الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والورع يعني أداء الإنسان للواجبات وترك المحرمات والبعد الشبهات؛ خوفًا وتعبدًا لرب الأرض والسماوات الذي وصف عباده فقال: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) ..
الحمدُ لله فاطرِ الأرض والسموات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، وقهر كل مخلوق عزة وحكمًا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفَهم ولا يحيطون به علمًا، لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار، ولا تتوهّمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنده بمقدار، أتقن كلَّ ما صنعه وأحكمه، وأحصى كلَّ شيء وقدره، وخلق الإنسان وعلّمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الحق والتزمه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشترى رجلٌ من رجل عقارًا، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار للبائع: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشترِ الذهب؛ وقال الذي باع له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟! قال أحدُهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية -أي بنت-؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا".
إن من يقرأ هذا الحديث لا يدري بأيهما يعجب أكثر؛ من البائع، أم من المشتري، أم الحكم؟! فكل واحد منهم أشد عجبًا، أي خلق هذا الذي يضبط النفوس ويوجه السلوك ويولد القناعات!! إنه خلق الورع الذي به تزكو النفوس، وبه يرتقي العبد في مراتب الإيمان ودرجاته، وبه ينال العبد محبة الله ومحبة خلقه، وبه تعم السعادة حياة الأفراد والمجتمعات، وبه يعرف الحق من الباطل والخير من الشر والحلال من الحرام.
والورع يعني أداء الإنسان للواجبات وترك المحرمات والبعد الشبهات؛ خوفًا وتعبدًا لرب الأرض والسماوات الذي وصف عباده فقال: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57-61].
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يغرس خلق الورع في نفوس أصحابه؛ لأن به تستقيم الحياة؛ فعن النعمان بن البشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". متفق عليه.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على الورع حتى يكون خلقًا وسلوكًا يمارس في واقع الحياة، وتظهر ثمرته على الفرد والمجتمع والأمة؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا هريرة: كن ورعًا تكن من أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن من أغنى الناس، وأحب للمسلمين والمؤمنين ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك تكن مؤمنًا، وجاور من جاورت بإحسان تكن مسلمًا، وإياك وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك فساد القلب". صحيح الجامع 7833.
وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع". صحيح الترغيب والترهيب 3308.
وقال معاوية بن قرة: "دخلت على الحسن البصري وهو متكئ على سريره، فقلت: يا أبا سعيد: أي الأعمال أحب إلى الله؟! قال: الصلاة في جوف الليل والناس نيام. قلت: فأي الصوم أفضل؟! قال: في يوم صائف. قلت: فأي الرقاب أفضل؟! قال: أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنًا. قلت: فما تقول في الورع؟! قال: ذاك رأس الأمر كله".
عباد الله: إذا غاب الورع من حياتنا فإن الإنسان لا يُبالي من أينَ أتَت دنياه، وبأيّ طريقٍ وصَلَت لُقمتُه، وعلى أيّ حال كانت مُتعته، وعلى أيّ محرّمٍ كانت شهوتُه!! وإذا غاب الورع من حياتنا ساءت أخلاق الناس فلا ترى إلا غشًّا وخداعًا في المعاملات، وظلمًا وعدوانًا وهضمًا للحقوق والواجبات، وتعديًا على الأعراض والنفوس والممتلكات.
إننا بحاجة إلى خلق الورع لتقوى الروابط وتزيد الألفة بين أبناء المجتمع، ويحفظ كل واحد منا ود صاحبه وأخيه، إن الأمم لا تسود إلا بقيم، وإن الحياة لا يبنيها إلا العظماء عند يحملون غاياتٍ عظيمة وأخلاقٍ نبيلة، ولهذا سادت أمتنا وانتشر فضلها وخيرها في آفاق الدنيا، وما زالت مآثر رجال الإسلام ونساءه وشبابه تذكر إلى اليوم، وإن أبواب الجنة لا يطرقها إلا أصحاب الأخلاق العظيمة مهما كانت حاجتهم وكيفما كانت ظروفهم؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟!"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء والمهاجرون الذين تسد بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً، فيقول الله -عز وجل- لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟! قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا، وتسد بهم الثغور ويتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم حاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)". رواه أحمد (10/77)، وإسناده صحيح.
