البحث

عبارات مقترحة:

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

حادث شباب الربوة الصالحين

العربية

المؤلف سامي بن خالد الحمود
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. قصة حادث الربوة .
  2. دروس وعبر من هذه القصة .
  3. أسباب الحفظ الرباني .

اقتباس

أما أبطال هذه القصة فليسوا ببعيدين عنا، إنهم نخبة من شباب هذا الحي الصالحين، يجمعهم الحب في الله، وتربطهم الأخوة على طاعة الله، زادهم التقوى والإيمان، وخلقهم الفضل والإحسان، ولقاؤهم على العلم والقرآن ..

الحمد لله رب العالمين.. فارج الهم، وكاشف الغم.. مجيبِ دعوة المضطرين، وجابرِ كسر المنكسرين.. لم يُخْلِ محنة من منحة، ولا نقمة من نعمة.. نحمده على حلو القضاء ومرّه , ونعوذ به من سخطه ومكره.. ونسأله أن يجعل لنا من كل شدة فرجاً، ومن كل ضيق سعة ومخرجاً.

والصلاة والسلام على معلم البشرية، وهادي الإنسانية.. نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن في القصص لعبراً، وإن في تقلبات الحياة لمدكراً.. (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

عباد الله: حادثة مليئة بالدروس والعبر، وقفت عليها منذ بداية وقوعها، وتابعت تسلسل أحداثها، والتقيت بأبطالها، ودونت بعض الدروس المستفادة منها، فلم يكن بدٌ من عرضها اليوم على أسماعكم، بعد أن اكتملت فصولها، أسأل الله أن ينفع بها.

أما أبطال هذه القصة فليسوا ببعيدين عنا، إنهم نخبة من شباب هذا الحي الصالحين، يجمعهم الحب في الله، وتربطهم الأخوة على طاعة الله، زادهم التقوى والإيمان، وخلقهم الفضل والإحسان، ولقاؤهم على العلم والقرآن.

قبل شهر، وفي مثل هذا اليوم، السادسِ عشر من شهر رمضان المنصرم، بدأ شريط الأحداث برحلةٍ إيمانية، يقوم بها هؤلاء الشباب إلى الرحاب الطاهرة بمكة المكرمة، ليؤدوا مناسك العمرة.

العمرةُ التي حث المصطفى صلى الله عليه وسلم على متابعتها، وبشر من أتى بها في رمضان بثواب حجة، فضلاً من الله وإحساناً.

وينطلق الركب المبارك على الطريق البري، ويؤدي الشباب العمرة بكل يسر وسهولة، وبعد يومين من العبادات والصلوات المضاعفات، وفي يوم الجمعة الثامن عشر من رمضان، يعود الشباب أدراجهم على الطريق البري نفسه، (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا).

نزل أمر الله قبل وصولهم إلى الرياض بأكثرَ من أربعمائة كيلومتر، كان الجو هادئاً في السيارة، الشباب منشغلون بمسابقة يقدمها أحد الشباب.

يقول سائق السيارة: كنت أقود السيارة بسرعة 120 إلى 130 كيلومتر في الساعة، وفجأة، سمعت انفجار الإطار، رفعت رجلي عن البنزين، انحرفت السيارة عن الطريق واتجهت إلى الحاجز الحديدي، فقدت الوعي قبل أن أصل إلى الحاجز، اصطدمت السيارة بالحاجز لتنقلب على جانب الطريق عدة مرات.. انكسر زجاج السيارة، وخرجت منها.. ولم أستيقظ إلا وأنا على الأرض.

ويقول الشاب الذي كان يدير المسابقة: كان المشهد رهيباً بعد انحراف السيارة وانقلابها، الزجاج يتناثر في السيارة، التراب يدخل من النوافذ، كانت السيارة تتقلب وأن أقول ما الذي ينتظرني؟ هل سأموت؟ هل سأصاب بشلل أو إعاقة؟

توقفت السيارة فإذا بإخواني الذين أحببتهم وتآخيت معهم سنوات طويلة تحولوا إلى أجسادٍ متناثرةٍ على الأرض.

خرجت من السيارة فإذا بأحد الشباب يدور بلا شعور، أخذت لحافاً وأجلسته عليه، فاستلقى واستسلم لنوم عميق، أصبت بالخوف، هل سيفيق أخي بعدها أم لا؟

وشاب آخر يقول: عندما فوجئت بالحادث، التفت إلى الشباك، فإذا بالتراب يدخل عيني فلم أعد أرى شيئاً، ثم أغمي علي، وأصبت في وجهي وجسدي، ولم أستيقظ إلا على صراخ الإخوة.. أحسست بالموت، ثم سمعت أحد الشباب يتشهد فذكرني وبدأت أتشهد.. لقد اكتشفت حينها أن الصحبة الصالحة أفضل شيء في الدنيا.

