البحث

عبارات مقترحة:

الشهيد

كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

الأحد

كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها (2)

العربية

المؤلف بركات أحمد بني ملحم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. أعلى درجة في الجنة .
  2. أدنى درجة في الجنة .
  3. دعوة طلاب الجنة للتشمير .

اقتباس

فشمِّرْ -يا عبد الله- لهذه الدرجات، وكن عاليَ الهمة، فالمؤمن الفطِنُ ينبغي أن يحرصَ على أن يرفعَ درجته في جنةٍ سيخلد فيها أبدا؛ وكما أنَّ كثيراً من الناس لهم طموحاتٌ وهممٌ عالية في أمورِ دنياهم فلا بد أن تكون لهم هممٌ أشَدُّ وأعلى في أمور آخرتهم، فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا عند سؤالنا الجنة أن نسأله الفردوس الأعلى ..

الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعبادة المتقين نزلا، ونوع لهم الأعمال الصالحات ليتخذوا منها إلى الجنة سبلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، واشهد أن محمد عبده ورسوله الذي شمر للحاق بالرفيق الأعلى ولم يتخذ -صلى الله عليه وسلم- سواها مقصدا وشغلا، وعلى آله وصحبة الطاهرين ما تتابع القطر والندى.

يقول -سبحانه وتعالى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) [الزمر:73-75].

يا حبَّذَا الجنةُ واقترابُها

طيِّبَةٌ وباردٌ شرابُها

عباد الله: تكلمنا في الخطبة الماضية عن شيء من نعيم الجنة، عن أوصافها ونعيمها ودرجاتها، ونتكلم في هذه الخطبة عن أعلى وأدنى درجة فيها، ولمن تكون.

أحبتي في الله: أما أعلى درجة في الجنة فهي درجة الوسيلة، ولا تكون الا لرجلٍ واحد هو محمد -صلى الله عليه وسلم-, فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سلوا الله لي الوسيلة، أعلى درجة في الجنة، لا ينالها الا رجلٌ واحد وأرجوا أن أكون أنا هو".

عباد الله: وأما أدنى درجة في الجنة فجاء في رواية لعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن أدنى أهل الجنة منزلة مَن يعطى مثل نعيم الدنيا منذ خلقها الله تعالى حتى أفناها وعشرة أضعاف ذلك، وأن هذا الملك مسيرة مائة عام.

فاقرأ معي هذا الحديث الطويل وتمتع بما فيه من وصف لنعيم أدنى أهل الجنة، متأملاً كرم الله تعالى وقدرته، فما بالك بنعيم الدرجات الأعلى؟ فعن عبد الله بن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يومٍ معلوم قياما أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء".

قال: "وينزل الله -عز وجل- في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي منادٍ: أيها الناس، ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أن يولي كل أناس منكم ما كانوا يعبدون في الدنيا؟ أليس ذلك عدلا من ربكم؟. قالوا: بلى".

قال: "فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويقولون في الدنيا"، قال: "فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، والأوثان من الحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون".

قال: "ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عزيرا شيطان عزير، ويبقى محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته".

قال: "فيتمثل الرب -تبارك وتعالى- فيأتيهم، فيقول: ما لكم لا تنطلقون كانطلاق الناس؟ فيقولون: إن لنا لإلها ما رأيناه بعد، فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: إن بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناها. قال: فيقول: ما هي؟ فتقول: يكشف عن ساقه".

قال: "فعند ذلك يكشف عن ساقه فيخر كل من كان نظره، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إلى السجود، وهم سالمون، ثم يقول: ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم، فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين يديه، ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك، ومنهم من يعطى نورا مثل النخلة بيده، ومنهم من يعطى أصغر من ذلك، حتى يكون آخرهم رجلا يعطى نوره على إبهام قدميه يضيء مرة ويطفأ مرة، فإذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام".

قال: "والرب -تبارك وتعالى- أمامهم حتى يمر في النار، فيبقى أثره كحد السيف". قال: "فيقول: مروا، فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم من يمر كشد الرجل، حتى يمر الذي يعطى نوره على ظهر قدميه، يجثو على وجهه ويديه ورجليه، تخر يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها، فقال: الحمد لله، فقد أعطاني الله ما لم يعط أحدا إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها".

