العربية
المؤلف | عبدالله بن محمد العسكر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - الأديان والفرق |
هذا الثبات من صاحب الباطل فيه درس لأهل الحق أن يثبتوا على حقهم، فهم أولى بالثبات وإن أصيبوا بالمحن والابتلاء، ثم هو درس آخر وملمح مهم ألا تغتر بثبات أهل الباطل في مثل هذه المواقف ينبغي للمسلم أن يكون واثقًا من مبدئه وعقيدته لا تغره مثل هذه المواقف بأنها نوع من الامتحان والاختبار...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، الحمد لله المبدئ المعيد الفعَّال لما يريد، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين وهداية للخلق أجمعين، أخرجنا الله به من الضلالة، وأنقذنا به من الغواية، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته وذريته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم اللهم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي عباد الله بتقوى الله -تبارك وتعالى-، واتقوا ربكم وأنيبوا إليه وتوبوا إليه واستغفروه إنه غفور رحيم شكور ودود.
عباد الله: كان اليهود إبَّان مبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نزلوا في أرض الجزيرة؛ جزيرة العرب التي لم تكن في الأصل من مساكنهم، وإنما توافدوا عليها لسببٍ ألا وهو الطمع في أن يخرج النبي الخاتم من بينهم، فإنه قد جاء في كتبهم أن خاتم الأنبياء سيخرج في أرض الجزيرة، وسيكون مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، ولهذا وُجدت ثلاث قبائل من قبائل اليهود في أرض المدينة التي ينطبق عليها هذا الوصف المذكور في كتبهم.
لم يكونوا يظنون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيكون عربيًّا إنما كان يحسبون أنه سيخرج من بينهم، لكن كان خروجه من هذه البقعة؛ لأن الأنبياء كان أكثرهم من بني إسرائيل، هذه القبائل الثلاث هي قبيلة بني قينقاع، وقبيلة بني النضير، وقبيلة بني قريظة.
تحدِّث صفية بنت حيي بن أخطب أم المؤمنين زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبوها زعيم من زعماء اليهود وطاغوت من طواغيتهم، تقول عن نفسها يوم أن كانت صغيرة: "كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه" من شدة حبهما لصفية.
فلما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجرًا ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، وسمع به أبي وعمي خرج مغلِّسَين في وقت الغَلَس "الفجر"، ولم يرجعا إلا آخر النهار خرجا ليستبينا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولينظرا في أوصاف هذا الرجل الذي يدَّعِي أنه رسول الله.
تقول: "فرجعا في آخر النهار كالَّيْنِ كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، قد بدا الغم والحزن على وجوههما، فأتيت إليهما كما كنت آتي من قبلُ، فلم يلتفتا إليَّ"، لم يهشا في وجهها؛ لأنه قد نزل بهم خَطْبٌ جسيم، هذا الخطب هو أن هذا الذي ذهبوا إليه واستبانوا أمره هو نبي الله حقًّا، وهل هذا مدعاة للحزن، أم هو مدعاة للفرح والسرور؟!
إنه في شأن العقلاء ومريدي الحق مدعاة للغبطة والفرح والابتهاج، لكنه عند هؤلاء الحسدة من اليهود يعني الهم والغم.
تقول: "فالتفت عمي أبو ياسر إلى أبي حيي بن أخطب، فقال له: أهو هو؟"، هل هذا هو الذي نعرفه في كتبنا، قال: "نعم"، قال: "هل تثبتَّ أمره"، طبقت عليه الأوصاف بين كتفيه خاتم النبوة عليه الصلاة والسلام، لا يقبل الصدقة ويقبل الهدية واسمه أحمد، كل الأوصاف قد انطبقت عليه، أهو هو؟ قال: نعم، قال: هل تثبت أمره، قال نعم، قال: "فماذا أنت صانع؟" قال عدو الله: "عداوته والله ما بقيت".
سأعديه، لِمَ؟ وهو رسول الله وأنت تعلم أنه إن كان رسول الله فسينصره الله، فكيف تعادي سيد الأولياء وسيد المرسلين، إنه الكبر والغطرسة، إنه الشموخ والعزة بالإثم كحال كل طاغية في كل زمان ومكان يرى الحق ويعرف دربه، ويعلم أنه مخذول ولكن الشيطان ينفخ في جوفه ويغريه فيدع سبيل الحق والهدى.