نعم.. في لحظة كلمح البصر.. أصبح الشباب مجندلون على التراب، هذا ينزف دماً، وهذا يعتصر ألماً، وآخر قد علاه التراب، وآخر ينادي بالأصحاب.

ولكن.. في هذه اللحظاتِ العصيبة، كان ذكر الله ودعاؤه على ألسنةِ الشباب، يدوي في الأجواء الكالحة، معلناً أن مع العسر يسراً، وأن مع الضر خيراً (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

يقول أحد الشباب: نزلت من السيارة بعد وقوع الحادث فإذا بأخي في حالة يرثى لها، ثم التفتُّ فإذا بأخي الثاني في حالة لا تقل عن الآخر، تذكرت الله في تلك اللحظات، عرفت أن الأبواب قد أغلقت ولم يبق إلا باب الرحمن، فأخذ لساني يلهج بدعائه والتضرع إليه.

وبعد هدوء العاصفة، يتفقد الشباب بعضهم بعضاً، ويحمدون الله أن الحادث لم يسفر عن وفيات، وكانت معظم الإصابات طفيفة، فيسجد عدد منهم شكراً لله، وينزل آخر كالملهوف يسأل عن القبلة ليسجد لله، ونعم ما فعل، وهذا على الأفضلية وإلا فلو سجد لغير القبلة فلا بأس، لأن سجدة الشكر لا يشترط لها قبلة ولا طهارة على الصحيح من أقوال أهل العلم.

وتمضي اللحظات، ويتصل أحد الشباب بالهلال الأحمر لتجرى أعمال الإسعاف، وينقل المصابون إلى المستشفى.

وفي المستشفى كان المشهد محزناً، والشباب يفترشون الأسرة البيضاء بين كسير وجريح.
يقول أحد المصابين: لم أستفق إلا وأنا على السرير في المستشفى، وثوبي مشقوق وملطخ بالدماء، ورقبتي محاطة بالجبيرة.

وفي نهاية القصة، كان لطف الله بعباده هو سيد الموقف، لقد عاد أكثر الشباب في اليوم الأول إلى بيوتهم سالمين، ومضت الأيام بالمصابين فشفوا بحمد الله، وبقي آخرهم الذي أصيب في رأسه، وهو الآن في طريقه إلى الشفاء بإذن الله تعالى.

ولنا مع هذه الحادثة عدة دروس (سوى ما تقدم):

الدرس الأول: درس في الإيمان بالقضاء والقدر:

أيها الأحبة: عند نزول المصائب والأزمات، تضطرب القلوب.. وتهتز النفوس.. وتزيغ الأبصار.. ويتسلل الجزع والتشكي إلى النفوس.

والمؤمن مطالب في هذه الظروف أن يصبر نفسه، ويلجأ إلى ربه، وينظر إليه بعين الرضا والتسليم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.. إنه حكيم عليم.

وكل شيء بقضاء وقدر

والكل في أم الكتاب مستطر

والله تعالى يبتلي من شاء من عباده المؤمنين ليمتحن صبرهم، ويُظْهِر استرجاعَهم، كما قال تعالى: ?(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )

المؤمن لا يعرف الصدمةَ النفسية.. ولا الانهياراتِ العصبية.. بل شأنه الإيمانُ والتسليمُ لرب البرية.

وبهذا، تنقلب المحنة في حقه منحة، وتستحيل البـلية عنده عطية، وتكون أولى الثمرات التي يجنيها، طمأنينةً تعمر قلبه، وانشراحاً يغمر صدره، مع ما يدّخره الله له من الثواب والأجر؛ كما قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) [التغابن:11].
قال علقمة بن قيس: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم".

إذا علمنا هذا، فإن هذه الحوادث المقدرة، يجب أن لا تثنينا عن عمل الخير، أو السفر لما يحب الله ويرضى، مع اتخاذ الأسباب النافعة.

أخي الحبيب: الآجال معدودة، والأعمار محدودة.. فلا تظن أنك بسفرك أو جلوسك، ستقدم أو تؤخر لحظة من أجلك.

فكن مؤمناً متوكلاً على ربه، يعلم أن السلامة من الله، والأمن في جوار الله، وأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله. ( وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) [الرعد11].