قال: " فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة، فيغتسل فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم، فيرى ما في الجنة من خلل الباب، فيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله: أتسأل الجنة وقد نجيتك من النار؟! فيقول: رب اجعل بيني وبينها حجابا لا أسمع حسيسها".

قال: " فيدخل الجنة، ويرى أو يرفع له منزل أمام ذلك، كأن ما هو فيه إليه حلم، فيقول: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول له: لعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، وأنى منزل أحسن منه؟ فيعطى فينزله، ويرى أمام ذلك منزلا، كأن ما هو فيه إليه حلم، قال: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول الله -تبارك وتعالى- له: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك يا رب لا أسألك غيره! وأنى منزل يكون أحسن منه؟ قال فيعطى منزلة".

قال: "ويرى أو يرفع له أمام ذلك منزل آخر، كأنما هو إليه حلم، فيقول: أعطني ذلك المنزل، فيقول الله -جل جلاله-: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره؟ قال: لا وعزتك لا أسأل غيره، وأي منزل يكون أحسن منه؟! قال: فيعطاه وينزله، ثم يسكت فيقول الله -جل ذكره-: ما لك لا تسأل؟ فيقول: رب قد سألتك حتى قد استحييتك، وأقسمت لك حتى استحييتك، فيقول الله -جل ذكره-: ألم ترض أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها، وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتهزأ بي وأنت رب العزة؟
فيضحك الرب -تبارك وتعالى- من قوله".

قال: فرأيت عبد الله بن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، قد سمعتك تحدث هذا الحديث مرارا، كلما بلغت هذا المكان ضحكت! قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث هذا الحديث مرارا، كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى تبدو أضراسه.

قال: " فيقول الرب -جل ذكره-: لا. ولكني على ذلك قادر، سل. فيقول: ألحقني بالناس، فيقول: الحق بالناس، قال: فينطلق يرمل في الجنة حتى إذا دنا من الناس رفع له قصر من درة، فيخر ساجدا، فيقال له: ارفع رأسك، مالك ؟ فيقول: رأيت ربي -أو تراءى لي ربي- فيقال له: إنما هو منزل من منازلك".

قال: "ثم يلقى رجلا فيتهيأ للسجود له، فيقال له: مه. فيقول: رأيت أنك ملك من الملائكة. فيقول: إنما أنا خازن من خزانك، وعبد من عبيدك، تحت يدي ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه".

قال: " فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر". قال: "وهو من درة مجوفة، سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، تستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء، فيها سبعون بابا، كل باب يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة، كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى، في كل جوهرة سرر، وأزواج، ووصائف، أدناهن حوراء عيناء، عليها سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء حللها، كبدها مرآته، وكبده مرآتها، إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفا عما كانت قبل ذلك؛
فيقول لها: والله! لقد ازددت في عيني سبعين ضعفا. وتقول له: وأنت والله ازددت في عيني سبعين ضعفا! فيقال له: أشرف.فيشرف، فيقال له: ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك".

قال: فقال عمر: ألا تسمع ما يحدثنا ابن أم عبد يا كعب عن أدنى أهل الجنة منزلا ؟ فكيف أعلاهم؟! قال: يا أمير المؤمنين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، إن الله - جل ذكره - خلق دارا جعل فيها ما شاء من الأزواج، والثمرات، والأشربة، ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه، لا جبريل ولا غيره من الملائكة. ثم قال كعب: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.

قال: "وخلق دون ذلك جنتين، وزينهما بما شاء، وأراهما من شاء من خلقه، ثم قال: مَن كان كتابه في عليين نزل في تلك الدار التي لم يرها أحد، حتى إن الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه فلا تبقى خيمة من خيم الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه، فيستبشرون لريحه، فيقولون: واها لهذا الريح، هذا ريح رجل من أهل عليين قد خرج يسير في ملكه".

قال: ويحك يا كعب، إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها، فقال كعب: والذي نفسي بيده إن لجهنم يوم القيامة لزفرة، ما من ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا خر لركبتيه، حتى إن إبراهيم خليل الله ليقول: رب، نفسي، نفسي! حتى لو كان لك عمل سبعين نبيا إلى عملك لظننت أن لا تنجو.

