الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ومن النفوس نفوس أبية، لا تذل إلا لله تعالى، ولا تخنع لسواه، ولا تتنازل عن الحق مهما كلفها الأمر، فتصبر وإن اشتد بها الابتلاء، وتتابع عليها الأذى؛ فعاقبة صبرها تمكين في الأرض، وفوز برضا الرب جل وعلا، وإن في أرض الشام المباركة لمشاهد للإيمان ومتانة الدين، ومقابلة شدة البلاء بالصبر واليقين، مشاهد تأخذ بالألباب، وتدعو للإكبار والإعجاب ..
الحمد لله العليم الحكيم و(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ) [الملك:1-2] نحمده في العافية والبلاء، ونشكره على السراء والضراء، فلا يُقدر على عباده إلا ما تكون عاقبته خيرا لهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل خلقه شاهدا على وجوده وقدرته، نصب الأدلة على ربوبيته وألوهيته، وابتلى عباده بدينه وطاعته (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود:7] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى بالحق، وجعله ابتلاء للخلق، وخاطبه سبحانه فقال: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم –عباد الله- بتقوى الله تعالى؛ فإنها زينة في الرخاء، ونجاة في البلاء، وعدة للشدة، وذخر للكربة (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) [الطَّلاق:2].
أيها الناس: الابتلاء سنة لله تعالى ماضية، وحكمة من حكمه باهرة، ومحنة للعباد قاطعة، يُقطع بها صدق العباد أو كذبهم، ويُميز بها الخبيثَ من الطيب، وبها يعلم الشكور والكفور، والصبور والجزوع.
يدعي كثير من الناس قوة الإيمان والدين، ويظهرون تحليهم بالصبر واليقين، ويظنون من أنفسهم شكرا على نعم تسبغ عليهم، ورضا بمصائب تحل بهم؛ فإذا نزل البلاء تمايز الناس، وظهروا على حقيقتهم، وانكشف غطاء قلوبهم، فعُرف قدر ما فيها من صلابة الإيمان وقوة اليقين.
وفي القرآن قُرن ذكر الابتلاء بخلق الإنسان؛ ليعلم العبد أنه منذ وجد وهو في ابتلاء إلى أن يموت، وأن تكليفه بالدين ابتلاء، وأنه في سيره إلى ربه سبحانه يعيش مرحلة ابتلاء (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2-3].
إن هذه الدنيا ميدان البلاء؛ لتكون الآخرة جزاء على الابتلاء وذلك أن الله تعالى خلق الحياة للابتلاء، وخلق الموت للبعث والجزاء (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف:7] ولولا ما في الدنيا من زينة الشهوات وما في النفوس من ميل لها لما كانت ابتلاء للعباد (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) [آل عمران:14] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَكْثَرَ ما أَخَافُ عَلَيْكُمْ ما يُخْرِجُ الله لَكُمْ من بَرَكَاتِ الأرض، قِيلَ: وما بَرَكَاتُ الأرض؟ قال: زَهْرَةُ الدُّنْيَا رواه الشيخان.
وهذا ابتلاء السراء الذي قلَّ في الناس من يشكره (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13] وكان سليمان عليه السلام ممن بُلي به فعرف أنه ابتلاء فشكر وقال (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40] وقال عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي الله عنه: ابْتُلِينَا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فلم نَصْبِرْ. وهذا من تواضعه رضي الله عنه، وإزرائه على نفسه، وإنما أراد مزيدا من الشكر، ولا نحسبه إلا من الشاكرين، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة.
ويبتلى العبد بثقل الطاعة ومشقتها؛ كما ابتلي الخليل عليه السلام بأثقل شيء على النفوس وهو ذبح ابنه على كبر فاستسلم لأمر الله تعالى واستجاب (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ) [الصَّفات:104-106] فكانت حكمة التكليف مترددة بين الابتلاء والامتثال.
ويبتلى العبد بالمعصية لتستخرج منه التوبة؛ كما استخرجت من أبينا آدم عليه السلام بذنبه (وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [طه:121-122] ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إلى الله سبحانه لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه؛ فالتوبة هي غاية كمال كل آدمي كما كان كمال آدم بها.