الدرس الثاني، احفظ الله يحفظك:

إن أعظم سبب يقي الإنسان من الكوارث، ويحفظه من المكاره، تقوى الله، وقوةَ العلاقة بالله تعالى ( فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [يوسف64].

وهذا الحفظ الرباني له أسباب: فمن أسبابه قوةُ الإيمان والتوكلِ على الله، كما قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) آل عمران

ومن أسبابه: المحافظة على أداء الصلوات الخمس مع الجماعة، وبالأخص صلاة الفجر.
فقد روى مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم ".

ومن أسبابه: الإكثار من العبادات والطاعات في وقت الرخاء، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس أنه قال: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة". رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع.

وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة" رواه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع.

ومن أسبابه: الذكر والدعاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء ". رواه الترمذي وصححه الألباني في السلسلة.

ومن أسبابه: الاستغفار والتوبة، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق فرجاً، ومن كل فتنة مخرجاً.

يقول أحد الشباب: كان أولُ عملٍ عملتُه أني بدأت أتفقد الشباب، وأذكرهم بدعاء المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرْنا في مصيبتنا واخلُف لنا خيراً منها.

وآخر يقول: أظن أن أهم الأسباب التي أنجتنا،ذكرَ الله ودعاءَ المصيبة.. لمّا رأيت الشباب يدعون الله في أشد اللحظات، قلت في نفسي: والله لا يضيع الله هذا الدعاء.

الدرس الثالث -من هذه الحادثة-: ليت شعري كيف تكون الخواتم:

عباد الله: إن وقوع مثل هذه الحوادث لعبرةً للعاقل، وتذكيراً للغافل، بأن الدنيا ظلٌ زائل، وأن الموت يأتي بغتة، وأن السعيد من أعد العدة للقاء ربه.

وإن مما يبعث الطمأنينة في نفس كل شاب أن يكون بين هؤلاء الشباب الصالحين، الذين لهجت ألسنتهم بالشهادة والذكر والدعاء في موقف تطيش فيه العقول، وتضطرب فيه القلوب.

فها هو أحدهم يقول: لما وقع الحادث أغمضت عيني، وبدأت أرفع صوتي بالشهادة لكي أذكر الشباب بها.

وآخر يقول: عندما وقع الحادث، نظرت إلى الشباب، فإذا بهم، منهم من يتشهد، ومنهم من يسمي، ومنهم من يذكر الله.

وآخر يقول: عندما انقلبت السيارة، أحسست بأن الحديد يلتف علي، والشباب يضجون بالذكر والشهادة.

ويقول آخر محاسباً نفسه: لما وقع الحادث كنت أرى مشهد الموت أمامي، فقلت في نفسي: لو أني مت الآن، هل أتمنى أن ألقى الله بهذه الحال، أو أني أتزود من الأعمال الصالحة؟.

وآخر يقول لإخوانه: إن بيني وبين فلان سوءَ تفاهم، فأرجوكم، قولوا له يبيحني ويحللني.
وشاب آخر يقول: تمنيت أنه لم يُغْمَ علي، لكي أطلب من أحد الشباب أن يتصل على والديّ ليرضوا عني.

وآخر كان مفطراً بسبب السفر، فلما وقع الحادث تمنى أنه لم يفطر حتى يلقى الله -لو قدر الله- وهو صائم.

وآخر يقول: لقد كتب لنا عمر جديد، جدير بأن نعمل فيه بطاعة الله تعالى.

أما سائق السيارة فيقول: أصبت بكسر في الظهر وكسر آخر في الصدر، ورأيت الدم يسيل من جسدي، وبدأ التنفس والنبض يضطرب، فأحسست أني سأموت لا محالة، جلست أنتظر الموت، ومع شدة الموقف، فقد كنت أحسن الظن بالله، فأنا في سفر طاعة وراجع من العمرة، وبرفقة شباب صالحين متآخين في الله،، وكان الحادث في يوم الجمعة، ومن مات يوم الجمعة أمن الفتان، وكنا صائمين في رمضان، حتى إني كنت أقول للشباب: لا أريد طعاماً، إني أريد أن أفطر في الجنة إن شاء الله.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخبر عن ربه في الحديث القدسي المتفق عليه: "أنا عند ظن عبدي بي".

نسأل الله أن يجعلنا ممن يحسن الظن به، ويحسن العمل له، إنه غفور شكور، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته.

أما بعد:

الدرس الرابع من دروس هذه الحادثة: درس في التراحمِ والتكافلِ وصدقِ الأخوة.