عباد الله: بعض الناس قد يصيبه العجز في مسابقة الصالحين والحذو حذوهم لدنو همته، خاصةً إذا قرأ سيرة كثير من السلف ورأى جهادهم وعملهم ورقيهم في درجات الكمال وشدة محاسبتهم لأنفسهم ومقدار الثواب الذي ينتظرهم إن شاء الله، فيرى أن لا سبيل لمنافسة ذلك القوم.

ولكن ليعلم أن فضل الله أوسع مما يتصور، ورحمته وسعت كل شيء، وأن الجنة إنما هي جنات كثيرة وليست بجنة واحدة، فيها درجاتٌ ومنازل، وأن من سعة هذه الجنات أن الله سينشئ لها خلقا جديدا فيسكنهم في نواحي الجنة.

فروى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة قدمه فينزوي بعضها على بعض وتقول قط قط! بعزتك وكرمك! ولا يزال في الجنة فضلٌ حتى ينشأ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة".

فشمِّرْ -يا عبد الله- لهذه الدرجات، وكن عاليَ الهمة، فالمؤمن الفطِنُ ينبغي أن يحرصَ على أن يرفعَ درجته في جنةٍ سيخلد فيها أبدا؛ وكما أنَّ كثيراً من الناس لهم طموحاتٌ وهممٌ عالية في أمورِ دنياهم فلا بد أن تكون لهم هممٌ أشَدُّ وأعلى في أمور آخرتهم، فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا عند سؤالنا الجنة أن نسأله الفردوس الأعلى.

عباد الله: فلتكن نفس المؤمن تواقة دائماً إلى المعالي، كما كان لعمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- حيث كانت أمنيته الإمارة، فلما أصبح أميراً على المدينة تاقت نفسه إلى الخلافة، فلما قلده الله الخلافة على الأمة الإسلامية تاقت نفسه إلى أعلى من ذلك، إلى ملك لا يبلى، وقرة عينٍ لا تنقطع، إلى الجنة، فزهدَ في الخلافة؛ بل زهد في الدنيا للدرجات الباقيات.

واعلم، يا عبد الله، بأن سلعة الله غالية، وأن نيل أعلى الدرجات لا يكون بالأماني وإنما بالتشمير والاجتهاد والعمل والانقياد، فاعزم على الرقي في هذه الدرجات بالحرص على الأعمال الصالحة.

لا دارَ للمرءِ بعدَ الموتِ يَسكُنُها

إلَّا التي كانَ قَبَلَ الموتِ يَبنيها
فَإِنْ بَناهاَ بخيرٍ طابَ مَسكَنُــــــهُ وإِنْ بناهاَ بِشَرٍّ خابَ بانيهـــا
لا تَركَنَنَّ إلىَ الدُنياَ وزينَتِهــــــا فالموتُ لاَ شَكَّ يُفنيهاَ وَيُبديهـا
واعمَل لدارٍ غَداً رِضوانُ خَازِنِهَا والجارُ أَحمدُ والرحمنُ بانيهـا
قُصورًهاَ ذَهَبٌ والمِسكُ طِينَتُهــا والزعفرانُ حَشيشٌ نابتٌ فيها

الخطبة الثانية: عباد الله، لقد اخطأ كثيرٌ من الناس عندما قرؤوا أحاديث الرجاء واتكلوا عليها وأساءوا فهمها ولم يتسابقوا في الأعمال الصالحة ليرقوا في درجات الجنة، فمنهم من فهم من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من شهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار"، فهم أنه يكفيه من الإسلام الشهادتان فقط، أو أداء أركان الإسلام الخمسة، فتركوا سائر الأعمال الحميدة التي شرعت لرفع درجاتهم في الجنة.

فقد روى معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان، وصلى الصلاة، وحج البيت، إلا كان حقاً على الله أن يغفر له إن هاجر في سبيل الله أو مكث بأرضه التي ولد بها". قال معاذ: ألا اخبر بها الناس؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائه درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض".

فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ذر الناس يعملون"، أي: ذرهم يعملون الصالحات ليجاوزا بالدرجات العليا من الجنة، وهذا أمر مهم يغفل عنه الكثير من الناس الذين علقوا أنفسهم بأحاديث الرجاء، وتقاعسوا عن المسابقة في الخيرات, فقلت حسناتهم، فلم يستحقوا الدرجات العليا من الجنة.