فلما قويت شوكة المسلمين وانتشر أمرهم رأى اليهود ومنهم بنو قريظة أن من الحكمة المصالحة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه أمرٌ قد توجَّبَ، فصالحوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت بينهم وبينهم معاهدة على أن يحميهم في المدينة مقابل شيء من المال والجزية، وبشرط أن يعينوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في حربه ضد عدوه وألا يغدروا به ويعينوا عدوه عليه.
هكذا تمت هذه المعاهدة فهل وفَّى اليهود بعهودهم ومواثيقهم؟ كلا، فتاريخهم الماضي والحاضر يشهد بأنهم خونةٌ، وأنه لا ميثاق لهم ولا عهد.
لما حدثت غزوة الخندق وتمالأت العرب قاطبة على النبي -صلى الله عليه وسلم- واشتد الكرب بالمسلمين غدرت بنو قريظة حين أرسل زعيمهم إلى أبي سفيان بن حرب وهو زعيم الأحزاب القبائل من قريش وغيرها من العرب أرسل إليه أن اثبتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم.
لأن الصحابة مع النبي -صلوات الله وسلامه عليه- قد كانوا داخل المدينة، ووضعوا الخندق من أجل ألا يأتي الكفار إليهم فقالو: سنغير عليهم من خلفهم فاثبتوا، إذًا يثبت الكفار والطواغيت بعضهم بعضًا ويناصر بعضهم بعضًا.
ووصل الخبر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبره به نعيم بن مسعود فاشتد الكرب على المسلمين واشتد عليهم البلاء وأتاهم عدوهم من كل جهة (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب: 10- 11].
فكان الوصف كما ذكره الله -سبحانه وتعالى وعز وجل- من البلاء والشدة، ولكن من كان الله معه أتضرُّه قوى الأرض مجتمعة؟! كلا والذي لا إله غيره.
فالله جل جلاله يمسك السماوات بيمينه والأرضين بيمينه ويقول: أنا الملك أنا الملك، فإذا كان الله بهذا الوصف وبهذه القوة أيهابُ المسلمون أعداءهم؟ أيخافون من دول الكفر وما يملكونه من الأسلحة والطائرات والراجمات؟!، ما مقياس هذه الطائرات وهذه الصواريخ في مقابل قوة الله الذي له كل شيء (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ) [آل عمران: 160].
نصر الله المسلمين في الخندق ورد الله كيد الكافرين عليهم فرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منصورًا رافع الرأس معتزًّا بدين الله -عز وجل-.
ثم دخل دار أم سلمة زوجته ليغتسل من وعثاء السفر والمرابطة في سبيل الله -عز وجل- وقد وضع السلاح فجاءه جبريل فقال: "يا محمد أوضعت السلاح؟" قال: "نعم"، قال جبريل: "ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها".
إذاً الملائكة تقاتل مع أولياء وتحميهم وإن لم يرى البشر ذلك وهذا محك من محكات الإيمان بالغيب لا يؤمن به إلا المؤمنون، أما الماديون فلا يؤمنون بهذه الأمور لا يؤمنون إلا بالأشياء المحسوسة.
قال جبريل عليه السلام: "ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وإن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم".
وكانت بنو قريظة على أميال من المدينة قريبة وهذا الكلام كان بعد صلاة الظهر فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤذنًا يؤذن في الناس: "من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة" أمر الله، نعم ولا مناص من أمره فقد رجعوا منذ قليل بعد الحصار الشديد والتعب والمشقة، ولكنه أمر الله فما تخلَّف منهم أحد رضي الله تعالى عنهم وأرضاه.
خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى اليهود ليؤدبهم ليعطيهم درسًا بليغًا بسبب غدرهم بالمسلمين، خرج في ثلاثة آلاف من الأبرار الأطهار -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وأعطى الراية علي بن أبي طالب وخلَّف على المدينة عبدالله بن أم مكتوم ثم خرج عليه الصلاة والسلام وهو في الطريق لقي بعض الصحابة قال هل مر بكم أحد؟ قالوا نعم مر بنا دحية الكلبي أحد الصحابة، فقال عليه الصلاة والسلام: "ذاك جبريل قد بعثه الله إلى بني قريظة ليزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم".
