المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن من المعروف لدى الجميع أن لغة الضمانِ تجد في أوساط الناس اهتماما بالغا، وعناية كبيرة، في بيعهم وشرائهم وعموم تجارتهم، فليست السّلع المضمونة والبضائع التي عليها ضمانات في المكانة لدى الناس كالسلع التي ليس عليها ضمان، وهذا يؤكد شدة اهتمام الناس بالشيء المضمون أكثر من غيره من ما ليس كذلك، على تفاوت كبير فيها من حيث مصداقيتها؛ ولهذا يشتد اهتمام الناس أكثر إذا كان صاحب الضمان معروفا بالصدق ..
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيّها المؤمنونَ عِباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية، فإن تقوى الله -جل وعلا- هي خير زاد يبلِّغُ إلى رضوان الله، وهي عنوان السعادة، وسبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
عباد الله: إن من المعروف لدى الجميع أن لغة الضمانِ تجد في أوساط الناس اهتماما بالغا، وعناية كبيرة، في بيعهم وشرائهم وعموم تجارتهم، فليست السّلع المضمونة والبضائع التي عليها ضمانات في المكانة لدى الناس كالسلع التي ليس عليها ضمان، وهذا يؤكد شدة اهتمام الناس بالشيء المضمون أكثر من غيره من ما ليس كذلك، على تفاوت كبير فيها من حيث مصداقيتها؛ ولهذا يشتد اهتمام الناس أكثر إذا كان صاحب الضمان معروفا بالصدق، متحليا بالوفاء والأمانة، وكانت الأمور التي ينال بها الضمان أمور يسيرة سهلة لا تلحق الناس شططا، ولا تكلفهم عنتاً.
عباد الله: فكيف إذا كان الضامن هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الصادق المصدُوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؟ وكيف إذا كان المضمون جنّةٌ، جنة عرضها كعرض السماء والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ وكيف إذا كانت الأمور التي ينال بها الضمان أمورا سهلة، وأعمالا يسيرة لا تتطلب جهدا عظيما، ولا كبير مشقة؟.
فتأمّلوا -رعاكم الله- نص هذا الضمان العظيم، روى الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وغيرهم، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتُمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم"، حديث صحيح.
عباد الله: إنه ضمان بضمان، ووفاء بوفاء، اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنّة، ستة من الأعمال ما أيسرها! وأمور من أبواب الخير ما أخفها وأسهلها! من قام بها في حياته وحافظ عليها إلى مماته فالجنة له مضمونة، وسبيله إليها مؤكدة مأمونة، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:31-35].
عباد الله: فأما الأول من هذه الخصال فهو الصدق في الحديث، فالمؤمن صادقٌ في حديثه، لا يعرف الكذب إليه سبيلا، ولا يزال محافظا على الصدق في حياته إلى أن يفضي به صدقه إلى الجنة، وفي الحديث: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البرّ، والبرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكْتَب عند الله صدِّيقا".
وأما الخصلة الثانية فهي الوفاء بالوعد، والالتزام بالعهد، وهي سمة من سمات المؤمنين، وعلامة من علامات المتقين، فهم لا يعرفون خُلْفا في الوعود ولا نقضا للعهود؛ والوفاء صفة أساسية في بنية المجتمع المسلم، حيث تشتمل سائرَ المعاملات، فالمعاملات كلُّها، والعلاقات الاجتماعية جميعها، والوعود والعهود تتوقف على الوفاء، فإذا انعدم الوفاء انعدمت الثقة، وساء التعامل، وساد التنافر.
وأما الخصلة الثالثة -عباد الله- فهي أداء الأمانة، وهي من أعظم الصفات الخلقية التي مدح الله أهلها، وأثنى على القائمين بها، وهي من كمال إيمان المرء، وحسن إسلامه، وبالأمانة -عباد الله- يُحْفَظُ الدين، وتحفظ الأعراض والأموال والأجسام والأرواح والعلوم، وغير ذلك، وفي الحديث، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " المؤمن مَن أمِنَهُ الناسُ على دمائهم وأموالهم"، وإذا سادت الأمانة في المجتمع، عظم تماسكه، وقوِيَ ترابطه، وعمّ فيه الخير والبركة.
وأما الخصلة الرابعة -عباد الله- فهي حفظ الفروج، أي مِن أن تفعل الحرام أو تقع في الباطل، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون:5-7]، وفي حفظ الفروج -عباد الله- حفظٌ للنسل، ومحافظة على الأنساب، وطهارةٌ للمجتمع، وسلامةٌ مِن الآفات والأمراض، ودخولٌ والتزامٌ بطاعة رب العالمين.
والخصلة الخامسة من هذه الخصال العظيمة هي غض البصر، أي من النظر إلى الحرام، والله -جل وعلا- يقول: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا...) [النور:30-31].