لقد سطر هؤلاء الشباب صفحات مشرقة من الحب في الله، والتآخي الصادق، وتلكم هي صفة المسلم الحق،الذي يشعر بإخوانه شعور الجسد الواحد،ويشد يده بأيديهم كالبنيان المرصوص.

بمجرد أن وقع الحادث، هب من بقي من الشباب لإنقاذ المصابين، في حب صادق، وأخوة حقيقية.

أحد الشباب الذين فقدوا الوعي يقول: كنت أتمنى أني لم أفقد الوعي لكي أشارك في مساعدة إخواني.

وآخر يقول: تمنيت أني تدربت على الإسعافات الأولية لكي أشارك في إسعاف الشباب.

وقبل وصول الإسعاف، يفزع بعض فاعلي الخير،وصناع المعروف من عابري الطريق ليسعفوا إخوانهم ويغيثوهم في موقف نبيلٍ جديرٍ بالإشادة، والدعاء لهم بالحسنى وزيادة.

وفي المستشفى يجلس أحد الشباب على الكرسي بجوار أخيه المصاب الذي يرقد على السرير، يغالب النومَ والتعبَ ليسهر على راحة أخيه، فيقال له: نم على السرير الآخر، فيقول: لا، ربما يستيقظ أخي ويحتاجني، فيقال له: اذهب إلى البيت وعد في الصباح، فيقول: قد مات أبويّ، وليس عندي أب ولا أم في البيت، فدعوني أسهر على راحة أخي.

أما الآباء والأمهات فقد كان لهم مواقف عظيمة، من الصبر والرضا بقضاء الله، وتفقد أحوال جميع المصابين سواء كانوا من أبنائهم أو من غيرهم.

يزور أحد الآباء ولده في المستشفى بعد وقوع الحادث، فيسأله الشاب عن بقية الشباب. فيقول له الوالد: إنه زارهم كلهم قبل أن يزوره، لأنه يعدهم كلَّهم من أبناءه.

أما الأمهات، فحدث عن التواصل فيما بينهن والسؤال والدعاء، وكأن الواحدةَ منهن هي المصابة بكل شاب من المصابين.

الدرس الخامس والأخير درس في الإيثار والتضحية:

لقد ذكرنا هؤلاء الشباب بالرعيل الأول، الذين رضي الله عنهم وأثنى عليهم بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)

عندما وقع الحادث، كان الواحد من الشباب، ينسى نفسه وإصابته، في سبيل إسعاف إخوانه.

وسائق السيارة يصاب بكسور في ظهره وصدره، وينزف منه الدم، ويسقط على الأرض بعد الحادث، وينادي الشباب ليطمئن عليهم وهو لا يستطيع القيام، ويقول للمسعفين: اتركوني وأسعفوا بقية الشباب.

ويُنقل للمستشفى، فكان يئن في الليل ويتألم ألماً شديداً، ومع هذا فقد كان همه الأول، الشباب الذين كانوا معه.. وكان يقول: إنَّ فَقْدَ هذهِ الصفوةِ من الشباب خسارةٌ على الأمة!!. الله أكبر.. هكذا يفعل الإيثار في النفوس، كما ذكر أهل العلم.

قال النووي:"والإيثار في حظوظ النفوس من عادة الصالحين".. وقال ابن العربي:"من وقى مسلماًً بنفسه فليس له جزاء إلا الجنة ".

وقال ابن القيم:"وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزاً، ولم يُقَلْ أنه قاتلٌ لنفسه، ولا أنه فعل محرماً، بل هذا غاية الجود والسخاء، كـما قـال تعالى:(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم". اهـ وصدق القائل:

يجود بالنفس إن ظن الجبان بها

والجود بالنفس أقصى غايةِ الجودِ

وختاماً.. فإننا وإن أثنينا على هؤلاءِ الشباب وحُسنِ فعلهم، ودعونا غيرهم من الشباب إلى الاقتداء بهم؛ فإننا والله لا نزكيهم على الله، والحي لا تؤمن عليه الفتنة، فنحن نطالبهم بالثبات، واتهام النفس، وتجديد التوبة والاستغفار، واغتنام الأوقات في بناء النفس والتحصيل.

نسأل الله تعالى أن يثبتهم وجميع شبابنا المهتدين، وأن يهدي سائر شبابنا إلى أحسن الأخلاق والأعمال، وأن يجعلهم قرة عين في الحال والمآل. إنه خير مأمول وأجود مسؤول.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...