وقد كان جبريل كما تعلمون يأتي أحيانً للنبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة دحية الكلبي.
وصل عليه الصلاة والسلام إلى بني قريظة وقد تحصنوا في حصونهم فحاصرهم خمس وعشرين ليلة وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار وهم في داخل هذا الحصن معهم زوجاتهم وأطفالهم، فلما اشتد بهم البلاء وعظم عليهم الكرب صرخوا بأبي لبابة بن المنذر وهو أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان حليفًا لهم في الجاهلية فنادوه يا أبا لبابة من وراء الحصن، فقال أبو لبابة -رضي الله عنه-: والله لا أخرج إليهم حتى يأذن لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فأذن له النبي -صلى الله عليه وسلم- ليذهب إلى هؤلاء اليهود لينظر ماذا يريدون وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام قد قال لهم: انزلوا على حكمي، اخرجوا من حصونكم على الحكم الذي أريده، لكنه لم يصرح بهذا الحكم، وكان الحكم هو القتل لهم قتل رجالهم وسبي نساءهم وزراريهم لكنه لم يحدث بهذا إلا أصحابه ولو أخبرهم بهذا ما نزل.
فأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي لبابة فدخل إليهم في حصنه فلما دخل إليهم انكب عليه اليهود بنسائهم وأطفالهم وهم يجهشون بالبكاء والنحيب فرقَّ لهم -رضي الله عنه- ورحمهم فقالوا يا أبا لبابة ما ترى في حكم محمد أننزل على حكم محمد؟ فقال أبو لبابة وأشار بيده إلى حلقه قال: نعم، وهذا نوعٌ من الخيانة، قال نعم بلسانه ولكنه أشار بيده إلى حلقه يعني الذبح.
يقول -رضي الله عنه وأرضاه-: "فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله"، رحمهم فحصل منه هذا الخطأ ثم ندم في مكانه وفي ساعته قال علمت أني قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق -رضي الله عنه- على وجهه حزينًا باكيًا كثيرًا، ولم يأتِ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما ذهب إلى المسجد وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وقال: "والله لا أبرح مكاني حتى يتوب الله عليَّ".
ووالله لا أطأ أرضًا في بني قريظة ولله علي عهد أن لا أُرَى في بلد خنت الله ورسوله فيها، هكذا تكون التوبة إقلاع مباشر عن المعصية ثم عزم على توبة صادقة وفعل صالح.
وربط نفسه في هذا المكان وجلس حزينًا باكيًا -رضي الله عنه-، استبطأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا لبابة، قال: أين أبو لبابة؟ قالوا يا رسول الله حصل من أمره كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، ولكن إذ فعل هذا فلا أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما يشاء".
قال ابن هشام وأنزل الله جل وعلا فيه قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
وبقي -رضي الله عنه- قيل ست ليال وقيل عشرين ليلة رابطاً نفسه في المسجد لا يتحرك تأتيه زوجته أوقات الصلوات فتحل قيده فيقوم يتوضأ ويصلي ثم يرجع مرة أخرى.
حتى نزلت التوبة عليه من الله أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، قال الله جل وعلا: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:102].
وعسى من الله واجبة؛ كما قال ابن عباس وغيره، وذكر ابن إسحاق -رحمه الله- أن الله جل وعلا أنزل توبة أبي لبابة على رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في آخر الليل في دار أم سلمة فجعل -صلى الله عليه وسلم- يبتسم ووجه يشرق فرحًا بتوبة الله على أحد أصحابه الكرام.
ثم أخبر أم سلمة بخبر توبة الله على أبي لبابة فقالت -رضي الله عنها- أفلا أبشّره يا رسول الله؟ كانوا حريصين على إدخال السرور لبعضهم، وأيّ سرور أعظم من أن يكون الخبر هو توبة رب العالمين عليك، نسأل الله أن يمن علينا بالتوبة والمغفرة فذهبت إليه وهنأته بتوبة الله، ثم أقبل الصحابة يهنئونه -رضي الله عنه وأرضاه-.
