ يمشي حتى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ فلما أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ ما يقول، قال: فَعَرَفْتُ ذلك في وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى، فلما مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذلك في وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فقال: تَسْمَعُونَ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لقد جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ، فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حتى ما منهم رجلا إلا كَأَنَّمَا على رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حتى إن أَشَدَّهُمْ فيه وصاةً قَبْلَ ذلك ليرفأه بِأَحْسَنِ ما يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ حتى إنه لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِداً؛ فَوَالله ما كُنْتَ جَهُولاً" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
وذات مرة تآمر جمع من المشركين على النبي عليه الصلاة والسلام، وتواصوا فيما بينهم على قتله، وبيتوا الغدر به، ولكن الله تعالى عصمه منهم؛ كما روى ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: "إِنَّ الْمَلأَ من قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا في الْحِجْرِ فَتَعَاقَدُوا بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى ومنات الثَّالِثَةِ الأُخْرَى وَنَائِلَةَ وَإِسَافٍ لو قد رَأَيْنَا مُحَمَّداً لقد قُمْنَا إليه قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فلم نُفَارِقْهُ حتى نَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ رضي الله عنها تبكي حتى دَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هَؤُلاَءِ الْمَلأُ من قُرَيْشٍ قد تَعَاقَدُوا عَلَيْكَ لو قد رَأَوْكَ لقد قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ فَلَيْسَ منهم رَجُلٌ إلا قد عَرَفَ نَصِيبَهُ من دَمِكَ، فقال: يا بُنَيَّةُ، أريني وضوءً، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دخل عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ فلما رَأَوْهُ قالوا: هَا هو ذَا، وَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَسَقَطَتْ أَذْقَانُهُمْ، في صُدُورِهِمْ وَعُقِرُوا في مَجَالِسِهِمْ فلم يَرْفَعُوا إليه بَصَراً، ولم يَقُمْ إليه منهم رَجُلٌ فَأَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فقال: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، ثُمَّ حَصَبَهُمْ بها، فما أَصَابَ رَجُلاً منهم من ذلك الْحَصَى حَصَاةٌ إلا قُتِلَ يوم بَدْرٍ كَافِراً" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
ولما هاجر عليه الصلاة والسلام، واختبأ في الغار، واشتد طلب المشركين له؛ خاف أبو بكر رضي الله عنه أن يدركوه، ولكن عصمه الله تعالى منهم، قال أبو بكر رضي الله عنهما: "نَظَرْتُ إلى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ على رُءُوسِنَا وَنَحْنُ في الْغَارِ فقلت: يا رَسُولَ الله، لو أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فقال: يا أَبَا بَكْرٍ، ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا" رواه الشيخان، فأنزل الله تعالى خبر ذلك في كتابه العزيز(إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
وفي هجرتهما إلى المدينة اشتدَّ الطلب عليهما، قال أبو بكر رضي الله عنه: "وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بنُ مَالِكٍ فقلت: أُتِينَا يا رَسُولَ الله، فقال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَدَعَا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إلى بَطْنِهَا أُرَى في جَلَدٍ من الأرض فقال: إني أُرَاكُمَا قد دَعَوْتُمَا عَلَيّ،َ فَادْعُوَا لي فَالله لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا له النبي صلى الله عليه وسلم فَنَجَا فَجَعَلَ لا يَلْقَى أَحَدًا إلا قال: كَفَيْتُكُمْ ما هُنَا فلا يَلْقَى أَحَدًا إلا رَدَّهُ، قال: وَوَفَى لنا" رواه الشيخان.
وهذا من المعجزات العظيمة، الدالة على عصمة الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام؛ إذ ساخت قوائم الفرس إلى بطنها حتى لا تتحرك في أرض صلبة لم تجر العادة أن الدواب تسيخ فيها.
فالحمد الله الذي حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم من كيد المشركين، والحمد لله الذي هدانا على يديه لدينه العظيم (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشُّورى:52 ].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم |
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واعرفوا للنبي عليه الصلاة والسلام حقه، واتبعوا دينه، وادعوا بدعوته، وادرؤوا عنه أذى الكافرين والمنافقين والمرتدين؛ فإن اتباعه عليه الصلاة والسلام وتوقيره وتبجيله من أسباب الفلاح (فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [الأعراف:157] .
أيها المسلمون: تشتد في هذا الزمن حملات الكفار والمنافقين على النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى ما بلَّغ من القرآن والدين..لقد دنسوا القرآن ومزقوه وأهانوه، ورفضوا أحكام الشريعة ونفَّروا الناس منها، وصدوا عن سبيل الله تعالى، وسخروا بالنبي عليه الصلاة والسلام.
لقد أعلن أئمة الكفر في هذا العصر عداءَهم للإسلام، وأظهروا ما كانوا يبطنون من شدة عداوتهم لأهل الإيمان، واستوى في ذلك ساستهم ورهبانهم، وقبل عامين من الآن نظمت إحدى المجلات الدانمركية مسابقة في رسم النبي عليه الصلاة والسلام، وتصويره للناس في أبشع صورة، ونشرت صورا عدة، فانتفضت الشعوب الإسلامية غضبا لله تعالى أن ينتقص نبيه عليه الصلاة والسلام، وتمايزت حينها صفوف المؤمنين من المخذلين والمنافقين الذين كانوا يقللون من أهمية الحدث، وعملت الشعوب ما تستطيع من مقاطعة بضائع الظالمين حتى كسدت تجارتهم في بلاد المسلمين، فوقفت بعض دول الكفر معهم تعينهم على إثمهم، وتستقبل بضائعهم، وتنشر رسومهم الآثمة في صحفهم، وما اعتذروا عن فعلتهم الفاجرة، ولا أبدوا ندما عليها.