ويبتلى العبد بالضراء في نفسه أو ماله أو ولده (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [آل عمران:186] فأرشد سبحانه إلى مقابلة ذلك بالصبر والتقوى؛ فبالصبر يتجرع ألم المصيبة، وبالتقوى يثبت على الإيمان (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران:186] وفي آية أخرى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155]، وبهذا الابتلاء يُستخرج من قلب العبد الإيمان بالقضاء والقدر، فيزاد إيمانه بالرضا والتسليم؛ ويستخرج من صاحبه الدعاء والاستكانة والخشوع، ويكسر ما في قلبه من الكبر والعلو والغرور (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42] فيا له من ابتلاء ما أعظمه! وما أكثر أجره! (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11].
وقد يكون هذا الابتلاء عقوبة على ذنوب (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:163] وبسبب هذا البلاء قد يرجع المذنبون إلى ربهم سبحانه وتعالى، فيمحو أثر ذنوبهم، ويزيل درنها من قلوبهم، إلا من جهل منهم حكمة الابتلاء، واستكبر عن عبادة مولاه، فلا يزيدهم الابتلاء إلا صدودا عن الحق، واستكبارا على الخلق (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76].
ولقد ذكر الله تعالى الابتلاء بالسراء والضراء على أنه من سننه في عباده، وجمع بينهما في قوله تعالى (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف:168] وقوله سبحانه (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]
ويبتلى العبد بماله وأهله وولده (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال:28] وابتلاؤه بهم يكون فيما يجب عليه من الحق لهم، وقد يقصر فيه فيأثم، وفي حرصه الزائد عليهم، فيضيع حق الله تعالى من أجلهم، وهذا كثير في الناس، وصورته واضحة فيمن يجمعون المال من حله وحرامه؛ ليؤمنوا مستقبل أهلهم وأولادهم بهلاك أنفسهم وعذابهم، والواحد من هؤلاء يكون أهله وولده أعداء له على الحقيقة؛ كما في قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن:14].
وأصحاب الولايات في ابتلاء عظيم بإقامة شرع الله تعالى في ولاياتهم، والحكم بالعدل في رعاياهم، كما أن رعاياهم مبتلون بالسمع والطاعة لمن أقام حكم الشريعة فيهم، وبرهان ذلك أن داود عليه السلام لما حكم بين الخصمين علم أنه قد ابتلي بذلك (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) [ص:24-25].
والناس يُبتلى بعضهم ببعض، في تفاوت أرزاقهم، ورفعة درجاتهم، فمنهم من يرضى ويقنع، ومنهم من يسخط ويطمع (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ) [الأنعام:165] وهذا التفاوت بينهم اعتلى أعلى درجات الابتلاء حتى صار فتنة للناس، فأكثر ما يسفك من الدماء، ويستحل من الحرمات بسببه.
ويبتلى الناس بعضهم ببعض في أديانهم ومذاهبهم وأفكارهم (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ) [المائدة:48] فأهل الحق يدعون غيرهم لما عندهم من الحق، وأهل الباطل يفتنون الناس عن الحق بباطلهم، وهذا أعظم ابتلاء في الأرض؛ لما يسببه من فتنة القلوب وزيغها إلا من ثبته الله تعالى على الحق (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [الأنعام:53] (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان:20].
وفتنة أهل الباطل لأهل الحق تصل إلى حد استحلال دمائهم وأموالهم، وانتهاك أعراضهم، وأذيتهم في دين الله تعالى بالقول والفعل (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2-3].
وهذا البلاء الذي يصيب أولياء الله تعالى بأيدي أعدائه مراد لله تعالى، وهو من مقتضيات حكمته سبحانه، وفيه برهان الإيمان واليقين، حين يجود الإنسان بنفسه وماله لله تعالى (وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد:4] وهو ابتلاء تكفر به الذنوب، وترفع الدرجات، وتنال الجنة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142].
نسأل الله تعالى أن يعافينا من شر البلاء، ومر القضاء، وأن لا يبلونا إلا بالتي هي أحسن، وأن يثبتنا إذا ابتلانا، إنه سميع قريب.. وأقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:123].