قال ابن إسحاق: ثم نزلت بنو قريظة على حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا مناص من ذلك فتواثبت الأوس جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا يا رسول الله: إنهم كانوا موالين دون إخواننا من الخزرج في الجاهلية، كانوا يواليهم فهبهم لنا يا رسول الله، سامحهم هذه المرة؛ كما فعل الخزرج مع بني قينقاع كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يقتلهم؛ لأنهم أيضًا غدروا كما غدر إخوانه، فجاءه المنافق عبدالله بن أبي ابن سلول وهو سيد من سادات الخزرج، وقال: لا تفعل يا محمد، وأمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- من جيبه وشده، وقال: لا والله لا تفعل، منعوني من الأصفر والأحمر ثم تقتلهم في غداة واحدة؟
فما كان منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن وهبهم له فأراد الأوس أن يفعل هذا أيضًا مع مواليهم من بني قريظة، فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم" يعني من الأوس، قالوا قد رضينا يا رسول الله، قال: فأين سعد بن معاذ؟
سعد بن معاذ هو سيد الأوس -رضي الله عنه وأرضاه-، قال قد جعلت الحكم له يحكم فيهم بما شاء إن شاء عفا عنهم وإن شاء فعل شيئًا آخر، وكان سعد -رضي الله عنه- أصيب في أكحله عرق بسهم أيام الخندق، فكان قد وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- في خيمة لامرأة من بني رفيدة تطببه وتعالجه، كانت قريبة من المسجد يزور عليه الصلاة والسلام في كل وقت فأتي به محمولاً -رضي الله عنه وأرضاه- فقال له أصحابه من الأوس يا أبا عمرو إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ولَّاك أمر مواليك لتحكم فيهم أحسن إليهم، إنما جعل الأمر لك لا تنسى الحلف الذي بينك وبينهم، فقال سعد -رضي الله عنه وأرضاه-: "آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم".
هذا موقف المفاصلة الله ورسوله أحب إليَّ من موالي ومن الغادرين الناكسين للعهود ولو كانت بيني وبينهم صحبة ولو كانت بيني وبينهم مصالح فمصلحة الإسلام مقدمة على كل مصلحة.
فعلم الجميع أنه الذبح، فأتى سعد -رضي الله عنه وأرضاه- وأوقف عند الحصن فالتفت إلى بني قريظة فقال لهم: ترضون بحكمي؟ يشير إليهم، أترضون بحكمي فيكم، قالوا: نعم، وما كانوا يظنون أنه سيحكم فيهم بغير العفو والمسامحة؛ لأنه كان حليفهم، ثم أطرق برأسه ولم يشر حتى برأسه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إجلالاً واحترامًا له، بل أشار بيده وقال: ومن ها هنا ولم يقول أنت يا رسول الله لأنه يرى نفسه أقل من أن يكون بهذا الوصف.
إنما أشار بيده ومن ها هنا فقال -صلى الله عليه وسلم-: نعم، قال: فإن حكمي فيهم أن "تقتل رجالهم وأن تقسم أموالهم وأن تسبى زراريهم ونساؤهم"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".
وكان سعد قد دعا ربه قبل ذلك فقال لما علم بغدر بني قريظة قال: "اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة" فأقر الله عينه.
فأتي بهم جميعا ثم ضربت رؤوسهم واحدًا تلو الآخر، وكان من بينهم العدو الأكبر حيي بن الأخطب هذا الطاغية الذي عادى النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت نهايته هذه النهاية البئيسة، وانظروا ماذا صنع عند موته خرج وعليه حلة قد شقَّها من كل ناحية قدر أنملة، الحلة التي يلبسها وهو الآن يقابل الموت شققها قطعة قطعة أتعرفون لماذا؟ لئلا يسلبها بعد موته، ضَنَّ بها على المسلمين لا يأخذها أحد مشققة بالية.
هكذا يفعل الحقد والحسد والكره بأصحابه، أوتي به مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل"، أي من يخذله الله فهو المخذول.
ثم أقبل على الناس بثبات عجيب، وقال: أيها الناس يخاطب قومه ومن بقي منهم: "إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقَدَر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم تقدم فضُربت عنقه.