وغض البصر -عباد الله- فيه فوائد عظيمة، فهو يورث العبد حلاوة الإيمان، ونورَ الفؤاد، وقوّة القلب، وزكاء النفس، وصلاحها؛ وفيه وقايةٌ من التّطلع للحرام، والتشوّف للباطل.
وأما الخصلة السادسة، فهي كفّ الأيدي، أي من إيذاء الناس أو الاعتداء عليهم أو التعرض لهم بسوء، والمؤذي لعباد الله يمقته الله ويمقته الناس وينبذه المجتمع، وهو دليل على سوء خُلُقه وانحطاطِ أدبه، وإذا كفَّ الإنسان أذاه عن الناس دلّ ذلك على نبيل أخلاقه، وكريم آدابه، وطيب معاملته؛ وحظي بعظيم موعود الله -جل وعلا- في ذلك.
فكيف -عباد الله- إذا سما خلق الإنسان، وعظم أدبه، ولم يكتفِ بذلك حتى بذل نفسه في إماطة الأذى عن سبيل المؤمنين وجادّتهم؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مرّ رجل بغصن شوك على ظهر الطريق، فقال: والله لأنحيّن هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة".
عباد الله: فهذه أبواب الجنة مشْرَعة، ومناراتها ظاهرة وسبيلها ميسرة، فلنغتنم ذلك قبل الفوات، ولنستكثر لأنفسنا من الخير قبل الممات، ونسأل الله -جل وعلا- أن لا يكلنا وإياكم إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يعيننا على تحقيق خصال الخير وتتميمها، والبعد عن خصال الشر والإعراض عنها، إنه تبارك وتعالى خير المسؤول، ونعم المرجوُّ، ونعم المـــُعين!.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن مسؤولية الآباء عن الأبناء عظيمة، وواجبهم اتجاههم كبير، فعنهم يُسألون يوم القيامة، كلُّ أب يسأل عن أبنائه يوم القيامة عندما يقف بين يدي العظيم سبحانه، فلا بد عباد الله، من العناية بتربية الأبناء، وتأديبهم، وملاحظة أخلاقهم وسلوكهم ومعاملتهم، والحرص على تنشئتهم تنشئة صالحة على الالتزام بكتاب الله واتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحذر من رديء الأخلاق، وسفساف الأمور.
عباد الله: وقد يجهل بعض الأبناء بعض الخصال الكريمة والخلال العظيمة لأسباب متنوعة ومتفرقة، ويأتي هنا دور الأب والأم في التوجيه والإصلاح والإرشاد والبيان والنصيحة والتحذير، حتى يقوم عود الشاب، ويستقيم على طاعة الله، ويلتزم بأوامره -سبحانه وتعالى-.
ثم عباد الله: إنَّ من أهم ما ينبغي أن يُغرس في نفس الشاب وأن يُغرس في نفوس الأبناء، أن يُعلموا قيمة المساجد ومكانتها وعظم حرمتها ووجوب المحافظة عليها، وأن يحذَروا أشد التحذير من الاعتداء على المساجد بأي نوع من الاعتداء، وبأي نوع من المخالفة.
وقد امتدت أيدي بعض الأبناء في هذا الحي إلى هذا المسجد بكسر بعض الأشياء فيه، وهذه بادرة سيئة من بعض هؤلاء؛ لجهل بالغ، وتصرّف مشين تجاه بيت من بيوت الله تبارك وتعالى، فلنحذر ولْنَتَّقِ الله نحن الآباءَ والأبناءَ، الأب يوجِّه، والأم تبين، والأبناء يتَّقون الله -عز وجلّ- ويتناصحون، ويعرفون لبيوت الله تبارك وتعالى حرمتها ومكانتها، وهذا الخطأ -وإن كان في جانب- قد يكون قليلا، إلا أن عظم المكان وشدة حرمته يدعو إلى التخوف وشدة البيان.
لنتقِ الله تبارك وتعالى في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وأسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا جميعا، نحن الآباء والأبناء، أن يرزقنا جميعا معرفةً بمكانة بيوت الله، ومراعاة لحرمتها، ومحافظة على حقوقها، وأن يبارك لنا جميعا في أبنائنا، وأن يصلح شأنهم، وأن يأخذ بنواصيهم للخير، وأن يجنبهم سبل الردى.
اللهم إنا نتوجه إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، وبأنّك أنت الله الذي وسعت كلَّ شيء رحمة وعلما، يا من بيده مقاليد الأمور، وأزمّةُ كلِّ شيء، نسألك يا حي يا قيوم أن تصلح أبناءنا، وأن تبصرهم بالحق والهدى، وأن تَقِيهم سبل الشر والردى، لا حول لنا ولا قوة إلا بك، فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد غيرك طرفة عين يا ذا الجلال والإكرام.
هذا وصلوا وسلّموا...