أيها المسلمون: سنة الابتلاء هي سلم التمكين، يشتد البلاء بمن أراد الله تعالى لهم التمكين حتى يبلغوه، فلا تمكين بلا ابتلاء. وأتباع موسى عليهم السلام ما مكن لهم في الأرض، وفضلوا على من قبلهم من الخلق، إلا لما ابتلوا ابتلاء شديدا، وعذبوا بيد فرعون وجنده عذابا أليما، فصبروا مع موسى على الحق، فمكن الله تعالى لهم في الأرض (وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) [الأعراف:137] وفي مقام آخر قال الله تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) [القصص:5-6].
وفي آية التمكين (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور:55] فدلت الآية على أنهم قبل التمكين كانوا خائفين بسبب دينهم؛ لأنهم يضطهدون بسببه، وهذا هو الابتلاء.
وسئل الشافعي رحمه الله تعالى: أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى، والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم.
ومن تأمل حال المسلمين في الأرض يجد أنهم منذ عقود قد ابتلوا في دينهم ابتلاء عظيما، وأوذوا بسببه أذى شديدا، فالكفار والمنافقون يؤذونهم بالسخرية من ربهم سبحانه وتعالى، وبنبيهم صلى الله عليه وسلم، ويهزءون بشعائر دينهم، ويمنعونهم من إقامة فرائضهم التي أوجبها الله تعالى عليهم، ويجرونهم إلى المحرمات، وينشرون فيهم المنكرات، ويؤذون من يحتسب لله تعالى فينكر المنكر، ويضطهدونه في دين الله تعالى، ويكافئون من يتفلت من دينه، ويبدل شريعة ربه، ويحل حرامها، ويسقط واجبها؛ ممن يشترون بعهد الله تعالى وأيمانهم ثمنا قليلا.
فمن النفوس نفوس ضعيفة خوارة في الحق، سريعة إلى الإثم، سباقة إلى لعاعة الدنيا وزينتها، تبتغي الجاه والمال بالإثم، وتبتاع الدنيا بالآخرة..فليس أهلها أهل تمكين؛ لأنهم ما جاوزا الابتلاء بحسن الاختيار.
ومن النفوس نفوس أبية، لا تذل إلا لله تعالى، ولا تخنع لسواه، ولا تتنازل عن الحق مهما كلفها الأمر، فتصبر وإن اشتد بها الابتلاء، وتتابع عليها الأذى؛ فعاقبة صبرها تمكين في الأرض، وفوز برضا الرب جل وعلا، وإن في أرض الشام المباركة لمشاهد للإيمان ومتانة الدين، ومقابلة شدة البلاء بالصبر واليقين، مشاهد تأخذ بالألباب، وتدعو للإكبار والإعجاب..
قوم عزل تسلط عليهم عبدة الجبت والطاغوت، ففتنوهم في دينهم، واستباحوا دماءهم، وآذوهم في أولادهم، وسطوا على أموالهم، وانتهكوا أعراضهم، وشردوهم من ديارهم، ونكلوا بهم أشد تنكيل، فقابلوا ذلك بالإيمان والتسليم، ورفعوا أصواتهم بالتوحيد والتكبير، يعلنون أنهم لن يذلوا إلا لله وحده لا شريك له، وتالله لن يضيع الله تعالى أجرهم، ولن تذهب دماء الصالحين منهم، وسيمكن لهم في الأرض كما مكن للمستضعفين من قبلهم.. إنه ابتلاء لهم ولكم، ولكل المسلمين من دونهم، وللعالم بأجمعه، ابتلاء يؤجر فيه من يؤجر، ويأثم فيه من يأثم؛ فمن أنكر جرائم النصيريين والبعثيين، ونصر المستضعفين فقد سلم، ومن رضي وتابع أثم، فالدعاء الدعاء لإخوانكم؛ فإنهم مبتلون بكم، كما أنكم مبتلون بهم، فجاوزا الابتلاء بما يرضي الله تعالى، ولا تلتفتوا لرضا البشر، فإن مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهُ وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ الِلَّهِ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ.
وصلوا وسلموا على نبيكم..