هذا الثبات من صاحب الباطل فيه درس لأهل الحق أن يثبتوا على حقهم، فهم أولى بالثبات وإن أصيبوا بالمحن والابتلاء، ثم هو درس آخر وملمح مهم ألا تغتر بثبات أهل الباطل في مثل هذه المواقف ينبغي للمسلم أن يكون واثقًا من مبدئه وعقيدته لا تغره مثل هذه المواقف بأنها نوع من الامتحان والاختبار.
وأنزل الله -جل وعلا- في بني قريظة قوله تبارك وتعالى: (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) [الأحزاب: 26- 27].
اللهم أرنا في أحفادهم عجائب قدرتك وعجِّل بنصر إخواننا في فلسطين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده الداعي إلى رضوانه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى سنته إلى يوم الدين وسلم اللهم تسليمًا كثيرًا.
أما سعد بن معاذ فبعد هذه الحادثة دعا الله -جل وعلا- فقال: "اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئًا فأبقني" لماذا؟ ليناصر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك".
فاستجاب الله دعوته لأنه ليس ثمة حرب بعد ذلك بين النبي وقريش فانفجر جرحه وكان قد برأ حتى لم يرى منها إلا مثل الحلقة الصغيرة انفجر هذا الجرح ورجع به إلى قبته -رضي الله عنه- التي ضربها عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان عليه الصلاة والسلام يحضره خاصة في ساعاته الأخيرة تقول عائشة -رضي الله عنها-: "حضره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي وكانوا كما قال الله فيهم رحماء بينهم".
قال ابن إسحاق: "فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات منه شهيدًا -رضي الله عنه وأرضاه-".
فلما مات هذا الولي الصالح وهذا الصحابي الجليل حدَث حدثٌ عظيم لم يسبق للمسلمين أن سمعوا به أخبرهم به النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك حينما قام عليه الصلاة والسلام من ليلة من الليالي جاءه جبريل فقال: يا محمد! مَنْ رجلٌ من أمتك مات الليلة استبشر بموته أهل السماء؟ فرح أهل السماء لأنها ستلقاه وأن روحه ستصعد إلى الملائكة- فقال: "لا إلا أن يكون سعدٌ فإنه أمسى دنفًا، ما فعل سعد؟"، قالوا يا رسول الله! قد قبض، وجاءه قومه فاحتملوه إلى دارِهم، قال: فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر ثم خرج وخرج الناس، فبتَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناسَ مشياً -أي أتعب الناس وأجهدهم- حتى إن شسوع نعالهم لتَقَطَّع من أرجلهم، وإن أرديتهم لتسقط عن عواتقهم، فقال رجل: يا رسول الله! بتتَّ الناس؟ يعني أتعبت الناس من المشي والسرعة.
فقال: " إني أخشى أن تسبقنا إليه الملائكة كما سبقتنا إلى حنظلة "، فحضره رسول الله - -صلى الله عليه وسلم- - وهو يغسَّل، قال: فقَبَض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركبتيه ولما سئل عن ذلك قال: "لقد دخل ملك من الملائكة ليشهد تغسيل سعد ولم يجد مكانا فقبضت ركبتي حتى أوسِّع له".
هكذا تكون منزلة أولياء الله يقول عليه الصلاة والسلام: "لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" اهتز لماذا؟ فرحًا بمقدمه واستبشارًا بمجيئه؛ لأنه كان مناصرًا لله ولرسوله؛ لأنه قدم نفسه وماله وكل ما يملك فداءً لدين الله -تبارك وتعالى-، فمن كان مع الله كان الله معه ومن خذل الله خذله الله.
أقارن بين موقف حيي بن أخطب وبين موقف سعد بن معاذ -رضي الله عنه وأرضاه-، إنه نصر الله لأوليائه فانصروا ربكم، انصروا دينه، أقيموا شريعة الإسلام، احرصوا أن تكون لكم آثار في هذه الأرض يذكركم الناس من بعد موتكم بالخير وتذكركم ملائكة السماء وتستبشر بكم فرحًا وسرورًا.
أسأل الله أن يستعملني وإياكم في طاعته..