قدم على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: "والله لوددت أني أجد امرأة حسنة، تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن، فهلم أزن لك؟! قال: لا. قالت: ولم؟! قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا -وأدخل أصابعه في صدغيه- وتمسحين عنقك، فأصيب فضلاً عن المسلمين". أ حمد بن حنبل: الورع ص37.
أي ورع هذا وأي عظمة هذه؟! إن الورع هو أن تجد الخير والحق والمعروف فتلتزمه، والشر والباطل والحرام فتجتنبه؛ طاعة لله وخوفًا من عقابه وطمعًا في جنته؛ يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "جلساء الله غدًا أهل الورع والزهد".
جاءت أخت بشر الحافي إلى الأمام أحمد بن حنبل وقالت: "إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية -وهي أضواء بيت جيرانهم-، ويقع الشعاع علينا، أيجوز لنا الغزل في شعاعها؟! فقال أحمد: من أنتِ عافاك الله تعالى؟! فقالت: أخت بشر الحافي: فبكى أحمد، وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها".
الورع يسير لمن يسَّره الله عليه، يقول سفيان الثوري: "ما رأيت أسهل من الورع! ما حاك في نفسك فاتركه".
وعن النواس بن سمعان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". رواه مسلم.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون". صحيح الجامع: 2881.
عباد الله: فإذا كان الورع بهذه الأهمية في حياة المسلم فإنه في وقت الأزمات والفتن والمشاكل والصراعات أكثر أهمية؛ لأن الورع يحرس صاحبه ويمنعه عن الوقوع في المحرمات أو التقصير والتفريط في أداء الواجبات، وهو طوق للنجاة في الدنيا والآخرة، به تحفظ الأعراض والدماء والأموال، وهو سبب لبذل المعروف وقناعة النفس وسخاء اليد، وبه يُحفظ اللسان عن القيل والقال والغيبة والنميمة وإثارة الفتن وتأجيج الصراعات، وبالورع يختفي الجشع والطمع والاحتكار بين الناس، فلنزكِّي نفوسنا بهذا الخلق العظيم ونجعله سلوكًا في حياتنا، نحفظ مجتمعنا وأخوتنا.
فاللهم املأ قلوبَنا بتقواك، واجعلنا نخشَاك كأنّا نراك، وبارِك لنا في القرآن والسنّة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن خلق الورع يُكتسب بمراقبة الله والاستعداد للقائه والخوف منه، ويتزين به العبد ويعيشه واقعًا في الحياة إذا غض بصره وسمعه عن الحرام، وحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والسخرية من الآخرين، وأن يكون مطعمه ومشربه وملبسه من الحلال، وقام بالفرائض وتزوّد بالنوافل، وأن يتفقه المرء في دينه فيعلم الحلال والحرام، والواجب من المسنون، والمصلحة من المفسدة.
ولنحذر من سوء عقوبة ترك الورع والتخلق به في الدنيا، ويا لها من عقوبة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَـاتِ وَعْمَلُواْ صَـالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]. وقال: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ وَشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!". رواه مسلم 1015.
ولنملأ قلوبنا بحب الله والخوف منه، ولنتذكر لقاءه يوم لا ينفع إلا العمل الصالح والحق والخير بين الناس؛ عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من أخيه شيئًا؛ فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة". فارتعب الرجلان وخافا؛ لأن هناك يومًا آخِر لا مفر منه؛ ولأن المطلع على ما في الضمائر هو الله الذي لا تخفى عليه خافية، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إذا قلتما، فاذهبا فاقتسما؛ ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه".
اللهم ردّنا إليك ردًّا جميلاً، ولا تفتنا في ديننا ولا دنيانا.
هذا، وقد أمركم ربكم فقال قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.