ولكن طائفة من المسلمين ذهبوا إليهم في ديارهم لعقد مؤتمر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفي نهايته نشروا بيانا يدعون فيه إلى إنهاء المقاطعة، ففتوا في عضد المسلمين، وتبعهم فيما قرروا كثير من الناس، فهدأ هذا الحدث سنتين، وكاد الناس أن ينسوا تلك الجريمة البشعة، فعاد النصارى الحاقدون إلى توسيع فعلتهم النكراء إذ تناقل الإعلام بالأمس أن الرسوم الساخرة بالنبي عليه الصلاة والسلام قد نُشرت في سبع عشرة صحيفة دنمركية، وهذا يدل على شدة عداوتهم للإسلام وأهله، وأنهم لن يرضوا عن المسلمين حتى يخرجوهم من إسلامهم.
لقد دلت هذه الحادثة النكراء -كما دلت أحداث كثيرة غيرها- دلت على أن دعاة السلام وحملة الشعارات الإنسانية والتعايش السلمي ما هم إلا جهلة واهمون حالمون، قد أعرضوا عن كتاب الله تعالى، وجهلوا التاريخ، ولم يبصروا الواقع، وأن ذِلتهم واستجداءهم للكفار والمنافقين، وتسولهم على أبوابهم وصحفهم قد حجب أبصارهم، وطبع على قلوبهم، فلم يدركوا الحقائق كما هي، بل نظروا إليها بأبصار الأعداء، وهاهم أولاء أعداء النبي عليه الصلاة والسلام ينشرون جريمتهم في نطاق أوسع، فماذا سيقول الحالمون بالشعارات الإنسانية؟ وبأي وجه يقابل المخذلون أمتهم؟ وماذا سيقولون لربهم يوم القيامة؟
إن هذه المصائب العظيمة من إزارء الكافرين والمنافقين بربنا جل جلاله، وبقرآننا الكريم، وبرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، وسخريتهم بالشريعة الربانية؛ باتت تتكرر وتتنوع، ويقتسم الكفار والمنافقون والمخذلون أدوارها وفصولها؛ ليخدروا الأمة المسلمة، ويُمِيتوا قلوب المسلمين عن الشعور بفداحة ما يفعلون؛ فيألف المسلمون التعدي على مقدساتهم، وانتهاك حرمات دينهم، فلا تتحرك قلوبهم بشيء.
إن الله تعالى قد انتصر لنبيه عليه الصلاة والسلام من المشركين ومن اليهود ومن المنافقين، وعصمه من دسائسهم ومكرهم، وجعلهم الأذلين الأرذلين المهزومين، ورفع رسوله صلى الله عليه وسلم مكانا عليا، وهو سبحانه قادر على أن ينتصر له في هذا العصر من كفرة أهل الكتاب الذين تنقصوه، ولكنه الابتلاء والامتحان لعباده المؤمنين، وكم على وجه الأرض من مسلم يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام؟! أفلا ينتصرون له؟!
إن من قرأ التاريخ وعرفه لن يجد حقبة من الزمن استطال فيها الكفار والمنافقون على مقدسات المسلمين كهذا الزمن الذي نعيشه، فويلٌ للمسلمين وقد تجاوزا المليار مسلم من أقلام التاريخ وتدوينه لهذه الأحداث العظيمة، ولولا تخاذل المسلمين حكاما ومحكومين عن النصرة لما أحدث الكفار والمنافقون كل حين قارعة أخرى.
إن الكفار والمنافقين في زمننا هذا لم يروا النبي عليه الصلاة والسلام، وليس بينهم وبينه عداوة شخصية، وإنما نقموا منه ما جاء به من الدين الذي ندين به، والقرآن الذي نقرؤه، والشريعة التي نلتزمها، أفلا يكون فينا -عباد الله- غيرة لله تعالى على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وقد كان الناصح لنا، المشفق علينا، الرحيم بنا؟ كيف!! وأعظم خير نلناه وهو الإيمان إنما كان عن طريقه عليه الصلاة والسلام، وأعظم شرٍ نجانا الله تعالى منه وهو الكفر إنما نجينا منه بتحذيره عليه الصلاة والسلام.
إن أعظم شيء أغاظ الكفار والمنافقين هو التزام الإسلام، وانتشار مظاهره وشعائره بين الناس، وإن أعظم شيء ننصر به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم التزام سنته، ونشر هديه، والدعوة إلى دينه، وإن أكبر المظاهر التي تغيظ الكفار والمنافقين في هذا العصر اللحى للرجال، والحجاب للنساء، ومن نظر إلى سخرية الكفار والمنافقين وجد أنها ترتكز على هاتين الشعيرتين لأنهما رمزان عظيمان يدلان على تمسك المسلم بدينه، وإغاظته لمن يعارض الدين، ويقدح فيه، وما معركةُ الحجاب في أوربة ثم في تركيا قبل أيام إلا من أبين الأدلة على ذلك. فأغيظوا أعداء الملة والدين بهاتين الشعيرتين العظيمتين، وانشروهما في الناس، وأحيوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام في بيوتكم ومساجدكم وأسواقكم وأعمالكم، وعلموها نساءكم وأولادكم، وانتصروا لنبيكم عليه الصلاة والسلام بما تستطيعون من مجالات النصرة..
وصلوا وسلموا عليه كما أمركم بذلك ربكم |